انكسار العاصفة والنفاق الأمريكي
د.حسن أحمد حسن
ساذجٌ من يفكر أن المتغيرات الدراماتيكية في أية منطقة جيواستراتيجية في العالم قد تحدث من دون تدخل مباشر وغير مباشر من القوى الفاعلة على الساحة الدولية ، ومن الطبيعي أن يضع ذاك التدخل في أول سلم اهتماماته خدمة المصالح الحيوية للقوى المتدخلة، ولتحقيق ذلك يأخذ التدخل أشكالا متعددة في كثير من الأحيان تحت عنوان "إدارة الأزمة" في حين يكون المضمون الفعلي لما يحدث هو "الإدارة بالأزمة" وليس "إدارة الأزمة" أي تسويق أزمات مصطنعة واستغلال تداعياتها ، وهذا ما ينطبق بدقة على الدور الأمريكي المفضوح في منع إيجاد حل سياسي يحافظ على سيادة الدولة السورية ويضمن الخروج أتون حرب أمريكية تخوضها سورية منذ عامين في مواجهة دول وتكتلات سياسية واقتصادية وإعلامية وعسكرية أخذت على عاتقها تأمين الوقود اللازم لاستمرار اشتعال النار في الداخل السوري ، والعمل بكل السبل لتفتيت الدولة الوطنية السورية تمهيداً لتفتيت المنطقة برمتها وإعادة رسم خارطتها الجيوسياسية بما يتناسب وتطور مصالح القوى الساعية لبسط النفوذ والهيمنة على العالم برمته، لكن من قال إن منطق التاريخ والجغرافيا يسلّم بانتصار قوى العدوان والاستكبار؟
والى أين تتجه الأمور إذا استطاعت الدولة المستهدفة الإمساك بزمام المبادرة ورفضت المساومة على الكرامة والسيادة؟ وماذا لو طال أمد المواجهة وعجز صناع الحروب وتجار الدم عن كسر إرادة الشعب وقيادته؟ وهل بإمكان أطراف العدوان المتآمر الاستمرار بالتكاذب وتسويق الأوهام والأمنيات على أنها حقائق إلى مالا نهاية ؟
]القاطرة الأمريكية والانعطاف الحتمي :
توزيعُ الأدوار أمرٌ أساسي ولا غنى عنه في أية مواجهة مركبة, وبخاصة عندما تكون تداعياتها تتجاوز الجغرافيا العسكرية ومسارح العمليات القتالية القائمة إلى مسارح الاستراتيجيات المفتوحة و الفضاءات المتداخلة للقوى العالمية وأسس توازناتها التي تتحكم بالقرار الدولي المبني أساساً على تلك التوازنات، وهنا تختلط القراءة على أصحاب الأدوار الهامشية والثانوية ، فكثيراً ما تأخذهم الحميّة الآنية والنشوة العابرة فيتسلقون بخفة وحماقة أعالي الشجرة ، ويتمسكون بأغصان ضعيفة متناسين أن أي اشتداد في منسوب الرياح كفيلٌ بإسقاطهم وتحطيمهم مع أحلامهم الصبيانية ، وشتان بين السياسية والانقياد للساسة ، وهذا ما ينطبق بدقة على الدور التركي بحماقاته غير المحسوبة, وكذلك الدور الخليجي المنتفخ استناداً إلى مفرزات البترو- دولار, والتحكم بمنظمة الجامعة العربية وتحويلها إلى جانحة عربية وحانة صهيونية .
المتابع لما يجري من أحداث في سورية منذ عامين يدرك أن الصمود السوري كسر العاصفة التي أرادت اقتلاع دول المنطقة وتشويه معالمها لفرض الفوضى الهدامة عليها ، ويدرك أيضاً أن انكسار هذه العاصفة بدأ يأخذ مفاعيل رجعية تغير قواعد اللعبة المفروضة بفعل هستيريا الانتصار الزائف الذي اجتاح دولاً عربية في زمن قياسي وفرض واجهات دينية أخذت مسميات عدة وهي في جوهرها عملة واحدة بمظاهر مختلفة ، وما الاضطراب الذي يعصف بمصر إلا البداية الموضوعية لانقلاب الصورة والمشهد العام بفضل الصمود الأسطوري لسورية شعبا وجيشا وقيادة.
عامان كاملان وسورية تتعرض لأقذر أنواع الحروب شبه الكونية وأشرسها ... عامان من الإرهاب العالمي الممنهج بكل أنواعه وألوانه وتداعياته لأخذ سورية وتفتيتها, لكن سورية أثبتت أنها أصلب عوداً وأشد عزيمة وأمنع وأحصن من أن يغير معالمها إعصارٌ عابر, وإن ضّم في مكوناته جميع قوى البغي والشر والعدوان.. عامان من الألم والمعاناة والصبر والمصابرة والصمود والمقاومة ورسم معالم الانتصار.. عامان من التآمر والخيبات المتتالية التي ألمت بأطراف التآمر والعدوان قادة ومرؤوسين، ولم يعد أمام من يقود قاطرة هذه الحرب شبه الكونية على سورية إلاّ المناورة لضمان الانعطاف بأقل خسائر ممكنة, بعد أن تأكد أن قضبان السكة الحديدية وصلت نهايتها, وأمام من يقود القطار أمران لا ثالث لهما إمّا الاصطدام بالجبل الصواني، وإمّا التوقف ومحاولة العودة إلى الوراء قليلاً لضمان إمكانية الانعطاف وهذا هو التفسير الوحيد للسياسة الأمريكية ، فالقاطر الأمريكي يدرك مشغله أن عدد العربات التي يجرها كبير، وهو بحاجة إلى انعطاف مدروس ليضمن عدم انقلاب العربات، وبالتالي يخيل للمتابع حركة القطار بعرباته المتعددة أن العربات التي في المؤخرة ما تزال باندفاعها بالاتجاه ذاته، وهذا صحيح لكنها في نهاية المطاف هي مرتبطة برأس القاطرة الذي انعطف منذ فترة وهو الآن في طريق الرجعة، وقلة من هم القادرون على تحديد المحطة التي ستوقف فيها.
نعم المايسترو الأمريكي هو الذي يقبض على جميع الخيوط، وضابط الإيقاع الأمريكي هو الذي يوزع الأدوار بين رئيسي وثانوي وهامشي، وهو الذي يوزع مهام الضغط على سورية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهو الذي يقرر متى يتوقف ذلك, وكيف, وفي ضوء هذا يمكن فهم النفاق الأمريكي وتوزيع الأدوار بين مسؤولي الإدارة الأمريكية وأتباعها, وهذا لا يغير من حقيقية الأمر شيئاً, لأن ما يتحكم في هذه الحرب المفتوحة بالدرجة الأولى نتائج الميدان، وهذه النتائج حسمت موضوعياً بالزمن وبعدد النقاط ، ولأن سورية ومن معها لا يحبذون الاحتكام إلى الضربة القاضية لأنهم يتقنون متطلبات الحرب المفتوحة ولأن منطلقات السياسة والاستراتيجيا تؤكد أن المعادلات الصفرية في الحروب الحديثة لا وجود لها, وأن الحروب ما هي إلا مقدمات لتسويات ترتكز على موازين القوى الذاتية والممكنة.. ولأن أية تسوية تطلب استمرار الحرب بأشكال أخرى, لذلك تمسكت سورية بأمرين الحوار الوطني ومحاربة الإرهاب. لقد أرادوا أن يستنزفوا سورية على امتداد عامين فاستنزفوا مصداقيتهم وإمكانياتهم وأساليب ضغطهم السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية ... أرادوا تفتيت سورية فتفتت أحلامهم وتناثرت أوهامهم وبقيت سورية صامدة عصية على التذويب أو التهميش.. أرادوا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وبث الروح في الفكر الظلامي التكفيري فجاءت النتيجة معاكسة وازداد أنصار الحرية وإنسانية الإنسان تمسكاً بإرادة الحياة الحرة الكريمة.. عقارب الساعة سارت بسرعة تفوق تصور أكثر المقاتلين والنتيجة الأبرز هي تأكد انهيار الأحادية القطبية وبداية تبلور عالم عنوانه الأبرز: تعدد الأقطاب.
التناقض والتكامل :
في ظل هذا الفهم لتداعيات الصراع بشموليته يمكن فهم التناقض في التصريحات الأمريكية وتكاملها مع تصريحات بقية أطراف العدوان وبخاصة تركيا وفرنسا وبريطانيا وأعراب الخليج ، وهنا لا بد من التذكير بأن أهم محددات الإستراتيجية الأمريكية ترتسم في خطاب الرئيس الأمريكي مع بداية ولايته ، والعنوانان البارزان في خطاب أوباما في ولايته الثانية هما:
1 – انتهاء عقد من الحروب والتوجه نحو السلام والاستقرار.
2 – الانكفاء الخارجي الأمريكي, والاهتمام بقضايا الداخل الأمريكي.
هذان هما العنوانان الأساسيان وكل ما دونهما في أحسن الأحوال لا يتجاوز موضوع التكتيك الذي يسخّر لخدمة الإستراتيجيا الأمريكية التي حافظت على أهدافها الرئيسة, وأجرت بعض التعديل على أساليب التنفيذ, ولا شك أن تبديل ثالوث الفاعلية في إدارة أوباما يؤكد حرص البيت الأبيض على إحداث استدارة ما في أولويات الإستراتيجية الأمريكية, إلا أن التصريحات التي صدرت عن جون كيري في أول جولة له أظهرت عكس ذلك فالعدوانية الأمريكية تجاه سورية بعامة وتجاه شخص السيد الرئيس بخاصة أخذت منحى تصاعدياً, ثم عاد كيري ولعق تصريحاته دفعة واحدة عندما تحدث عن ضرورة جلوس ما أسماه المعارضة إلى طاولة السيد الرئيس بشار الأسد للحوار لكن الأمر لم يطل حتى تنصلت الناطقة باسم الخارجية الأمريكية / نولاند / مما قاله كيري وعادت لدس الأنف الأمريكي المشؤوم في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة وعضو في المنظمة الدولية, وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة, ومنها:
1- عندما تتحدث واشنطن عن نية تسليح ما لهذا المسمى أو ذاك من المجموعات المسلحة وتتساوق لندن وباريس مع هذا الطرح وترفعان السقف فهذا يعني أن التسليح المطلوب قد تم وانتهى, وساحات المواجهات الميدانية تؤكد ذلك, حيث تستخدم العصابات الإرهابية المسلحة مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة بما في ذلك مضادات الدروع والصواريخ المضادة للطائرات , وبالتالي التهديد بالتسليح هو جزء من الحرب النفسية التي تهدف إلى التأثير سلبياً على الروح المعنوية للمقاتل بخاصة للمواطن العربي السوري عسكرياً و مدنياً, كما تهدف إلى رفع الروح المعنوية للمسلحين الذين يعانون من انهيارات حادة جراء الإخفاقات الميدانية المتتالية.
2- انقضاء عامين على هذه الحرب غير المسبوقة يؤكد استنفاد أطراف العدوان كل ما لديهم من وسائل وأساليب, وقد أخفق كل ذلك في النيل من صمود سورية وقدرتها على الدفاع عن مقومات السيادة والكرامة.
3- الحضور العسكري الروسي غير المسبوق في مياه المتوسط يؤكد أن قواعد الاشتباك التي فرضتها الحرب الباردة قد انتهت ، و المساومة على تغيير الموقف الصيني – الروسي – الإيراني ضرب من الجنون والهستيريا السياسية.
4- عربان الخليج الذين تخلوا عن كل الأقنعة وأظهروا حقيقتهم المرتبطة بالصهيونية باتوا على قناعة بأن عروشهم تهتز, ولحظة إعلان انتصار سورية يعني استبدال الأوراق الأمريكية المحروقة لبدء عصر جديد بعلاقات دولية جديدة.
5- ما دفعته سورية عبر عامين غالٍ وغالٍ جداً لكنها الضريبة التي لا بد منها للحفاظ على الوطن واستقلالية قراره الوطني الكفيل بتغيير معالم المنطقة برمتها.
وباختصار شديد يمكن القول : لم يبق لدى أعداء سورية ما يزيدها ألماً، في حين لديها الكثير مما يؤلم أصحاب الرؤوس الساخنة والكبيرة ، وأولئك يدركون هذه الحقيقة ، واستناداً لهذا الإدراك كان الانعطاف الأمريكي ، أما الأصوات التي تعلو فرنسية كانت أم بريطانية أم تركية أم مستعربة أم أدوات تنفيذية فسرعان ما تخبو عندما تشير واشنطن بطرف البنان ، ويبقى السؤال الجوهري : هل يدرك المعتوه أردوغان السلجوقي وزبانيته من أعراب الخليج ماذا ينتظرهم بعد خروج سورية منتصرة من هذه الحرب؟ وهل يعي من ما يزال يحمل السلاح في سورية نتائج حماقاته بعد أن اتضحت الصورة بكليتها، وهي تؤكد أمراً جوهريا واحداً عنوانه : الإخفاق المدوي في استهداف سورية، والنصر السوري القادم وهو قاب قوسين أو أدنى ؟