الحقيقة الضائعة بين التدليس البحثي والتضليل الإعلامي

الحقيقة الضائعة بين التدليس البحثي والتضليل الإعلامي

مؤسف حقا أن يقع بعض الكتاب والباحثين المرموقين فريسة آفة خطيرة تهيمن على الأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجية التي تعنى بشؤون المنطقة ألا وهي المساواة بين الضحية والجلاد أو وضع العدو والصديق في سلة واحدة لكأني بهم يخشون قول الحقيقة المطلقة التي لا تروق لجمهور عريض من قرائهم خوفا من اتهامهم بالانحياز ، وهي بالطبع تهمة لا تليق بباحث موضوعي أمين ، لكن ما لا يليق به كذلك هو المساهمة في ترويج ثقافة الخضوع للشائعات أو الكليشهات السياسية الظالمة .

هذا الوقوف على مسافة واحدة بين الحق والباطل تحت مسمى الموضوعية بات ممجوجا ومؤلما بل خطيرا جدا في لحظة مفصلية حرجة يتوقف عليها مصير أمة وتتطلب حصحصة الحق الى أبعد مدى و تسمية الأشياء بأسمائها والتوضيح الجلي التام والابتعاد عن التعمية والغموض وقول أنصاف الحقائق ..طبعا نحن هنا نتحدث كما أسلفنا عن الباحثين الذين نحترم لا عن أولئك المرتزقة الذين باعوا البلاد والعباد والضمير بأبخس الأثمان ولوثوا تاريخهم ومهنيتهم بالبترودولار خدمة للمشاريع الصهيو- أميركية ..

إنما نتحدث عن قامات بحثية عالية لا نستطيع إخراجها من قائمة الاحترام مهما اختلفنا معها في هذه المسألة أو تلك ..لكننا نتمنى عليهم ان يخرجوا من لعبة الخلط بين الموضوعية الدافئة التي تعطي لكل ذي حق حقه ، والحياد البارد الذي يطمس الحقائق ويوجه الناس في اتجاهات لا تؤدي الا الى الضلال والالتباس والفهم الخاطىء لما يحدث حولهم وما يترتب على ذلك من مواقف قد تؤدي بل أدت بالفعل الى الخراب في غير موقع ومكان على امتداد الخريطة العربية و”الشرق أوسطية”..

هذا البرود في التعامل مع الملفات الساخنة أو ما نسميه الحياد السلبي هو في الحقيقة لا يخدم الا أعداء الأمة وطموحهم في أن تبقى شعوبنا مضللة ومغيبة عن الحقيقة وذلك من شانه أن يصب في مصلحة المشاريع الاستعمارية في منطقتنا سواء بحسن نية أو من باب الوقوف في منطقة وسطى لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ..

من بين هذه الأساليب والتقنيات الكتابية التي يتبعها أولئك الكتاب المحترمون المبالغة في الحديث عن “لعبة المصالح “…

لا يختلف اثنان على أن السياسة لعبة مصالح والعلاقات بين الدول هي بالتأكيد لعبة مصالح ..

لكن هذه الكلمة الفضفاضة “مصالح ” ماذا تعني بدقة ؟ وما هي درجاتها ؟ وأنواعها ؟ما هي تأثيراتها السلبية والإيجابية ؟ ..ثم هل كلمة “مصالح” تكون دائما بمفهومها النفعي الذاتي الأناني الضيق ؟ أليس في مواقف بعض الدول ” مصالح “هي في الحقيقة مصالح من أجل أهداف وطنية كبرى وحقوق أصيلة لشعوب المنطقة وقضاياها ومستقبلها ؟

لا أحد يجيب حقا عن هذه الاسئلة بل تعميم وعناوين مكثفة لتفاصيل في غاية الأهمية والخطورة ، كلام على عواهنه و خطوط عريضة وكليشهات سياسية دارجة اقتربت من أن تصبح موضة سياسية من يخالفها يبدو متخلفا عن العصر يتحدث “لغة خشبية” جامدة في عصر البراغماتية المرنة التي لا تخلو من انتهازية في أغلب الأحيان ..

ليس المطلوب من الباحثين والمؤرخين بكل تأكيد ابداء وجهات نظرهم الخاصة او اشهار انحيازهم السافربشكل فج لكن يكفي أن يسردوا الوقائع كما هي والحقائق كاملة بخلفياتها التاريخية وأبعادها الجيوسياسية غير منقوصة حتى يتمكن الناس من اتخاذ المواقف التي تناسبهم وتلبيي طموحاتهم وأحلامهم … و ليس أدل على هذه المسألة من الكتابات التي تتحدث عن العلاقات الإيرانية-العربية والتركية-العربية كنموذج صارخ لما نحن بصدد الحديث عنه و بشكل خاص العلاقات الإيرانية المصرية التي سكب على أعتابها حبر كثيف قليله علمي ودقيق وكثيره مشوب بكدر المقاربات الجائرة….

وبالعودة الى مصطلح “مصالح” في حديث مقارن بين مصالح تركية ومصالح ايران في المنطقة ..نجد أن غالبية الباحثين يضعون هذه المصالح على قدم المساواة من حيث البحث عن دور إقليمي في المنطقة دون التوغل في ماهية هذا الدور وحقيقته وأهدافه..

يتحدثون مثلا عن تراجع الدور المصري أو العمل العربي المشترك مما أدى الى تقدم الدور الإيراني لملء الفراغ …حسناً هذا صحيح لكن ملء الفراغ بماذا ؟؟..ان الكوب الفارغ باستطاعتك ان تملأه بماء الحياة أو بالسم الزعاف …فإي الشرابين تسكبه ايران في كؤوسنا ؟ لا أحد يجيب بدقة ..مجرد كلام على ملء الفراغ يضعونه في خانة المصالح .. بالله عليكم ايها الكتاب ماذا نفهم من وراء هذه العموميات الملتبسة ؟؟ وكيف يترك الناس هكذا لتأويلاتهم في لحظة سياسية حرجة من تاريخ أمتنا العربية ؟ ..أكتابة شعرية هي تلك يفسرها كل على هواه أم أبحاث ودراسات سياسية تتوخى الدقة والوضوح والعلمية على أساس من الحقائق والوثائق التي لا لبس فيها ؟

هكذا يطلق الكلام على عواهنه ويكتفى بخطوط عريضة والسباحة على السطح في ما لا يعجبنا و الابحار عميقا في التفاصيل التوضيحية في ما نميل اليه ..

لو نظرنا الى علاقة ايران بالمنطقة منذ انتصار الثورة الإيرانية ودققنا في 30 عاما ونيف مضت ..لا يمكننا الا أن نستنتج أن الدولة التي كانت تسمى شرطي الخليج والتي كانت ترفع علم اسرائيل لم تعد هي الدولة ذاتها لا بقيادتها ولا بشعبها ولا بسياساتها بل اصبحت دولة صديقة بحق ترفع علم فلسطين قولا وفعلا ، لم تتزحزح عن ثوابتها الوطنية يوما بل ربطت مصيرها بمصير الأمة العربية وقضاياها المحقة في مقدمتها القضية الفلسطينية و حملت لواءها ، بعد تحييد مصر ، وطبقت ذلك بالفعل من خلال سياستها الخارجية بشكل عام ودعمها اللامحدود وغير المشروط لحركات المقاومة العربية حيثما وجدت ومقارعتها الدائمة لأميركا واسرائيل ودفعت من أجل ذلك أثمانا باهظة من قوت شعبها الذي يعاني من حصار اقتصادي مجحف وظالم منذ انتصار الثورة ومع ذلك ظلت ثابتة صامدة ..

هل يمكن أن يجيبنا أحد هؤلاء الكتاب أين مصلحة ايران الذاتية في هذه المسألة ؟ .ألم يكن من الأسهل ، في لعبة المصالح تلك ، أن تسير ايران وفق الأجندة الأميركية مثلما فعلت تركيا لتترك لشأنها وتلتفت الى مصالح شعبها الاقتصادية والاجتماعية ؟ لو فعلت إيران ذلك لنهض اقتصادها ولعاش الشعب الإيراني في بحبوحة تفوق تلك التي حدثت في تركيا و لما كان ثمة مشكلة في الملف النووي الإيراني بل لوجدنا الخبراء الأميركيين يعملون على قدم وساق من أجل مساعدتها على انتاج القنبلة النووية!

لكن ايران اختارت أن تقبض على جمر الوقوف الى جانب الأمة العربية والاسلامية وقضيتها المركزية مهما كلفها ذلك من تضحيات ..فبالله عليكم أيها الجهابذة اشرحوا لنا مصالح ايران في هذه المسألة .. ثم كيف يكون لإيران مآرب أخرى توسعية أو غيرها وهي تحاول الانفتاح على مصر وتشجيعها على الاستقلال عن الارادة الأميركية ، استقلال من شأنه أن يؤدي بالضرورة الى نهضة مصرية وعودة مظفرة الى الريادة والقيادة من جديد؟ أليس من مصلحة إيران بمفهوم هؤلاء الكتاب أن تبقى مصر تابعة بلا دور حتى تتقدم هي وتتوغل أكثر فاكثر في منطقتنا ؟

هؤلاء يساهمون بشكل مباشر سواء علموا أم لا في عرقلة عودة العلاقات الى طبيعتها بين مصر وإيران أي بين الأصدقاء الحقيقيين طالما هم يصرون على قول نصف الحقيقة والوقوف في منطقة وسطى رمادية لكأن الهجوم على ايران أو مساواتها بالخصوم بات لازمة ضرورية لا تتحقق الموضوعية الا بها ولا تكتسب ابحاثهم مصداقية الا من خلالها ..

فيما نراهم يروجون للدور التركي من خلال ترداد أسطوانة النجاحات الاقتصادية التركية التي ثبت عبر دراسات عديدة أنها لا تخلو من مبالغات تهدف الى تزيين حكومة حزب العدالة والتنمية لأهداف لم تعد خافية ..ولو نظرنا بانصاف الى تركيا كلاعب إقليمي لرأيناها تلعب دورا مناقضا لمصالح امتنا ، تبدى ذلك بوضوح في الأزمة السورية التي كشفت أن تركيا لا تنظر الا بعين ذاتها ومصالحها الخاصة على حساب الأمة العربية لاسيما جارتها سوريا التي فتحت لها أبواب منطقتنا على مصراعيها وضحت بمصلحتها في بعض الملفات الاقتصادية لصالحها على حساب بعض ابنائها فلم تلقَ الا الغدر والعدوان والتآمر لمصلحة أميركا واسرائيل وأحلامها العثمانية المستحيلة .

مع ذلك فإن غالبية الباحثين يضعون المصالح الإيرانية والتركية في المنطقة على قدم المساواة مع أن بينهما فروقات جمة في السياسات المتبعة وفي الأهداف والتطلعات المرجوة..

يستوقفنا في هذا المقام ما جاء في مقالة الباحث المرموق والمحترم جدا د- مصطفى اللباد رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية التي عنونها “هل ربحت تركيا معركة الربيع العربي” لا بصفتها نموذجا أو مثالا للقضية التي نثيرها في هذا المقال وانما فقرة نضعها بين قوسين نسجل فيها عتب الذي يقدرعاليا كتابات د مصطفى اللباد التي لا يمكن الا أن نضعها في خانة الكتابات والدراسات الاقليمية والاستراتيجية العالية القيمة.

“أصبحت تركيا بتحالفها الحصري مع التيار الإسلامي خصماً سياسياً لهذه التيارات وليست نموذجاً بأية حال، حيث عادت هواجس الخمسينيات والستينيات لتطغى على مفردات هذه التيارات عند توصيف تركيا وأدوارها، ما يمثل بالنتيجة انحداراً بيّناً لصورة تركيا في الشارع العربي. أما النتيجة الثالثة لهذا الانخراط التركي في «الربيع العربي» فيترتب على ذلك الارتباط الحادث بين «الربيع العربي» والتحولات الجيو-سياسية الجارية في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي زاد بوضوح بعد الانخراط التركي المباشر في الأزمة السورية، على الأقل عبر تبنيها فصائل سورية معارضة على حساب فصائل أخرى. بدوره أطلق النظام السوري، الذي يولغ في دم شعبه والساعي للانتقام من تركيا، المسلحين الأكراد من معاقلهم داخل الأراضي السورية إلى الداخل التركي، مسبباً اتساعاً في فجوة تركيا الداخلية، واضطراباً في توازنات عرقية وطائفية تركية حرصت أنقره في العقد الأخير على مداواتها بالوسائل الثقافية والسياسية حيناً، وبالمراهم والأعشاب حيناً آخر.”

نلاحظ أن الدكتور مصطفى يتحدث عن انخراط تركي” مباشر” في الأزمة السورية لجهة دعم المعارضة ودون الاشارة من قريب او بعيد الى فتحها الحدود للمسلحين والمرتزقة القتلة من كل حدب وصوب بما فيهم المنتمون فكريا الى تنظيم القاعدة للدخول الى سوريا والولوغ في الدم السوري بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ ..فيما نراه يتحدث بوضوح أكبر وتفصيل وتحديد عما سماه “اطلاق النظام السوري المسلحين الأكراد من معاقلهم الى الداخل التركي ..” كانت الموضوعية تقتضي أن يقول هذا وذاك ويتحدث بوضوح واحد في الحالتين لكنه لم يفعل .

وبعد، هل يمكننا بأي حال من الأحوال أن نساوي بين الدور التركي والإيراني وقد تكشف أمام العالم أن ما أقدمت عليه تركيا من استدارة “تاريخية” نحو الشرق وقضاياه ، التي بلغت ذروتها في مسرحية دافوس، لم يكن سوى صفقة مبرمة مع الادارة الأميركية لولوج تركيا الى المنطقة عبر البوابة الفلسطينية من أجل التمهيد لما اصطلح الغرب على تسميته” الربيع العربي” ؟ ولا بأس من أجل تحقيق هذا الهدف من إراقة الدماء التركية في رحلة أسطول الحرية التي حولت أردوغان الى بطل قومي في نظر الشعب العربي بكافة أطيافه السياسية الاسلامية والليبرالية والقومية الى حين..

لكن ” الربيع العربي ” الذي أطاح بعض انظمة الاستبداد “العلماني”نسبياً لإحلال أنظمة الاستبداد المتأسلم قد أطاح ايضا مصداقية الأتراك وكشف بشكل جلي زيف المواقف التركية وتحولاتها وصدق المواقف الإيرانية وثباتها..

نأمل من الأساتذة الباحثين والكتاب المخلصين أن لا يكونوا عونا للإعلام المضلل بل لا نغالي اذا قلنا الإعلام المجرم على تشويه الحقائق في هذه اللحظات العصيبة الفارقة من تاريخ أمتنا.. ويبقى رهاننا عليهم كبيرا في الانتصار للحق والحقيقة التي سوف تنتصر وتطفو على السطح في نهاية المطاف ، برغم التدليس البحثي والتضليل الإعلامي ، لكن ، على نهر من الدماء العربية ..

» حتى لا تصبح الدعوة إلى التعريب دعوة إلى التدليس: بشرى كيلاني
» الشعب يُريد الحقيقة
» الخطة الإعلامية لقنوات الفتنة والتضليل
» من وسائل حربهم على المقاومة الفبركة والتضليل
» حان وقت الكشف عن الحقيقة بشأن سوريا