لماذا يزور الملك موسكو الآن ؟! بقلمالمحامي محمد احمد الروسان
لم تكن روسيا بحاجة إلى سنوات لتعيد ترتيب بيتها الداخلي وآفاقه الخارجية, كي تعود بقوّة إلى واجهة المسرح الدولي، أذكر كمتابع ما بعد احتلال بغداد ذهبت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة رايس - التي كانت مستشارة للأمن القومي آنذاك - إلى القول بحق جبهة الممانعة الأوروبية للتدخل الأمريكي السافر بالعراق المتكونة من فرنسا وروسيا وألمانيا آنذاك, ملخصةً سياسة بلادها بحق هذه الدول حيث نطقت: علينا أن نعاقب فرنسا ونسامح ألمانيا ونهمل روسيا.
فقد استطاعت موسكو أن تخرج من المخاض العسير غير المكتمل, الذي دخلته مع انهيار حلف وارسوا وتداعي الإتحاد السوفياتي السابق خلال ثلاث سنوات فقط على مقولة الدكتورة رايس الأنفة, مثبتة خطأ مقولتها، فهي لم تفهم أي رايس حقيقة الفدرالية الروسية جيداً / بالرغم من أنها توصف بالخبيرة بالشؤون الروسية، فالشعور القومي الوطني الروسي والمستند على ارث الإتحاد السوفياتي, وقوتها العسكرية والنووية الإستراتيجية وإمكاناتها الاقتصادية والطبيعية، مع وجود زعيم قومي روسي هو فلادمير بوتين ذو الرؤية الواضحة والذي يفكّر ويعمل بالاتجاه الصحيح، أفشل ما كانت ترجوه وتتمناه العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي من انهيار كامل للدولة الفيدرالية الروسية.
.... فالوضع الروسي في الشرق الأوسط له آفاقه الخاصة, فموسكو حاضرة وبقوّة على كل الجبهات: من إيران إلى فلسطين المحتلة، ومن مياه الخليج المسلوبة السيادة أمريكيا، إلى سورية التي تتعرض إلى حرب كونية سافرة، إلى لبنان الساخن مروراً بالعراق المحتل والذي يتعرض إلى حالات مخاض عسير، عبر بعض أطراف من العربان المرتهنين للخارج. موسكو تعود بقوّة ودبلوماسيتها أخذت تظهر دينامية متنامية إزاء الأزمات التي تهز المنطقة، وصارت موسكو وبشكل متجدد وجهة رئيسية للتعاطي مع هذه الأزمات، وعادة مرةً أخرى إلى المياه الدافئة في الخليج والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.
ولم تعد وزارة الخارجية الروسية قسماً ملحقاً بوزارة الخارجية الأميركية, بل على العكس تحولت موسكو - بعهد بوتين لثلاث فترات رئاسية - إلى طرف نشط يقدم مقترحات ويدافع عنها، فالدبلوماسية الروسية تسعى جاهدةً وبثبات لاستعادة مواقع النفوذ التقليدية لدبلوماسية الاتحاد السوفياتي السابق, من خلال التخلي عن العامل الأيديولوجي والتركيز على عامل المصالح الإستراتيجية بالدرجة الأولى، معطوفاً على ما يمكن أن توفره موسكو بفضل موقعها كقوّة عظمى لها دور رئيسي في مجلس الأمن الدولي وفي الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، بالرغم من أنّ ملف السلام صار ملف إسرائيلي داخلي، تنهيه الأخيرة مع الجانب الفلسطيني لوحدهما، ولم يعد ملفاً أمريكيا رئيسي كما تروج بعض وزارات الخارجية العربية.
وتأتي عودة موسكو على الجبهة الدولية والجبهات الإقليمية الأخرى, على أساس الاستفادة من الصعوبات التي تعاني منها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان, وهذا يمنحها صك تواصل وانفتاح على تلك الأطراف التي لا تتعامل معها واشنطن، حيث تستفيد وتوظف موسكو بؤر النزاعات والملفات الساخنة لأسماع صوت مختلف عن الصوت الأمريكي والغربي بشكل عام, وهذا ما يجعلها مسموعة ومقبولة لدى الجانب العربي لوقوفها إلى جانب حقوقه المشروعة، وأقلها إقامة دولته على الأراضي المحتلة لعام 1967 م وعودة القدس الشرقية لتكون عاصمة لتلك الدولة وعودة اللاجئين والنازحين إليها, فروسيا اليوم لاعب نزيه وحقيقي وعادل في كواليس الصراع العربي - الإسرائيلي وجوهره القضية الفلسطينية، كما هي لاعب نزيه وعادل وحقيقي في تداعيات ما يسمّى بالربيع العربي، ودورها الحقيقي والفاعل والمتصاعد في الحدث السوري، للحفاظ على الدولة السورية وعلى الأمن والسلم الدوليين .
* الإشارات الجديدة القادمة من موسكو , ماذا تحمل وماذا تقول ؟!
تقول المعطيات النظرية لعلم العلاقات الدولية، بأنّ التوازن الإقليمي يرتبط دائماً بالتوازن الدولي, وبتنزيل هذه الحقيقية إلى الواقع الميداني, فقد كان التوازن الإقليمي الخاص بمنطقة الشرق الأوسط يرتبط بالتوازن الدولي الخاص بنظام القطبية الثنائية خلال فترة وجود القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق ولكن بعد انهيار القطبية الثنائية وانفراد واشنطن بالزعامة محاولةً الهيمنة على النظام الدولي, بدا واضحاً أنّ منطقة الشرق الأوسط قد شهدت على أساس اعتبارات التوازن الدولي, حدوث فراغ في الميزان الأممي بسبب غياب القوّة السوفياتية التي انهارت وعدم تقدم روسيا أو الصين لملء الفراغ في الميزان الدولي, صعود قوّة إسرائيل في ميزان القوى الإقليمي, هبوط قوّة الأطراف العربية في ميزان القوى الإقليمي, مع الأخذ بعين الاعتبار حالة انقسام سادت في المنطقة العربية, بحيث أكد ما يسمى بمحور الاعتدال بالمنطقة - الذي انهار كليّاً - على ضرورة المضي قدماً في القبول بالنفوذ الأمريكي وتقديم التنازلات للمشروع الإسرائيلي - الأمريكي - الغربي. وعلى الطرف الآخر, أكد ما يسمّى بمحور الممانعة بالمنطقة على ضرورة المضي قدماً في الاعتماد على الإرادة العربية والقدرة الذاتية ومبادئ العدالة والحقوق المشروعة, كوسيلة لمواجهة المشروع الإسرائيلي – الأمريكي – الغربي في المنطقة الشرق الأوسطية.
الآن تمثل جهود روسيا الفدرالية، بمواقفها المختلفة إزاء الحدث السوري وإزاء إيران وبرنامجها النووي السلمي، وإزاء الدور التركي المتلون وكافة الملفات الأخرى في المنطقة، بما فيها ملف التسوية السياسية، هذه الجهود الإستراتيجية والتكتيكية تشكل رسائل جديدة تحمل الإشارات التالية:
بدء عودة روسيا لمنطقة شرق المتوسط , من أجل ملء الفراغ الذي خلَفه انهيار الإتحاد السوفياتي, ردع النفوذ الأمريكي في المنطقة, عن طريق التأكيد بانّ أمريكا لن يكون في وسعها الإنفراد الكامل بممارسة النفوذ على المنطقة, ردع الأسرائليين من مغبة اعتماد استخدام القوّة الغاشمة المرفوضة، ودبلوماسية العمل من طرف واحد عن طريق وضع الأسرائليين أمام روادع على النحو التالي :
إنّ موسكو تمثل لاعباً دولياً مؤثراً في الساحة الأممية, لأنّ لها دوراً كبيراً في إدارة الصراع الدولي الدبلوماسي في مجلس الأمن الدولي واللجنة الرباعية, إنّ موسكو قادرة على تعزيز قوّة الأطراف الأخرى, وإعادة نظام سباق التسلح الذي سبق أن شهدته المنطقة على النحو الذي يضعف التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي الحالي, ولموسكو خارطة طريق جديدة في الشرق الأوسط, حيث تتحدث المواقف الروسية عن نفسها، بأنّ موسكو تسعى حالياً إلى معاقبة الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق القيام بلعب دور معاكس لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط، رداً على دور واشنطن المعاكس في منطقة البلقان وشرق أوروبا ودفاعاً عن مصالحها الإستراتيجية عبر الحدث السوري، الذين يتبنون وجهة النظر هذه يلمحون بطريقة أو بأخرى إلى الفرضية القائلة:- باحتمالات أن تؤدي ضغوط موسكو على إسرائيل و واشنطن في الشرق الأوسط، إلى عقد صفقة بين موسكو و واشنطن تتراجع بموجبها واشنطن عن استهداف النسق السياسي السوري، وتقديم تنازلات لموسكو في ملفات نشر برنامج الدفاع الصاروخي والقواعد العسكرية الأمريكية وغيرها, وبالمقابل تتراجع موسكو عن ملفات الشرق الأوسط غير الإستراتيجية، وعدم استهداف المصالح الأمريكية وخاصة في جورجيا على ان يكون ذلك بالتفاهم معها.
ولكن على العكس تماماً, تبدو التحركات الروسية وهي تشي إلى أنّ ثمة " خارطة طريق روسية دولية " تقوم موسكو بتقفي معالمها الرئيسية, كون التحركات الروسية المعاكسة لأمريكا شملت:
منطقة الخليج العربي: سبق للرئيس الروسي فلادمير بوتين زيارتها. منطقة الشرق الأدنى: يوجد صعود روسي معاكس لأمريكا في أوكرانيا, أرمينيا, منطقة القوقاز والقفقاس, إضافة إلى الموقف الروسي المتجدد والثابت والداعم للنسقين السوري والإيراني.
منطقة آسيا الوسطى: استطاعت موسكو أن تضعف الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى عن طريق الاتفاقيات الثنائية مع دولها الخمس: تركمنستان , أوزبكستان, كازاخستان, طاجيكستان, وكيرغيزستان. منطقة الشرق الأقصى: تحركات روسيا في ملف الأزمة النووية الكورية الشمالية بحيث أدّت إلى إضعاف الموقف الأمريكي المتشدد في المنطقة, ويضاف إلى ذلك انخراط روسيا – بكين ضمن منظمة تعاون شنغهاي كمنظمة إقليمية, التي استطاعت أن تفرض نفوذها الجيويوليتيكي على الإقليم الأوراسي الذي يضم روسيا, الصين, منغوليا, دول آسيا الوسطى, والذي سبق أن أجمعت كل النظريات الإستراتيجية على انّه يمثل مفتاح السيطرة على العالم باعتباره يمثل منطقة القلب الاستراتيجي لخارطة العالم .
من ناحية أخرى, إن انخراط روسيا في أجندة الصراع العربي - الإسرائيلي ضمن جهد شامل ونوعي, بالإضافة لما ذكر سابقاً في متن المقال, يهدف من جهة أخرى مكافحة ومواجهة انخراط واشنطن المتزايد في إقليم أوراسيا ( آسيا الوسطى, القوقاز, القفقاس ), كذلك البدء بالتحركات المتعلقة بالملف النفطي, مع كل من مصر والجزائر وغيرها من البلدان الشرق الأوسطية النفطية, لبناء قوّة ناعمة نفطية روسية لجهة بناء تحالف نفطي روسي - شرق أوسطي .
حتّى الآن, تنظر التحليلات الأمريكية إلى أن التحركات الروسية في الشرق الأوسط تهدف إلى معاقبة أمريكا, ولكن كما هو واضح فانّ التحرك الروسي يمكن أن يكون جزئيّاً بسبب هذه المعاقبة, وما لم تنتبه إليه التحليلات الأمريكية الصادرة حتّى الآن, هو أنّ روسيا قد باشرت التصدي للسلوك الأمريكي في ملف كوسوفو ومنذ البدء وقبل خمس سنوات من الآن, عن طريق استخدام الملف الجورجي وتداعيات هذا الاستخدام الروسي المشروع من وجهة نظر موسكو, على اعتبار أنّ ذلك يمس أمنها القومي ومجالها الحيوي .
وكما هو معلوم للجميع في المجتمع الدولي, إنّ جورجيا تمثل الحليف الرئيسي للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة القفقاس, تتعرض لتكريس أزمة انفصال أبخاريا الشركسية, وانفصال أوسيتيا الجنوبية، وفي رد الفعل الروسي على انفصال كوسوفو, أعلنت روسيا وما زالت عن استعدادها لتأييد ودعم وتجذير انفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا إذا تجرأت جورجيا على الانضمام إلى حلف الناتو.
والأجراء الروسي ضد جورجيا, كما هو واضح لو حدث فانّه سيشكل خسارة كبيرة لواشنطن وحلف الناتو, كونه يقضي نهائياً على دولة جورجيا ككيان سياسي بما يترتب عليه سقوط النظام الجورجي الموالي لأمريكا وصعود المعارضة الموالية لروسيا – حقّقت المعارضة الجورجية انتصارات في الانتخابات التشريعية الأخيرة, إضافة إلى انّه يعيق بشكل نهائي تمدد حلف الناتو والنفوذ العسكري الأمريكي إلى واحدة من أهم المناطق الإستراتيجية التي تمثل الحلقة الرئيسية في مخطط إغلاق البوّابة القفقاسية في وجه الفدرالية الروسية .
وعودةّ إلى الجهد الروسي المتنامي في الشرق الأوسط , تشي المعطيات الحالية, بأنّ الدعوة المستمرة والمتكررة لمؤتمر موسكو الدولي للتسوية السياسية في الشرق الأوسط , سيتم توزيعها على كل الأطراف بما في ذلك إسرائيل, وتقول معلومات استخبارية تم تسريبها, بأنّ إسرائيل وألمانيا قد اتفقتا على عقد مؤتمر دولي في العاصمة الألمانية برلين, يهدف إلى تعزيز تطبيق العقوبات ضد إيران والبحث في كيفية القضاء على البرنامج النووي والصاروخي الإيراني! فهل ستحاول إسرائيل بالتعاون مع أمريكا وألمانيا وفرنسا عقد صفقة ما مع موسكو، تقايض حضور مؤتمر السلام الروسي للتسوية المزمع عقده عبر الرؤية الروسية الإستراتيجية لاحقاً, مع حضور روسيا مؤتمر برلين المتعلق بإيران ؟! .
وإذا كانت أمريكا و ( إسرائيل ) قد اشترطت أن تكون الأجندة متعلقة حصراً بمتابعة ما عرف بالتقدم المحرز سابقاً بملف التسوية بالشرق الأوسط فقط حتّى اللحظة، فهل ستشترط موسكو بأنّ تكون أجندة مؤتمر برلين الدولي إن عقد بالبحث في خيارات التفاوض الدبلوماسي مع إيران ؟؟؟؟؟!!!!! لننتظر مع المتابعة ونرى !.