المسيحيون السوريون: كفالة النظام ونار الجهاد

المسيحيون السوريون: كفالة النظام ونار الجهاد

19 أكتوبر 2014

خلاصة بحث حمود حمود ‘سوريا صعود الجهادية وصراع على لمسيحية’، ضمن الكتاب 91 (يوليو 2014) ‘المسيحيون في الشرق’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
ليس من السهل دائماً في ظل الأزمات قراءة أحداثها وفق استحقاقها الذي انبثقت منه؛ ووفق دينامياتها التي تتفاعل من خلالها. وإذا كان الأمر هكذا، فإنه ليس من السهل كذلك ترصد مواقف الأطراف المحيطة بها، وخاصة إذا كانت هذه الأطراف ليست معنية أساساً بجوهر تلك الأزمات، كما هو حال مسيحيي سوريا. فهؤلاء بالأصل ليسوا طرفاً في أزمة سوريا. لكن وعلى الرغم من ذلك، فقد حاولت بعض الأطراف المتصارعة إجبارهم على الانخراط بها، إنْ لصالح النظام السوري بوصفه هو المتكفل بحمايتهم من تمرد الجهاديين، وإنْ لصالح الأطراف المعارضة، أو كما حاولت أطراف جهادية، والتي تعمل على الأرض في الصراع عليهم، لكن من خلال “التطهر” منهم.
إزاء كل ذلك، ونتيجة كل الاعتداءات التي طالت المسيحيين، والوعود بسحقهم… إلخ، يمكن تسجيل أنّ صلب الموقف المسيحي العام يتمحور حول “القلق الوجودي” مما يحدث. وهذا ما تجسد في “الحيادية” العامة التي عبر عنها أكثر من طرف مسيحي. القلق هو من الحدث نفسه أكثر منه الوقوف مع هذا الطرف أو ذاك. ربما قرأنا المخاوف التي عبر عنها البطريرك بشارة الراعي أثناء زيارة له إلى باريس في أوائل سبتمبر 2011، وكم انتقدت مواقفه آنذاك، وخاصة من قبل الأطراف المعارضة، وحتى من قبل أطراف مسيحية محسوبة على المعارضة (مثلاً البيان الذي صدر من قبل أطراف مسيحية معارضة في السابع عشر من سبتمبر). وعلى الرغم من أنّ البطريرك كان بالفعل لا يقرأ الحدث السوري وفق استحقاقه الأصلي، من ناحية مطلب الحرية والتغيير، وكان ينظر وفق أعين ضيقة إلى حدّ ما، فإنه لا يمكن أن ننكر أنّ مخاوفه كانت تحمل شيئاً من الحقيقة، وأن هذه المخاوف قد ترجمت لاحقاً فعلياً على الأرض بما حدث للمسيحيين والشعب السوري عامة.
الدعم مقابل الحماية
لا شك أنّ هناك أصواتاً ومواقف مسيحية متعددة تراوحت من الحيادية وصولاً حتى دعم النظام، بيد أنّ مثل هذا الدعم، لم تعبر عنه الكنيسة في حالة تسجيل موقف لها. وهنا لا بد أن لا ننسى موقف الفاتيكان نفسه مما يحدث في سوريا، والذي يتلخص بالحيادية والدعاء بالسلام والصلاة لكل أطراف الشعب السوري ودعائهم إلى السلام والحوار فيما بينهم. هذا الموقف مرتبط جوهرياً بمسيحيي سوريا، على الرغم من المناخ الطائفي أو المذهبي المختلف. ولا ننسى كذلك أصواتاً مسيحية ما زالت إلى هذه اللحظة تقف في صف المعارضة مثل ميشيل كيلو وجورج صبرا، وبعض الأصوات التي تعمل على الأرض في مجال الإغاثة والأعمال الإنسانية والسلمية، فضلاً عن أصوات مسيحية إعلامية، والتي لم يكن آخرها مجموعة مسيحية أطلقت بياناً انتقدت فيه وقوف بعض الكنائس المسيحية في سوريا مع النظام السياسي القائم. لكن مثل هذه الأصوات بقيت أصواتاً فردية، كما هو حال صفحة “وقفة المسيحيين السوريين دعماً للثورة السورية”.
أعلنت مرة هذه الصفحة المسيحية: “أنهم يتهمون الثورة بأنها تحولت إلى ثورة إسلامية. وهذه الصفحة تثبت أنّ كل الطوائف، بمن فيها المسيحية، هم في قلب الثورة”. في الحقيقة، إنّ مثل هذا الموقف يتيم جداً، إلى درجة السذاجة، ولا يدرك كم أنّ الواقع السوري المؤلم أثقل من الأمنيات الفردية. هذا فضلاً عن أنّ هذه الأصوات لم تُعبر أبداً عن الموقف المسيحي العام، على الرغم من جهود كبيرة قد بُذلت في سبيل كسب الشارع المسيحي إلى جانب المعارضة.
هكذا، إذا كان هناك من أصوات مسيحية وقفت مع النظام السوري وتخشى سقوطه وإذا كان هناك منهم حتى من يندرج في إطار الميليشيات العسكرية التي تدعى “الشبيحة” (أو ما بات يدعى بـ”جيش الدفاع الوطني”)، فهناك أصوات مسيحية كذلك فردية وقفت مع المعارضة)، على الرغم من ثقل الأطراف التي تقف مع النظام أكثر، طالما أنّ بعضاً منها مرتبط بهيكلية الكنيسة في سوريا ولهم ثقلهم على الشارع المسيحي، أكثر من مسيحيي المعارضة الذين لا يمتلكون حتى ثيابهم التي يلبسونها. وإذا كان هناك متطرفون مسيحيون يقفون موقفاً داعماً للنظام إلى حدّ الإجرام، فهناك مسيحيون يقفون إلى صف المعارضة، وهؤلاء الأخيرون يبدون كذلك أصولية تذكرنا بالأصولية التي أسس لها، ميشيل عفلق، في دعمهم للجهاديين في سوريا، لا، بل إنهم يدعمون الجهاديين على نحو شديد، الأمر الذي يمكن وصفهم به بأنهم أصوليون أكثر من الأصوليين أنفسهم.
لكن إذا بدا الموقف العميق للمسيحيين عامة بكونه يندرج ضمن القلق الذي يترجم في إطار الحيادية والدعوة إلى الحوار بين الأطراف المعارضة، فإنّ هذا الحياد هو الذي يدركه النظام السوري ويعرف كيف يتعامل معه ويجلبه إلى صفه، وبخاصة أنه يقدم نفسه بكونه يحمي الأقليات الدينية والإثنية في سوريا. وأكثر من ذلك، إنّ النظام السوري، مقارنة، بـ”المعارضات”، يبدي توازناً وانضباطاً شديدين في التعامل مع المسيحيين. الآن هناك نسبة مسيحية عالية في الشارع المسيحي، بل وحتى في الشارع السوري عامة، أنهم يفضلون النظام على تلك الأطراف المعارضة بسبب تطرف أطراف فيها لصالح الشرعنة الإسلاموية والجهادية. من هنا نجد أنه إذا ما أبدى النظام السوري صورة منضبطة في التعامل واستغلال المسيحيين، بوصفهم ورقة من الأوراق التي تحميه، فإنّ هذا ليس حاله عند الأطراف المتصارعة ضد النظام. فهؤلاء قدموا صورة فوضوية عارمة: إنها فوضى بحجم الفوضى داخل تياراتهم وأطيافهم المتعددة، التي لا تبدأ بالتيارات السياسية الإسلامية، ولا تنتهي بالأصوليات المسلحة التي تقاتل على الأرض، والتي كان لها التأثير الأكبر على كيانية الفسيفساء المسيحية السورية. يكفي أنّ المعارضة السياسية لم تتجرأ في معظم الأحيان على إدانة الأفعال الإجرامية التي تقوم بها الجماعات المقاتلة على الأرض بحق المسيحيين وعموم الشعب السوري، هذا إن لم تكن هي التي تدعم هذه الأفعال الإجرامية؛ طالما أنّ الإسلاميين هم الذين يسيطرون على عموم المعارضة السورية، والتي نحت جانباً كل ما يرتبط بالتيارت اليسارية مثل هيئة التنسيق الوطنية. إنّ العنوان العريض لمسيحيي سوريا أمام كل هذا: هو “القلق”، الذي غدا الآن يتعدى التعبير عن الهوية وما إليه. إنهم الآن كما عبر راعٍ مسيحي أنجليكاني: “وضع المسيحيين تراجيدي جداً: إنهم مقيدون بين شيطانين اثنين…”.
اتهام غير مبرر
إنه من المؤسف اليوم بعد كل ما يجري للمسيحيين، وعموم الشعب السوري، اتهام المسيحيين بأنهم هم والأقليات الأخرى يشكلون تحالفاً دعي بـ”تحالف الأقليات” ضد بقية الشعب السوري. وقد تصدر هذا الاتهام اتجاهات من المعارضة منذ بداية الأزمة السورية من خلال الإسلامويين والعروبيين، حتى حينما كان هناك طيف واسع من المسيحين يشاركون في تظاهرات الشعب السوري قبل عمليات التسلح والتسليح. لكن أيضاً بالإمكان القول: إنّ هذه الاتهامات لم تخرج قيد أنملة عما كان يسكن في عمق خطاب ميشيل عفلق والثلة القومية والإسلاموية.
ربما يقال هنا: إنّ مثل هذا الاتهام هو من استحقاقات الأزمة الجارية، بيد أنه كما نعتقد موقف ليس صادراً عن تشنجات المواقف المتعلقة بالأزمة، بل إنه موقف يضرب في عمق الثقافة القومية والإسلاموية. لقد حاولنا سابقاً إلقاء الضوء على بعض الإشكالات العميقة في الخطاب القومي والإسلامي، ورأينا كيف أنّ مفردة “العروبة”، حينما تُقرأ قومياً، فإنها لا تتحمل ترادفاً لا يدل على صفة الإسلام. ليس الأمر هنا متعلقاً بوقوف المسيحية مع الديكتاتورية بمقدار ما هو متعلق أساساً بحماية ما تبقى من المسيحيين أمام ما يرونه وما يلقونه من ضروب الجهاد والثقافات التوتاليتارية.

إنه بدل اتهام المسيحيين بالوقوف مع الديكتاتورية، كان من المفترض بالذين يتهمون أنْ يقدموا على الأقل بدائل مطمئنة: لا على الصعيد السياسي فحسب، بل حتى في عمق الخطاب الثقافي المتوارث؛ كان من المفترض عليهم العمل، من خلال الهوية الحداثية، على تقديم هوية وطنية بكل ما تعنيه الكلمة، لا مجرد شعارات جوفاء بعيدة عن ثقل الواقع المؤلم؛ كان عليهم منذ البداية حلّ إشكالات تأزم الهوية الذي يعاني منه عموم الشعب السوري، وحتى المسيحي منه.

» ريف دمشق قبل الشتاء.. نور ونار
» علي الأمين.. «جنوبية» ونار الحقد
» المسيحيون العرب والقدس
» ناصر قنديل: توحد المسلمون المسيحيون
» الحريري : المسيحيون درجة ثالثة بعد السنة و الشيعة