رأى مركز الدراسات الأميركية والعربية في تحليله الأسبوعي بأن تركيا "حزب العدالة والتنمية" كانت على وشك استنساخ تجربة سلفتها الامبراطورية العثمانية، في مستوى بسط سيطرتها وتمدد نفوذها في الدول العربية؛ فيما يستعد رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان لاعلان نفسه سلطانا بعد خطبه وُد الولايات المتحدة، واطمئنانه لآيات الاطراء من اوباما لأهمية تركيا و"دورها الحيوي لانهاء الحرب الدائرة في سورية." كما انتشى اردوغان برسالة الاعتذار الصادرة عن رئيس وزراء الكيان "الاسرائيلي" نتنياهو لاعتراض قواته العسكرية سفينة آفي مرمرة ومصرع عدد من ركابها الاتراك في طريقهم لتحدي الحصار المفروض على قطاع غزة.
باغت تحرك الشباب الاتراك طموح اردوغان في تحقيق مآربه، ونزلوا الى الساحات العامة والشوارع الرئيسة احتجاجا على صلف سياسته، ونزوعه الثابت نحو التطرف والاستبداد؛ واندفعت شريحة اجتماعية عريضة تمثل اطياف التيارات السياسية لرفد المسيرات والمواجهات الاحتجاجية المتعددة وينمو زخمها باضطراد. اقطاب حلف الناتو وعلى رأسهم المانيا، سارعت للتلميح الى امكانية تدخل المؤسسة العسكرية العلمانية الى جانب المحتجين. اميركا ودوائرها الاستخبارية، التي تتمتع بعلاقات طيبة مع خصوم اردوغان، ترجح "استمرار وتيرة الاحتجاجات وازدياد حدة الاشتباكات" مع اجهزة الشرطة "وربما تزداد رقعة الشرخ والانقسام داخل صفوف حزب اردوغان."
ربما كانت ساحة تكسيم هي الشرارة التي اطلقت الارهاصات الشعبية ضد اردوغان من مهدها، سيما وان القوى المنخرطة تضم فئات اجتماعية واراء سياسية متعددة، بل متناقضة في تطلعاتها لمستقبل تركيا. وانصهرت سريعا للتصدي لبرنامج اردوغان اسلمة البلاد وتقييد منظومة الحريات المدنية في عهده. سيما وأن قاعدة الدعم الشعبي لاردوغان يأتي من الاناضول، المعروفة بآسيا الصغرى وتشترك في حدودها الجنوبية مع سورية، بينما تتطلع النخب السياسية والتجارية في اسطنبول غربا نحو اوروبا للتفاعل والتواصل معها. احتدام الازمة يؤشر على صراع يجري بين رؤيتين مختلفين لماهية ومستقبل تركيا.
اصرار اردوغان على احتقار المتظاهرين وعدم احساسه بما يمور به النبض الشعبي اعطى المتظاهرين زخما اضافيا لصحة تقييمهم بأن اردوغان لا يلتفت لمصالح ومطالب الشعب. ومما زاد الطين بلة تصريحه بانه "فهم رسالة المحتجين،" ارفقه بالتهديد لاطلاق عنان جموع مؤيديه الذين صوتوا له باستعادة الساحات العامة عنوة من المتظاهرين، وعززه ايضا بنشر قوات اضافية من الشرطة بتعليمات لقمع التحركات وتهدئة الاوضاع.
بلغت غطرسة اردوغان مستويات غير مسبوقة لعزمه تطبيق برنامج حزبه، اذ ذكر الاتراك في تصريح مؤخرا ان كانو يرغبون الاحتكام الي قانون وضعي سنه فرديْن ثمِليْن أم الى قانون الهي. يذكر ان تركيا اتاتورك رفعت الحظر عن تعاطي الكحول في العام 1926، ويعتقد ان اتاتورك قضى بمرض تليف الكبد. وعليه يفهم من تصريحات اردوغان بانها تشكل هجوما على بطل تركيا القومي الذي أرسى دعائمها الحديثة، واعاد الى اذهان الشعب مغزى القانون الذي سن مؤخرا لتقييد بيع واستهلاك الكحول.
الصراع الدائر في سورية ارخى ظلاله على الداخل التركي، قبل اندلاع الاحتجاجات، ابرزها تنامي التوتر بين اكراد تركيا وحكومة اردوغان على خلفية دعمه جبهة النصرة ، مما ادى الى نشوب بعض الاشتباكات بين الطرفين. بعد انتشار المظاهرات، وانشاء الاكراد مناطق سلمية يحرسونها في الداخل السوري من اختراق المسلحين المتطرفين، وتفاقم الاوضاع الداخلية يصبح عسيرا على اردوغان وفريقه معالجة تلك القضايا دفعة واحدة؛ سيما وهو المشهور بعناده في التعامل مع الملفات السياسية ومع الآخرين.
ابرز عوامل الاحتقان ضد سياسات اردوغان وفريقه انكماش الاقتصاد التركي مما انعكس مباشرة على شريحة التجار ورجال الاعمال الذين دعموا حملته في البداية. وتراجع الانتاج القومي العام الى نحو الصفر، بينما تنمو اجهزة الدولة ومرافقها بنسبة 20% سنويا تمول بقروض خارجية. فارتفع معدل العجز إلى نحو 300 مليار دولار. مع ارتفاع البطالة وتضخم بنسبة 7%.
سيناريوهات مخارج الازمة تصب في اتجاهين المؤسسة العسكرية التقليدية حارس النموذج التركي العلماني والثاني التعويل على رموز سياسية اخرى في حزب العدالة والتنمية، اذ جرى تداول اسم الرئيس عبدالله غول ونائب رئيس الوزراء بولنت ارينج، كمرحلة انتقالية لامتصاص حدة الغضب الشعبي. فالمؤسسة العسكرية قامت بالسيطرة على الحكومة التركية في ثلاث مراحل منذ انشاء الدولة: 1960، 1971، و1980.
أدرك اردوغان منذ بداية ولايته القوة النافذة للمؤسسة العسكرية وعمل بتأن لتقويض دورها والحد من هيمنتها وادخال تغييرات بنيوية عليها، كما وتطهير صفوفها من كبار الضباط النافذين، بل اودع بعضهم السجن ممن لا يطمئن جانبه أو ولاءه. واستند الى بند ضبابي في النظام التركي يحيل الطرف المناوئ الى السجن بناء على مجرد توجيه التهمة له، حيث يتم احتجازه بموجبه لعدة سنوات دون محاكمة او اطلاق سراحه بكفالة مالية. واضحت المؤسسة العسكرية هيكلا عظميا في عهده مقارنة بالايام الخوالي.
اطلق اردوغان حملة اعتقالات طالت طيفا واسعا من النخب ضمت صحافيين واساتذة أكاديميين ورجال سياسة ونشطاء في مجال الحقوق الانسانية. وفازت تركيا بالمرتبة الاولى بين دول العالم في عدد الصحافيين خلف القضبان دون محاكمة.
تفتقد حركات الاحتجاج الحالية الى رموز اساسية باستطاعتها استقطاب قوى مختلفة وتوجيه البوصلة، كما لوحظ ابتعاد الاحزاب السياسية المعارضة عن تجيير الحركة لصالحها، وغياب الشخصيات السياسية المعروفة من ميادين الاعتصامات.
ويدل المشهد العام للقوى المشاركة على انخراط "الكماليين" اتباع المؤسس مصطفى كمال اتاتورك، والشيوعيين جنبا الى جنب مع الليبراليين والعلمانيين. الامر الذي يدحض اتهامات اردوغان لتلك المجموعات بانها حفنة من "اللصوص والمهربين."
باستطاعة المرء التعرف على أهداف المتظاهرين الاتراك وإرساء نموذج الديموقراطية الليبرالية ضد القوى الاسلامية الساعية لفرض تفسيرها الديني الخاص البعيد عن التسامح مع الآخر. فالربيع التركي وللدقة "الصيف التركي" يتخذ مغزىً خاص لناحية كونه يشهد احتجاجات واسعة هي الاولى ضد الحكم المطلق للاسلاميين. ولخص مثقفون اتراك الوضع بجملة بالغة الدلالة بأن "الاحتجاجات تشكل صرخة ملايين تشعر بالتهميش،" مؤشرة على استقطابات اجتماعية وربما طبقية لتحييد تغول النموذج الاسلامي.
امكانية انقلاب عسكري في تركيا
من الناحية التقنية يمكن للمؤسسة العسكرية التركية المضي للاطاحة باردوغان لكن من غير المرشح قيامها بذلك. فرئيس هيئة قيادة الاركان نجدت اوزل، لا يظهر حماسا للتعاطي بالامور السياسية وغير مصنف في خانة المؤيدين للغرب. اذ اعلن فور تبوئه منصبه انه يتعين على القوات العسكرية البقاء خارج الحلبة السياسية والعمل ضمن الضوابط القانونية. بخلاف اسلافه قادة الاركان كافة، لم يتبوأ اوزل منصبا لدى حلف الناتو واقتصر نطاق اختصاصه على مكافحة الارهاب الداخلي ومحاربة الاكراد.
الثابت ان ولاء اوزل يميل الى اردوغان الذي اصطفاه الى اعلى هرم التراتبية القيادية بينما اضطر الاخرون الى تقديم استقالاتهم. ويحسب لاوزل افشال فريقه العسكري محاولة اغتيال أردوغان عشية الانتخابات 2011. وتنحية اثنين من قادة الدرك، لاحجامهما عن التدخل لايقاف المظاهرات المناوئة لاردوغان.
بالاستناد الى فرضية ان القوات العسكرية لن تلجأ لممارسة دورها التقليدي لحماية نموذج تركيا العلمانية، يبقى الامر متروك بيد اردوغان لاخماد حراك المحتجين واستعادة اواصر ثقة الناخب التركي. وينبغي على أردوغان استخلاص الدروس من مظاهرات المصريين الذين طالبوا باقالة وزير الداخلية حبيب العادلي، وليس باقالة حسني مبارك لكن الغطرسة المبكرة التي ابداها مبارك وتجاهله مطالب المحتجين ادت لتنامي رقعة الاحتجاجات. ومستقبل اردوغان السياسي معطوف على عدم براعته في الرد على المطالب، اذ مهد لقرب نهايته السياسية باحتقار وازدراء المحتجين، تماما كما فعل الرئيس مبارك.(س.خ) |