دام برس:
لا أحب الكتابة عن شيء طالما انني لا أعرف عنه إلا القليل ولا يسعني الفقه فيه سوى لملمة بعض خيوطه , فالألوان المزركشة تصيبني بالعصبية المفرطة, وتترك عقلي يغوص في الغثيان اللا إرادي , فأجد ألف اشارة استفهام وألف احتمال, رغم أنه يكفيني احتمالين أو أمرين أتجعد بينهما وأجد نفسي تائهاً بلا عودة , إنه الخوف القديم من الضياع , ألاّ تجد موضع ثقة تضع عليه رأيك . يذكرني ذلك تماماً بخفوت الضوء الذي يصيبني بضعف البصر أو حتى البصيرة, ولكن لا يهم طالما لا أعرف الطريق الذي أمشي فيه ولا أرى الأحجار التي تقيس خطواتي على الجانبين , فقط أجدني مجبراً أن أمشي ببطء شديد حسب كمية الضوء التي ستتشربها عيني , وكثيرا ما يكون الضوء خافتاً باهتاً لا يكفي جوعي كي أرى بوضوح أكثر حقيقة ما يجري , لكن عيني تتغاضى عن هذا وتتجاهل بعض مهامها كي استمر في السير دون توقف , ربما لا أحب أن أكون أعمى ولا يحب أحدا أن يكسر عجازه على العتمة , ولكن ما لا أحب أن أراه باهتاً أبدا هو هذا الوطن الذي صار مثل لوحة أسعى كي أكون أحد معالمه .
الصمت في حضرة الصمت جمال هكذا قالها نزار رحمه الله , والصمت العربي في حضرة الانكسار صار منتهى الحضيض العربي , ومن لم يقرأ يوماً يا أمة اقرأ عليه أن يعود إذن لاستخدام الحاسة التي سقطت سهواً في فوضى الحواس , وإعادة تفعيل السمع من جديد وتنظيف الإذن الخارجية التي تمحورت بطريقة ما حتى أصابها الصممّ , والتهبت الاذن الوسطى فما عادت قادرة على تمييز النهيق من النعيق وفقدنا التوازن على استقطاب الصوت النقي من الصوت الغبيّ , علينا من اليوم أن نسمع فقط , لا أن نقرأ يا أمة أقرأ , فقد أثبت التاريخ أنكم لا تقرأون ولا حتى تسمعون او حتى تفقهون , وكأننا مثل التاريخ المحنط نعيش أحداثه بكل شجاعة مفرطة كي نموت فيه بكل خجل وتواضع .
والأزمة السورية بما أنتجت من سوء الظنّ جعلتنا نقرأ أكثر مما نسمع وفي خضم القراءة السريعة والعادة السيئة في تناول المواضيع السياسية نسينا أن نسمع أو بالأحرى فقدنا القدرة على السماع , فلم نعد نسمع الآخر بل نقرأ ما نريد أن نسمعه نحن فقط , وصار الآخر مثلنا تماماً يبادلنا الضعف في السمع وعدم الالتفات الى ما نقوله , الأمر الذي يستدعي سؤال خطير جداً يا سادة , هل من المعقول أننا نحن على صواب وهم على خطأ؟ هل من المعقول أن هناك مستويات من الفهم لم ترتقِ الى مستوى النظر فيها بعمق؟ هل من المعقول أن نكون نحن الهمجّ الرعاع وهم حقاً أنبياء ورسل؟
هذه المرة لن أشحذ لساني الطويل كما اعتدتم عليه , ولن أحفر بأظافري عقول بعض المغيبين عن واقع نموت فيه كل يوم , ولن أجلد أولئك الذي يظنون حتى الآن أن هناك شيء يدعى الثورة السورية فالضرب في الميت يا سادة حرام , هذه المرة سأجربّ أن أضع نفسي في الضفة الاخرى , تلك الضفة التي يتطاول عليها كل من فيه جوع الى الحرية والديمقراطية , وكل من تسول له نفسه الانتفاع مما يحدث على الارض السورية , وكل من يؤمن بأن الشرف له وجهات نظر حين تعددت الاسباب والعهر واحد , سأعبر الى تلك الضفة علني أجد مخرجاً من تلاطم الأفكار في رأسي , وأجد شاطئا أرتاح فيه بعد كل هذه السباحة الملعونة بين أمواج النظام ومستنقعات المعارضة .
سأعيد ترتيب أوراقي طالما أن الفرصة سانحة , وسأسأل نفسي أسئلة مشروعة لا يعاقب عليها القانون ولا ترميني في الدرك الأسفل للخيانة الوطنية , ولا تعيدني الى ألف عام من الجهل والتخلف , فأكثر ما أكرهه في نفسي أن أراني اليوم مثل رجل الكهف أكسر الحجارة على رؤوس أعدائي من الحيوانات وأجدني أتعبد إله جديد اسمه النار العربية . وأقسى ما سأعانيه في هذه التساؤلات أنها ليست قابلة للطيّ , وغير قابلة للانحناء أمام الحركات الاعرابية من شدة المؤامرة أو ضمة الخيانة أو كسرة الكرامة , هي تساؤلات لا تشبه جُمل غادة السمان في أنها ممنوعة من الصرف إلا في حالة واحدة إذا كان مصيرها الصرف الصحي , هي تساؤلات بعض المنجمين الذين ما زالوا يؤمنون أن الأرض هي مركز الفلك وأن الشمس هي التي تدور حولها وأن جاليليو عار على البشرية وزنديق وكافر يستحق القتل . ربما هذه التساؤلات تجعل من كل سوري أشبه بجاليليو اليوم حين يكتشف الحقيقة الصعبة , ولكن عقول من حوله أصعب من أن تتقبل هذه الفكرة , لأنهم ما زالوا يعيشون في عصر التسطيح الفكري , وما زالوا يؤمنوا أن ما يحدث في سوريا هو عصر الربيع العربي .
في لحظة حمق تستطيع أن تهمس لنفسك بسؤال بسيط , ما هي مقومات الثورة السورية التي قلبت كيان العالم كله وقسمته الى شطرين متناحرين , وجعلت الحليم حيرانا , ووضعت كل ذات حمل حملها , ماهي أسبابها وما هي ظروفها وكيف نشأت وكيف ترعرعت وكيف تشرذمت وحبلت وأنجبت أبناء غير شرعيون لها وصار عندها ما يسمى الجيش الحر وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة عدا عن أبناء غير معروف نسبهم الاكيد في معجم الولادة والتفريخ من كتائب صحابية وفصائل جهادية وألوية طائفية ثم يأتي السؤال الخطير جدا.. كيف ماتت هذه الثورة ورحمها منتفخ منذ سنتين يا ترى ..؟؟
في لحظة تمرد تستطيع أن تقرأ في عيون الذين يرتلون آيات الثورة بحناجرهم كيف صارت الثورة مسخّ حتى ترى الخيبة تعلو نظراتهم والذل يعلو قلوبهم , تستطيع أن تستشعر مدى الرعبّ الذي يعيشون فيه من سقوط معبودهم الذي كانوا يعبدونه طوال سنتين , وهو الاله الذي وعدهم بأنه سيُسقط ما يُدعى بالنظام خلال اسبوعين , وسيرسم الحدود الربانية المذكورة في توراة اليهود , ويعيد السلام الى الشعب المضطهد وينتقم من المجرم التاريخي ذاك المدعو حمورابي . ويرفع مقامات هيكل سليمان لكي يقول العرب من حولها ربنا بارك لنا فيما اعطيتنا حتى لو قتلتنا .
في لحظة جنون تسأل نفسك كيف يثور شعب على وطن شعبه آخر من يعلم بهذا الامر , ومن هؤلاء الذين يزمرون لهكذا ثورة ويطبلون عليها من خارج الوطن , ومن هؤلاء الذين جاؤوا من خارج البادية كي يفرضوا علينا الجزية , ومن هؤلاء الذين يخافون على دماء الشعب السوري وهم لا يتورعون عن اقامة الاضاحي على شرفهم , من هؤلاء الذين رفعوا أهرامات الثورة السورية على أرض رملية متحركة , من هؤلاء الذين يطالبون بالحرية وهم يقتلون كل من يعارضهم , ومن هؤلاء الذين اخترعوا أكبر سجن في العالم للانسان كي نكتشف أن العرب بالنسبة لهم ليسوا أكثر من قرود مكانهم الطبيعي في أقفاص عربية.
في لحظة حزن تسأل نفسك ماذا حدث للشعب السوري؟ ولماذا يدفع فاتورة باهظة الشرف من روحه ودمه؟ وكيف هان على أبناء هذا الشعب أن يفعلوا في سوريا ما فعلوه؟ وكيف وصلوا الى حضيض الكرامة حتى باعوا أغلى ما يملكون لأجل مجرد شعارات وهابية صهيونية؟ وفي أي منعطف من الحياة اكتشفوا أنفسهم بأنهم حماة الوطن وأن الوطن مريض بحاجة الى صدمة كهربائية دموية تعيد تشغيل قلبه لكي يضخّ الدم السوري الجديد المطعمّ بأفكار القتل والنكاح والعنصرية والطائفية؟ في هذه اللحظة تسأل نفسك سؤال ينتقل من ترف الحزن الى دهشة الواقع .. من المستفيد فعلا مما يحدث الآن؟
في لحظة يتجمد فيها الوقت تماماً , وتصبح مشلولا عن التفكير وغير قادر عن تحريك عضلة واحدة للابتسام او حتى البكاء , لن تسأل نفسك أي سؤال ولن تتعب روحك في البحث عن الاجابات ولن تنقبّ في ارشيف القنوات الفضائية عن محلل سياسي يسعفك بالتنبؤات , ولن تحفر بئراً في رؤوس المعارضة كي تعرف إذا كان الذي في رؤؤسهم عقل أم حقل , ولن تستكشف بطولات المهرجين الذين تسلقوا الازمة السورية ليجلسوا على كراسي السلطة , ولن تعاتب أنصاف المفكرين الذين رقصوا على حبال هوائية , ولن تجادل بعد اليوم أحمقاً ما زال يرفع "خرقة" الانتداب الفرنسي , ولن تحاور جاهلاً جاء من عصور الانحطاط الجنسي كي تقنعه بأن جهاد النكاح هو بغاء فاحش , ولن تربت على كتف شهيد ولن تمسح دمعة أم ولن تواسي أهلا بفقيد ولن تعزي امرأة في زوجها ولا طفلة في أبيها ولا عجوزاً في أبنائه .
كل ما ستفعله أنك ستصمت حنقاً وغضباً وقهراً , وستعضّ على شفاهكِ من الكره الأسود , وستقسم أنك لن تنسى , وسترفع يدك ولو للمرة الاخيرة كي تقول ارفعوا ايديكم الكافرة عن سوريا , ارفعوها أو لا ترفعوها فسوف نقطعها , وصدقوني لن ننسى , ارفعوا شعاراتكم وسنرفع هاماتنا , ارفعوا صوتكم وسنرفع رؤوسنا , ارفعوا وتيرة اجرامكم وسنرفع وتيرة انتقامنا , ارفعوا اسم الله على راياتكم وسنرفع اسم الله في قلوبنا , كبّروا حين القتل وسنكبّر حين النصر , فجروا المعامل والمصانع وسنفجر طاقات الشباب , اسرقوا اموالنا واعمارنا وسنسرق منكم التاريخ الذي سيلعنكم ليل نهار , افعلوا ما شئتم أن تفعلوه , ولو كان الحق معكم لكان نصركم بعد حين , ولكن الله يأبى أن يكون نصيرا للمجرمين .
على حافة سوريا
هذه الايادي الملوثة بالدم السوري ستقطع
وكل من جاهر بعدائنا يوما سيخضع
وباذن الله راية النصر سنرفع
وسنقولها بأعلى الصوت
سوريا لن تركع سوريا لن تركع ...؟؟
بلال فوراني
المدونة الشخصية
http://pisces77.wordpress.com/