كم هو بائس المشهد العربي.. تلك هي الخلاصة التي يخرج بها دبلوماسي عربي مخضرم، معروف عنه ميوله للثقافة والأدب.. مع ميل واضح إلى أخذ عبَر التاريخ.
من أين لنا العودة إلى التغني بـ"بلاد العرب أوطاني"، يسأل ذلك الدبلوماسي، في وقت يضع كل حاكم خنجراً في ظهر الآخر ويتربص به؟
من أين العودة إلى شعار "نفط العرب للعرب"، في وقت يزايد الكل على الكل في حب الولايات المتحدة، وفي السباق نحو كسب الودّ "الإسرائيلي".. مع أنه كان قد سبقهم إلى ذلك قائد وطني وعروبي لبناني كبير، حسب ما كشفت الوثائق البريطانية، بالإعلان في مطلع خمسينيات القرن الماضي أن الكيان الصهيوني في قلب عالمنا العربي "مظهر حضاري، يعلّم قيم الحرية والديمقراطية"!
كم هو بائس أو مقزز هذا المشهد العربي حين يتسابق حكام قطر مع حكام السعودية لأن يبرهن كل طرف منهم أنه أكثر ولاء للسيد الأبيض فيما وراء البحار.. وإن كانا يتظاهران بالود الخليجي ووضع المنخار على المنخار، لكنهما يزيدان الحراس وراء ظهورهما خشية من الخناجر التي يحملها كل منهما.
هل لاحظ أحد كيف شعر زعيم الدبلوماسية السعودية بالزهو لأن جون كيري حطّ في الرياض قبل المنامة؟ يسأل الدبلوماسي العربي، معلناً عن اشمئزازه من هذه الأفكار الكاريكاتورية أو الكرتونية، خصوصاً حينما ينتشي حمدا قطر وسعود الفيصل بأخبار عن سيطرة المجموعات المسلحة على الرقة السورية.
هنا، كم يشعر هذا الدبلوماسي بالأسى، لسوء فهم دبلوماسية الأعراب وبائعي الكاز، حينما لا يفهمون بالتفاوض وأسراره، وتفاصيله وأعماقه، خصوصاً إذا كانت واشنطن شريكة فيه.
وبرأيه، ما يجري الآن في سورية تفاوض، تحت زنار النار، وهو أسلوب أميركي سبق أن اخترعه الدبلوماسي من أصول لبنانية؛ فيليب حبيب، صاحب نظرية القرون الحامية، أو التفاوض تحت حرارة النيران، وهو سبق له أن قاد المفاوضات الأميركية في مطلع سبعينيات القرن الماضي مع فيتنام الشمالية في باريس، حيث كانت النيران الأميركية براً وبحراً وجواً تتميز بكثافة لم يشهد التاريخ مثلها، لكن "هانوي" لم ترضخ، فظلت تفاوض وتقاوم وتقاتل، وفي النتيجة هُزم الأميركي شر هزيمة.
مآثر فيليب حبيب خبرها لبنان، خصوصاً إبان فترة الاجتياح الصهيوني عام 1982، حيث كانت كل جولة مفاوضات يقودها يصعد الكيان الصهيوني من حربه وقصفه وتدميره لبيروت "الغربية" بشكل فظيع.
ويستدرك هذا الدبلوماسي هنا ليؤكد أن المهزوم أيضاً يصعّد بشكل هستيري قبل أن يلفظ أنفاسه، أو قبل أن تأخذه سكرات الموت إلى نهايته الحتمية.. وبرأيه فإن القطري والسعودي والتركي، ومن ورائهم الأميركي والبريطاني، وكل حلف الطواغيت من الصغار والكبار يخوضون التفاوض بأشكال مختلفة في سورية، بما يعني تسخيناً وتصعيداً وزجاً بكل الإمكانيات لكن دون وهم تحقيق نصر، وأكذوبة إسقاط النظام، الذي أثبت بعد سنتين من المواجهة المباشرة مع كل الطواغيت أنه له يسقط.
لكن ما معنى أن يُسرع ناظر الخارجية الأميركية الجديد جون كيري إلى المنطقة، ويزهو مع سعود الفيصل، وينظر على محمد كامل عمرو؟
يضحك هذا الدبلوماسي هنا كثيراً ليشير إلى أن لا فرق كبيراً بين دبلوماسية كيري وسلفه هيلاري كلينتون، لكن الأمور ببساطة هو كالفرق بين عدو متهور وعدو ذكي.. وأبداً لن يكون كيري صديقاً.
وهنا يشدد هذا الرجل الذي ما زال يجول كلما سنحت له صحته على عواصم العالم الكبرى ومراكز الدراسات العالمية الكبرى، على أن القيادة السورية التي أرست منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد مفهوماً عميقاً لممارسة الحكم والسياسة، قائماً على فهم عميق للتاريخ، وللعلاقات الدولية وللإمكانيات التي يختزنها الشعب، وضعت أمامها منذ بداية الأزمة كل الوقائع والاحتمالات، وبالتالي فإن الجيش العربي السوري يصنع دروساً نوعية جديدة في العلوم العسكرية، فهو الآن يصنع الحل السياسي بخط هجومه الواسع المعاكس من دمشق إلى حلب، حيث سُجلت انتصارات نوعية قضي فيها على آلاف المسلحين، وجرح آلاف آخرين، واعتقل المئات إن لم يكن الآلاف، وكثيرون منهم من جنسيات غير سورية، وحتى غير عربية، كما سجّل الجيش العربي السوري عمليات حسم واسعة في حمص وحماه..
أما الرقة، فإذا كان الإعلام الفضائي الشريك في سفك الدم السوري، خصوصاً "الجزيرة" و"العربية"، قد أبرز هذه المعركة على الطريقة العراقية، خصوصاً لجهة إسقاط التمثال على نحو ما جرى في بغداد عام 2003، حيث تبين يومها أن بغداد لم يكن الغزو الأميركي قد أسقطها بعد، فإن هذه المسرحية لا تمر على السوريين وجيشهم، وإن كان التحالف الأميركي – التركي – القطري – السعودي يعمل بكل جهده لتوفير زاوية يحقق فيها أي نصر، ليكون زادهم في التفاوض، لكن هذا النصر لن يدوم، لعدة أسباب، أبرزها أن محاولات إلهاء الجيش السوري عن حسمه في حلب وريف دمشق وحمص وحماه لم تفلح، إذ استكمل معاركه الحاسمة فيها، بينما الرقة لن تهمَل أو تترك، والهجوم المعاكس الذي باشره الجيش سيواصل زحفه.
يستحضر هذا الدبلوماسي المبدأ الذي سبق لمونرو أن رفعه في سنة 1823، ويقول بعودة أميركا إلى الأميركيين، ويؤكد أن ثمة رأياً عاماً أميركياً واسعاً صار في هذا التوجه، لكن الأعراب يبدو أنهم عاجزون حتى عن فهم واقعهم ومصالحهم، فهل هناك من لا يعلم أن مشروع رجب طيب أردوغان هو "بلقنة" المنطقة العربية، وفي صميمها تفكيك سورية، ووصول مقص التقسيم إلى كل المنطقة العربية.. وغداً إذا عُقدت القمة العربية التعيسة في الدوحة آخر آذار، سيكون أحمد داود أوغلو ضيف شرف رئيسياً، بكل مخططه ومشروعه... فهل من يفهم من هؤلاء الأعراب؟
سورية الان - الثبات