دام برس:
منذ بدايات الأحداث في الداخل السوري، أدرك الجميع بعمق من الأصدقاء والأعداء على حد سواء أن الأحداث في هذا البلد مرتبطة "بلعبة" مخططة تستهدف إيران، حليفَ سورية رقم واحد. وبعبارة أخرى استهداف "حلقة" تكتيكية – سورية، لأستهداف الحلقة الأستراتيجية الكبرى – ايران، فقد كان فك ارتباط سورية عن إيران وتفكيك "كتلة المقاومة" التي شكلتها دمشق وطهران أحدَ أهداف الميليشيات المعارضة للحكومة في سورية والمدعومة من قوى أجنبية. فمن شأن مثل هذا الشرخ بين دمشق وطهران أن يغيرَ التوازنَ الاستراتيجي في الشرق الأوسط لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.
وفي حال فشل تحقيق هذا الهدف، يتم الاستعاضة عنه بشَل سورية لمنعها من تزويد إيران بالدعم الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والعسكري في وجه التهديدات المشتركة. فقد تمثل الهدف الاستراتيجي في منع استمرار التعاون بين الجمهوريتين، ويشمل ذلك منع بناء محطة الطاقة الإيرانية – العراقية – السورية وإنهاء الحلف العسكري بين الشريكين.
ويرى فريق من الخبراء المهتمين بكلا الملفين أو الحلقتين، بأنّ تغيير النسق السياسي في سورية لا يشكل وبأي صورة من الصور الطريقة الوحيدة أو الرئيسة، بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها، لمنع سورية من الوقوف إلى جانب إيران. كما أن الاقتتال الطائفي ليس نتيجة عشوائية لغياب الاستقرار في سورية، بل مشروعاً مساعداً عملت الولايات المتحدة وحلفاؤها على إذكائه بهدف واضح يتمثل في "بَلقنَة" الجمهورية العربية السورية، ولأسرائيل الصهيونية أكثر من أية دولة في المنطقة، المصلحة الأستراتيجية الكبرى في تحقيق هذا الهدف. ويمتلك الإسرائيليون العديد من الوثائق العلنية، بما في ذلك "خطة يينون", التي تبين أن تدمير سورية وتفتيتها إلى دويلات طائفية صغيرة يشكل أحد الأهداف الإستراتيجية وليس كلها، وينطبق الأمر والحال نفسه على المخططين العسكريين الأمريكيين.
وعلى غرار نموذج (العراق – المحتل) المجاور، ليس هناك حاجة لتقسيم سورية بشكل رسمي، إذ يمكن تقسيم الدولة والجغرافيا السورية مثل لبنان تماماً، على طول إقطاعات متعددة وامتدادات جغرافية سيطرت وتسيطر عليها مجموعات مختلفة خلال نموذج الحرب الأهلية اللبنانية، والهدف هو تحييد سورية كدولة اقليمية حقيقية وبصفتها لاعباً خارجياً.
منذ سنة 2006م – حرب تموز والهزيمة الإسرائيلية الكبرى في لبنان في تلك السنة، كان هناك تركيز متجدد على التحالف الإستراتيجي بين دمشق وطهران. فقد وقفت كلا العاصمتين بقوة في وجه المخططات الأمريكية الصهيونية في المنطقة. وقد كانت طهران وسورية لاعبَين رئيسييَن في التأثير على الأحداث في جلّ الشرق الأوسط، من شرق المتوسط إلى الخليج. فقد لعب تحالفهما الإستراتيجي دون أدنى شك، دوراً هاماً في تشكيل الطبيعة الجيو – سياسية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن نقادَ دمشق يقولون إنها لم تفعل سوى القليل لمواجهة إسرائيل، كان السوريون في هذا التحالف الشريكَ الذي حملَ العبءَ الأثقل في مواجهة إسرائيل، فسورية هي التي زودت حزب الله والفلسطينيين بالملاذات الآمنة والمعلومات اللوجستية، والعمق الإستراتيجي الحيوي ضد إسرائيل الصهيونية.
من زاوية وجهة أخرى في الحدث السوري، أسهب توضيحاً وبياناً قادة المعارضة السورية المدعومة من الخارج، أهدافَهم الخارجية التي كانت انعكاساً للمصالح التي يخدمونها. حتى أن القوات المناوئة للحكومة وقادتها أعلنوا أنهم سيعيدون توجيه سورية ضد إيران، وقد استخدموا في خطابهم هذا، لغة طائفية حول العودة إلى "فلكهم الطبيعي بين العرب السنة". و يصب هذا في مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل الصهيونية معاً. فطالما كان كسر المحور بين دمشق وطهران هدفاً رئيسياً للسعودية، ومشيخات النفط العربية والبعض العربي الآخر، منذ الثمانينيات من القرن الماضي كجزء من خطة لعزل إيران خلال الحرب الإيرانية – العراقية. وفوق ذلك، تشكل اللغة الطائفية المستخدَمَة جزأ من بنية مركبة، فهي لا تعكس الواقع، بل تعكس فكرة ورغبة استشراقية تنطوي بشكل مزيف، على فكرة مفادها أن المسلمين الذين ينظرون إلى أنفسهم كشيعة أو سنة متنافرون مع بعضهم البعض بصفتهم أعداء.
من بين قادة المعارضة السورية المدعومة خارجياً فقط، الذين يعملون على تنفيذ الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة واسرائيل الصهيونية، برهان غليون، عبد الباسط سدا، ومن هم على شاكلتهما من تلك المسامير الصدئة، في أحذية اتباع اتباع المشروع الصهيو – أمريكي في المنطقة. هذا وقد تحدث برهان غليون الرئيس السابق ﻠ "المجلس الوطني السوري" في اسطنبول المدعوم من الخارج ﻠ "وول ستريت جورنال" في سنة 2011م:- إن دمشق ستنهي تحالفها الإستراتيجي مع إيران وتوقف دعمها لحزب الله والفلسطينيين حالما تسيطر القوات المناوئة للحكومة على السلطة. وقد قامت شخصيات المعارضة هذه, المدعومة من الخارج, بتعزيز السرود العريضة التي تزعم أن السنة والشيعة يكرهون بعضهم البعض. وبالتزامن مع ذلك روجَ الإعلام الرسمي في البلدان التي تعمل على تغيير النظام في سورية, مثل الولايات المتحدة وفرنسا، أن النظام في سورية هو نظام علوي متحالف مع إيران، لأن العلويين فرع من الشيعة. وهذا أيضاً غير صحيح، لأن سورية وإيران لا تشتركان في إيديولوجية واحدة؛ إذ إن تحالف البلدين ناتج عن تهديد مشترك وأهداف سياسية وإستراتيجية مشتركة، كما أن سورية لا يقودها نظام علوي؛ إذ تعكس بنية الحكومة التنوعَ الإثني والديني للمجتمع السوري.
وفيما يتعلق بالكيان الصهيوني الطارىء على الجغرافيا والتاريخ في المنطقة، والطارىء حتّى على ذاته ونفسه، يرى أنّ الموضوع السوري يتعلق بإيران وكلاهما موضوع واحد. وكأنه لا علاقة لتل أبيب بما يحدث في سورية، يصر المعلقون والمحللون الإسرائيليون الآن, وبشكل علني، أن إسرائيل بحاجة إلى التعامل مع إيران من خلال التدخل في سورية. وقد تبلورَ التورط الإسرائيلي في سورية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والناتو في العام المنصرم 2012م. وكان واضحاً أن إسرائيل تعمل في مجموعة مكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا والناتو والسعودية وقطر والبعض العربي الأخر وتحالف 14 آذار الذي يشكل الأقلية اللبنانية، والمغتصبين المدعومين من الناتو الذين سيطروا على الجماهيرية العربية الليبية ودمروها وقتلوا زعيمها العربي البدوي معمّر القذافي.
تتحدث معلومات استخبارية سرّبت مؤخراً:- (...على الرغم من وجوب التعامل مع الموضوع بحذر، إلا أنه من المفيد الإشارة إلى نشر الرسالة المقرصنة التي أرسلتها ريڤا بالا، العاملة في "شركة التنبؤات الإستراتيجية"، إلى رئيسها، جورج فريدمان، حول اجتماع عقد في كانون الأول/ديسمبر 2011م في البنتاغون بينهم (ممثلة عن مركز "ستراتفور") ومسؤولين أمريكيين وفرنسيين وبريطانيين حول سورية. وقد زعمت الرسالة أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد أرسلوا القوات الخاصة العسكرية لزعزعة سورية في سنة 2011م، وأنه ليس هناك الكثير من القوات السورية المناهضة للحكومة على الأرض أو، كما كتبت بالا: "ليس هناك أعداد كافية لتدريبها في ‘الجيش السوري الحر’." وبعد ذلك بوقت قصير نقلت "الديلي ستار" – التي تملكها عائلة الحريري اللبنانية التي تورطت في عملية تغيير النظام والنسق السياسي في سورية – أنه تم القبض على 13 ضابطاً فرنسياً من قبل السوريين يعملون، تحت غطاء سري، على إدارة العمليات في حمص. وبدلاً من النفي الفوري للمعلومات التي تفيد بالقبض على الضبّاط الفرنسيين، جاء رد وزارة الخارجية الفرنسية للجمهور بأنها لا تستطيع أن تؤكد أي شيء، مما يمكن تحليله بمثابة اعتراف بالذنب.
وقبل ذلك بعدة أيام، كشفت قناة "المنار" التابعة لحزب الله أن أسلحة ومعدات إسرائيلية، من القنابل والمناظير الليلية إلى وسائل الاتصال، قد ضُبطت مع عملاء قطريين داخل حي بابا عمرو في حمص في أواخر نيسان ومطلع آذار. كما أكد مسؤول أمريكي، لم يكشف عن اسمه، لاحقاً في تموز 2012م أن "الموساد" يعمل جنباً إلى جنب مع "سي آي إيه" في سورية. وقبل ذلك بشهر واحد فقط، في حزيران بدأت الحكومة الإسرائيلية تطالب علناً بالتدخل العسكري في سورية من قبل الولايات المتحدة ومجموعة الحكومات التي تعمل مع إسرائيل لزعزعة سورية.
كما بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية الصهيونية بنشر تقارير عَرَضية تفيد أن مواطنين إسرائيليين، على الرغم من تحديد هوية أحدهم كعربي إسرائيلي (أي فلسطيني يحمل جنسية إسرائيلية)، قد دخلوا إلى سورية للقتال ضد الجيش السوري. في العادة, عندما يدخل أي إسرائيلي – وخاصة من العرب غير اليهود – إلى لبنان أو/و سورية سرعان ما تتم إدانته ومعاقبته من قبل السلطات الإسرائيلية الصهيونية، ويترافق ذلك مع تغطية إعلامية إسرائيلية للقصة. ولكن لم يحصل ذلك في هذه الحالة، ويجب التنويه أيضاً إلى أن الفلسطينيين المناوئين لإسرائيل المقيمين داخل سورية يتعرضون للاستهداف، كما تم استهداف الفلسطينيين المقيمين في العراق بعد الغزو الأمريكي والبريطاني في سنة 2003م بالأشتراك مع بعض العرب والعربان.
إن الصراع في سورية العربية ليس شأناً إسرائيلياً فقط، فالنزيف البطيء في سورية يهم أطرافاً أخرى تريد تحطيم الدولة السورية ومجتمعها إلى أجزاء متناثرة، والولايات المتحدة أحد أهم هذه الأطراف، يليها الدكتاتوريون العرب في المشيخات النفطية، كمستحثّات بشرية ورخويّات آدمية وزواحف، كما أن الناتو كان دائماً متورطاً فيما يحدث بشكل سري.
إن تورط الناتو في سورية جزء من إستراتيجية الولايات المتحدة في استخدام التحالف العسكري للهيمنة على الشرق الأوسط، ولهذا السبب تم اتخاذ القرار بنصب جزء من الدرع الصاروخي في تركيا، ولهذا السبب أيضاً يتم نشر صواريخ "باتريوت" على الحدود السورية مع تركيا، كما أن "مبادرة اسطنبول للتعاون" و "الحوار المتوسطي" برعاية الناتو من مكونات هذه الخطط أيضاً، وإضافة إلى ذلك، ألغت تركيا "الڤيتو" الذي سبق أن استخدمته ضد انضمام إسرائيل الصهيونية إلى الناتو.
يعيد الناتو توجيه نفسه نحو الحرب غير المتساوقة، كما يتم التركيز الآن على العمليات الاستخباراتية، وقد انكبَ المخططون الإستراتيجيون في الناتو وبشكل متزايد، على دراسة الأكراد والعراق وحزب الله وسورية وإيران والفلسطينيين والنسيج الديمغرافي الخليط في الأردن. وفي سيناريو الحرب الشاملة، يحضر الناتو نفسه لأدوار عسكرية سرية في كل من سورية وإيران ثم في الصراع العربي الأسرائيلي، والذي تم اختصاره قصداً من بعض العرب بالمسار الفلسطيني – الأسرائيلي ضمن ما تسمى بعملية السلام في المنطقة.
هذا ويتم العمل أيضاً على زعزعة العراق - المحتل بشكل أكبر، فبينما تم اختبار حلفاء إيران في دمشق، لم يتم اختبار حلفائها في العراق بعد، فبعد سورية، سوف يتحول اهتمام مجموعة الدول التي تعمل ضد سورية إلى العراق، وقد شرعوا سلفاً في تحريك العراق على أساس خطوط التماس الطائفية والسياسية، وتلعب تركيا وقطر والسعودية أدواراً هامة في تحقيق هذا الهدف، والواضح الآن هو أنّ الفروق بين المسلمين الشيعة والمسلمين السنة التي عملت واشنطن على تعميقها منذ الغزو الآنغلو – أمريكي للعراق في سنة 2003م تتفاقم الآن عبر الطائفية الكردية.
يبدو أن الكثيرين في المؤسسة السياسية الإسرائيلية الصهيونية، يعتقدون الآن أنهم نجحوا في تحطيم "كتلة المقاومة" ومحورها، وسواء كانوا على صواب أم لا، فهذا موضوع خاضع للنقاش والتحاور والتداول، لا تزال سورية واقفة على قدميها، و "حركة الجهاد الإسلامي" الفلسطينية (التي كانت المجموعة الفلسطينية الأكثر نشاطاً في محاربتها لإسرائيل من غزة في 2012م)، وفصائل فلسطينية أخرى سوف تقف مع إيران حتى لو تمكنت مصر من تقييد يدي "حماس"، وهناك أيضاً حلفاء إيران في العراق، كما أن سورية ليست خط الإمداد الوحيد لإيران لتسليح حليفها حزب الله، الواضح أيضاً أن الحصار والحرب الكونية على سورية هي واجهة في الحرب السرية متعددة الأبعاد ضد إيران. ومن شأن هذا وحده أن يدفعَ الناس إلى إعادة التفكير، في تصريحات المسؤولين الأمريكيين وحلفائهم حول قلقهم على الشعب السوري على أساس من الإنسانية والديمقراطية.
هناك مرحلة إستراتيجية في حرب البنتاغون السريّة ضد طهران وعليها، حتّى وقبل الأنتهاء من الملف السوري ضمن الخيارات المحدودة والمحصورة عبر التسويات السياسية الراهنة.
: المحامي محمد احمد الروسان*
*عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية*
www.roussanlegal.0pi.com