ويحاول المعارضون أن يوصلوا الناس الى ذلك الشعور بالحرج من قول الحقيقة بحق الرئيس الأسد وحرمانهم من انطلاق العفوية على سجيتها في قول آرائهم دون حدود أو قمع .. أي أن يستحي المثقفون والناس على امتداد الساحة العربية من ذكر أي مديح للرئيس الأسد عندما يقدم عملا وطنيا بامتياز لأن ذلك سيصور مؤازرة للجريمة والديكتاتورية ..
يفعل الثوار هذا ليس فقط من باب الحرب النفسية بل لأنهم باختصار لاعلاقة لهم ببناء مجتمع حر وهم يريدون مصادرة الحريات وممارسة الاستبداد كنهج أصيل في حركتهم فالثورة التي تفشل لاتستطيع وللمفارقة الاستمرار الا بممارسة الاستبداد .. ولأنهم أيضا لم يعودوا يقودون ثورة بل عملية تطهير عرقي للأفكار والآراء التي ليست تنتمي الى عرق أفكارهم الشاحبة التي استعدت كل شرائح المجتمع السوري الى حد غريب ..
فالمعارضة الحقيقية الأصيلة التائقة للحرية هي من تسعى ماأمكن الى فرض أقصى مايمكن من خطوات ديمقراطية على السلطة كمرحلة أولى اذا كان ذلك يجنّب الناس المعاناة والأزمات ..أما منطق التشنج وعدم التزحزح عن مطالب ليست أصيلة بل هي املاءات قوى أخرى فانه يعني أنها تغامر بمصير كل المجتمع وخاصة مجتمعها الحاضن لها ليصبح منبوذا من قبل أكثرية ساحقة لن تنظر طويلا الى جمهور المعارضة نظرة تفهم ودية بل نظرة مجتمع مأزوم أناني مغامر ومقامر بكل الوطن من أجل تصوراته هو ولاهوتياته السياسية التي لاتنتمي الا اليه .. انه يشبه الوقوف على أعلى نخلة والطلب من الجميع الصعود اليها لتناول البلح فيما القافلة تريد المسير الى واحة أخرى ..هذا طلب المغامرين المراهقين الذين تتركهم القوافل معلقين على أعلى النخلات وتمضي دون الاكتراث بهم ..
فالثناء على الرئيس الأسد اثر أي مبادرة أو عمل ايجابي لتشجيعه على المزيد هو عمل ايجابي يجب النظر اليه بايجابية ووطنية طالما أنه يختصر رحلة الدم على الجميع .. لكنه كما يبدو موقف ممنوع في منطق المعارضين .. ومحور الشر يريد أن يتردد الناس حتى في قول مشاعرهم العفوية والتعبير دون عوائق نفسية عما يحسون به من ايجابية ومن سلبية تجاه المبادرات والخطابات الرئاسية اما بترهيبهم فكريا وتسخيفهم أو تأثيمهم وتحميلهم شعور من يتستر على الجريمة .. أو يشارك فيها .. التأثيم أو التهديد بالسلاح .. لقتل أي رأي آخر واجتثاثه .. الاستبداد الثوري لاينجب الا استبداد الثورات وقد يبرر استبداد الدولة لحماية المجتمع .. فالناس في هذه الحالات ستفضل استبداد الدولة على استبداد العصابات ..
في خطاب الأسد الاخير .. لم يفاجئني الرئيس الأسد كثيرا بهدوئه لكنه فاجأني بكم الواقعية والتحليل العميق للأزمة والاعتراف بكل حقائقها وأبعادها ..
الكثيرون من الموالين للدولة وفي معسكر الوطن (وخاصة بعد انطلاق تسريبات عن تأنيب قوي تلقاه كوفي عنان في لقاء الرئيس الأسد الذي اشيع أنه لوّح بالرد الغاضب على دول محور الشر العابثين بالأزمة السورية) توقعوا خطابا ناريا غاضبا بعد مسرحية مجزرة الحولة القذرة التي استخدمت دم الضحايا بدناءة وخسة ونذالة رغم أنهم قتلوا بيد عصابات المعارضة عمدا لغاية واحدة وهي اخراج مشهد سينمائي يحتاجه مجلس الأمن .. توقع الناس أن يسمعوا الرئيس يرفع من لهجة التهديد والوعيد وأن يضع سيناريوهات الحرائق في الشرق ..وأن يقوم باستعراض العضلات العسكري الحقيقي لترهيب الخصوم الخارجيين وتثبيت الرسالة للمسلحين الداخليين بأن عليهم انتظار قدر أسود ..
ولكن في الحقيقة لو فعل الرئيس ذلك صراحة لأصابني قلق من أنه ربما يرفع حدة خطابه لأنه قلق وأننا دخلنا المرحلة الخطرة .. لكن صوته الهادئ ولغته المنتقاة بعناية بعيدا عن العنف دلتني بقوة على متانة موقفه ورسوخه في الثقة المطلقة بالنفس والامكانات .. فالتهديد يرتفع عندما ينخفض مستوى الثقة بالنفس والامكانات كما تهديدات اسرائيل لايران وحزب الله .. تهديدات صارت مملة ومثيرة للسخرية وكلما ارتفعت حدتها عرفت أن مستوى الثقة الاسرائيلية بالنفس ينحدر وان "براغي" الرعب الاسرائيلي لم تعد ثابتة وتحتاج تثبيتا .. ومايدل على ذلك أن السيد حسن نصرالله بدل تجاهل التهديد يضطر للرد بمثل النبرة العالية ..لأن الرد العالي على التهديد العالي يؤكد أن من بدأ التهديد لايخيف الخصوم...
كان الكثيرون يتمنون أن يسمعوا خطابا فيه الوعيد والرغبة بالقصاص يعكس قوة قي الموقف خاصة أنني أعرف بالتفاصيل أن موقف الرئيس الأسد الدولي والاقليمي قد تمكن من فرض نفسه وأنه في معادلة دولية لصالحه تماما بغض النظر عن ثرثرات المعارضين واستهبالهم للناس .. وأعرف أنه لديه كل المعطيات التي تجعله يقتلع التمرد وأن يجعل حملة السلاح يسعون على ركبهم يطلبون الغفران والعفو اذا ماأطلق عليهم قسوة الجيش الغاضب الذي يمنعه الرئيس حتى الآن من ممارسة رد الفعل العارم وذلك ليبقى تاريخ الجيش بلا لوثات عسكرية كما حدث في الثمانينات .. ففي الثمانينات ضرب رفعت الأسد وقبله عبد الحليم خدام المتمردين وحاضنتهم الاجتماعية دون تمييز .. والفرق اليوم أن الرئيس بشار الأسد يريد ضرب المتمردين المسلحين دون حاضنتهم الاجتماعية (على قلتها) .. لأنه مؤمن أن الحاضنة التي تضرب بقسوة ستحضن تمردا آخر وتخبئه لجيل قادم يكرر نفس الأزمات ..ويكفي الالتفات الى ارقام الضحايا في هذه الأزمة حتى على فرض أن أرقام المعارضة غير مبالغ بها وهي 13 ألف ضحية ..ونصفها على الأقل من الجيش وجمهور المحايدين ومعسكر السلطة ..أي سقط من موالي المعارضة 6000 ضحية تقريبا .. قسم كبير منهم مسلحون ..وهذا الرقم (رغم قسوته وطنيا) خلال 14 شهرا لايساوي خسائر بضعة أيام قتال في الثمانينات في شوارع بعض المدن التي أعلنت العصيان..
الرئيس الأسد اكتفى بالحديث بصراحة عن الأزمة وتفاعلاتها الداخلية الآنية والمستقبلية وعن انفلاتاتها الأمنية وانفجاراتها الأخلاقية وامتدادها على نفسية الجيل القادم بترويج ثقافة الارهاب والتمرد الفوضوي والانفصال عن الوطن للالتحاق بالشظايا والفتات الوطني ..
انه منطق رجل الدولة الكبير والرجل الذي يخشى على المستقبل البعيد للسوريين كما يخشى على الحاضر السوري .. ولذلك تركز الجهد على أنه يجب العمل على أن تتحول الحاضنة - على محدوديتها - الى حركة سلمية تنأى بنفسها عن العمل المسلح وهذا حقها في الحرية في التعبير السياسي .. انها عملية تنظيف عقل الحاضنة من التلوث النفسي والاعلامي والدعائي الأسود الذي يدفع بالحاضنة الى حافة الهاوية والى الكارثة ..وأقل هذه الكارثة أن تتم معاملتها بعد هزيمتها على أنها منبوذة سوريا على نطاق واسع ..وهو بالنتيجة سيفتح جراحها وعنفها من جديد في أي مستقبل قادم ..وتصبح دائما تربة لكل من يريد زراعة الحشيش والخشخاش السياسي..
ومع ذلك فان من قرأ الخطاب بموضوعية المراقب المحايد من خارج المعارضة السورية وجد أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة ولايجب الاطمئنان اليه من قبل خصوم الاسد الرئيسيين في الخارج.. فالأسد ترفع عن الثأر والتهديد وكأنه يتوقع أن تندلع المنطقة تلقائيا .. وعندها لن يلام السوريون الذين قالوا على لسان رئيسهم انهم لايريدون سوى ارسال رسائل الحرية الى المحيط .. أما العنف القادم الى تلك البلدان فهو عنف تسببت به طريقة تصدير الازمات نحو سورية فاذا بها ترتد اليهم .. الأزمات التي قرأها الأسد وأحس بدنوها من تلك الدول عاجلها بنصيحة التعلم من رسائل الحرية السورية وليس من رسائل العنف والتهديد..
الغريب ان قلب المعارضة وهو اسلامي سلفي لم يتلقف لغة التسامي على الجراح وكأنه لايعرف شيئا عن دروس الديبلوماسية النبوية الا عندما يتعلق الأمر بالصلح مع اسرائيل والجنوح للسلم وحيث يستخرج صلح الحديبية كمثال نبوي لايحاد عنه .. ولا يبدو أن المعارضة الاسلامية تعرف كيف يستفاد من دروس الديبلوماسية النبوية ربما لأن هذه المعارضة لاتملك من أمرها شيئا وهي مسيّرة لامخيّرة في قراءتها السياسية .. ولاشك أن هناك أثمانا لاتستطيع تجاوزها لأنها رهنت قرارها بالتدخل والدعم الخارجي ..
ففي السيرة النبوية في فتح مكة درس عظيم من دروس الديبلوماسية النبوية .. فرغم أن ألد اعداء الرسول الكريم طوال الدعوة المحمدية كان "أبو سفيان" نفسه .. فقد تخلى الرسول عن الرغبة بالتشفي منه ومن خصومه القدماء .. بل انه عندما لمس ايجابية لعملية استمالة أحد سادة قريش الكبار وهو أبو سفيان - لحقن الدماء - تغاضى الرسول الكريم عن عداوة عشرين عاما وقال: "من دخل الكعبة فهو آمن ..ومن دخل داره فهو آمن .. ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.."..أي ساوى بين الكعبة ودار أبي سفيان..الخصم المر..
أي بالمفهوم الديبلوماسي تخلى الرسول عن المطالبة بالسقوف السياسية القصوى المتاحة وفي معاقبة الخصوم الرئيسيين وهو المنتصر وفي موقف اليد العليا .. وتنبه الى أن شخصية أبي سفيان ومكانته في قومه القرشيين ونفاذ كلمته لايجب اغفالها وتجاهلها .. بل يجب الاستفادة منها في تجنيب مكة حمامات الدم .. ولاأدري كيف كنا سنذكر فتح مكة اذا أصر الرسول أو استجاب لدعوة "الراديكاليين" من الصحابة حوله لقتل غريم الدعوة الرئيسي الذي كان رأس الحربة الحادة ضد الدعوة في كل مراحلها .. فربما كان لأبي سفيان أنصار ومخلصون في مكة وخارجها ينظرون اليه كرمز وزعيم .. وربما انشغلت الدعوة خلال أيام من تصفيته بالثارات ورد الثارات بدل الانصراف للتوسع والفتح .. ماذا لو استجاب الرسول للدعوة بالثأر الموثقة تاريخيا من أحد أكثر الصحابة تأثيرا وهو عمر بن الخطاب ..عندما شاهد الأخير أبا سفيان على بغلة الرسول البيضاء خلف العباس وهو يدخل معسكر النبي للتفاوض على تخوم مكة .. اذ تقول كتب السيرة (كما ورد في كتاب الاستاذ حسن العلوي: عمر والتشيع - ثنائية القطيعة والمشاركة) :
ولما مرّوا بنار عمر بن الخطاب (والنار تعني الحاجز العسكري). فقال عمر: من هذا؟ وقام.. فلما رأى أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة، قال عمر: "انه أبو سفيان عدو الله ... الحمد الله الذي أمكن الله منك بغير عقد ولا عهد". ثم خرج يشتد نحو رسول الله، وركضت البغلة فسبقته... فدخل العباس وعمر على الرسول.. ودخل عمر، فقال: "يا رسول الله.. هذا أبو سفيان.. فلأضرب عنقه".. وكان عمر في حضرة الرسول يكثر في شأن أبي سفيان ويفصل القول لتبرير ضرب عنق أبي سفيان..
بشخص في منظور هذا الزمن يصنف في "عيون خصومه" وتوصيفاتهم "الثورية" على أنه مجرم حرب..
لكن كانت النتيجة في الديبلوماسية النبوية أن من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن..
من لايقبل بالرأي الآخر والتصالحية والتعالي عن الحقد هو من يقود نكوصا الى عصر بدوي وجاهلي والى منطق (وما أنا الا من غزية ان غوت ..غويت، وان ترشد غزية أرشد).. أي دولة من قياس مشيخات النفط المحتلة .. حيث الشيخ يتزوج من كل نساء القبيلة وينجب قبيلة من أولياء العهد .. ويشتري اليخوت والخيول والاولمبياد ويؤجر الجزر للطائرات الغربية .. ويسمل عيون المعارضين .. ويرقص له الجميع بالسيوف .. وفي المساء يبتهلون بالدعاء لطويل العمر بأن يطول كل شيء له ..العمر والحكم و ...كل شيء في ذلك المساء..
الخطاب الرئاسي السوري كان اذا هادئا مطمئنا وهو خطاب رجل الدولة الذي يدير أزمة ولايدير طاحونة لجرش كل الداخلين في اللعبة السياسية .. وهو خطاب الرجل القوي العملاق بأخلاقه والذي يجسد الانتماء للجميع "الوطني" .. وفيه اللغة التصالحية البعيدة عن الاستفزاز .. ومليء بالرغبة في اطلاق ممارسة الحكم على أسس الدولة وليس الحزبية ومنطق العسكر والطوائف..
ولأنني اعرف المعارضة ورهط المصفقين لها فقد حدث ماتوقعت واكتفيت بسماع ردود افعالها وتوصيفاتها التي انتقت كل مفردات العيب والشحوب لوصف الخطاب .. لم يبق في اللغة العربية كلمة بائسة سلبية لم تستعمل في توصيف الخطاب .. أنها معارضة هزيلة للغاية وضامرة أخلاقيا وليس فيها مفكرون ولاواضعو سياسة بل مترجمون مراهقون لمقررات تكتب في مراكز سياسية غربية ..لقد عجزت هذه المعارضة عن التقاط أي كلام توفيقي وعجزت عن قراءة لغة التسامي فوق الجراح .. وقامت باحراق الخطاب حيا ورقصت حوله كما قبائل الأدغال الافريقية ترقص حول النار المقدسة بهمجية .. جذلى .. قبل وليمة أكل للحوم البشر
المعارضة السورية لاتعنيها معاناة جمهورها ولامعاناة الناس في وطنها لاتبحث مثلا عن حلول وسط ولاتريد حتى الاشارة الى نقطة ايجابية حتى لغويا .. وانتقت عبارات بعينها وجلدتها وعذبتها لتقول انها عبارات تهديد وعنف ثم حقنتها بالمازوت والكيروسين كما يفعل الثورجيون مع كل مايخطفونهم ويجبرونهم على الانشقاق القسري .. لينتزعوا براءة اختراع بالاعدام بالحقن بالمازوت لم يسبقهم اليه اي نظام ديكتاتوري على الاطلاق ..منذ الحجاج وحتى مملكة عبد العزيز آل سعود ووريثه "أبو متعب" في الحجاز "المحتل"..الذي يصدر المازوت للعالم كله..
ماتريده المعارضة صار واضحا للغاية ..المعارضة تريد الرئيس الأسد أن يرتكب مذبحة كبرى ..انها تدفع جمهورها الى الموت ولاتمانع من التضحية به وتتمنى أن يؤدي الضغط على عقل الرئيس الأسد وغضبه لتكرار مأساة الثمانينات ..هذا ايضا اختراع لم تسبقها اليه معارضة في الدنيا ..معارضة تريد مذبحة لجمهورها ..ان لم يقم بها الجيش فليقم بها جمهور السلطة في رد فعل طائفي بدليل ترويج ان مذبحة الحولة كانت ردا على مجزرة طائفية .. وعملية الحولة وكل ماسبقها من تحريض ديني واستعمال للرموز الطائفية والدينية كل ماتريده المعارضة هو مذبحة كبرى يقوم بها أي من الفريقين تحرج العالم والروس وتضغط نحو القبول بمكافأة المعارضة في نقل السلطة الى أي شخص .. يعني حتى نائب الرئيس صار حلا ..دون تغيير أي شيء في النظام..لاحرية ولا ديمقراطية..
وهذا لايدل على أن الغاية هي تلبية المطلب العزيز في الحرية والديمقراطية للأزمة بل هي عملية تأديب لشخص بعينه بقرار قوى كبرى تلعب اللعبة الداخلية في سورية .. لقد تأدب العالم بدرس صدام حسين الذي تجرأ بالجلوس الى مائدة الكبار وقال انه يريد اللعب مع الكبار وهدد باحراق نصف اسرائيل .. وكان مصير الرئيس صدام حسين ومشروعه الطموح ومصير عائلته التي تشتتت درسا قاسيا للغاية .. مثله مثل درس الأمير فخر الدين المعني الثاني في لبنان الكبير الذي انتهى طموحه بالاستقلال عن ارادة الباب العالي بالقائه مع ولديه من أعلى أسوار استانبول الى البحر وهم مقيدون الى كتل حديدية ضخمة ..
وكان قبله درس الرئيس عبد الناصر الذي تم تحطيم كبريائه القومي في حرب الهزيمة المذلة ..وأخيرا كان درس الرئيس القذافي وهو الأقسى في همجيته لأن القذافي كان يتحدث صراحة عن الاشياء دون مجاملة رغم جميع المآخذ على طريقة حكمه.. وكانت لديه ميول يعرفها الغرب من أنه ما ان ينقلب التوازن الدولي حتى ينقلب وهو الشهير بتقلباته وتموجاته بين العروبة والافريقية والاشتراكية والرأسمالية..
فالرئيس الأسد كشخص تجرأ على المحظورات الكبرى لكنه الرئيس الذي يخيف الغرب لأنه ورث مدرسة سياسية معقدة للغايية ولها تحالفاتها الذكية المدروسة بعناية .. وهو يتفرد عن غيره من الرؤساء بكونه شابا التف حوله الشباب الطموح .. ونوع الشباب الذي تحلق بالرئيس هو شباب متعلم متنور مثقف يمكن أن يعتمد عليه في عملية اليقظة العربية الثانية والكبرى بعد سبات طويل في صراعات الايديولجيات والمدارس السياسية المراهقة على امتداد الشرق التي لاتفهم العمل السياسي الا بتقليدية وكلاسيكية القرن التاسع عشر .. والأهم أن الرئيس الأسد أعلن تحالفا مع العدو الأكبر للولايات المتحدة واسرائيل وهي ايران .. وتحدى مشروع المحافظين الجدد في العراق مع أحمدي نجاد الذي هتك عرض أقدس اقداس الغرب وهو انكار المحرقة اليهودية علنا وعدم التراجع عن مشروعه النووي .. والرئيس الأسد كذلك مد يده لحسن نصر الله ومكنه من اذلال اسرائيل والغرب كله ..
وربما كان الخط الأحمر هو اعادة الاعتبار لدور روسيا وللسلاح الروسي في الشرق بعد غيبوبتها مع يلتسين .. فروسيا تعود الى الشرق من بوابة الرئيس بشار الأسد .. وهذه حقيقة لايمكن اغفالها وتجلى هذا التنسيق في حرب 2006 التي كشفت هذا التنسيق والتناغم .. وكانت تلك الحرب هي بداية ارتفاع الصوت الروسي الذي صار يثق بحلفائه المنتصرين ..
وأخيرا .. كان الأسد هو من أعاد احياء خطاب عبد الناصر ضد الحكام العرب في تلك الحرب وأعطى التوصيف الدقيق لهم دون مجاملة وهو "أنصاف الرجال" .. وهذا ايضا هدم معنوي قاس لمنظومات الحكم التي تعتمد عليها الولايات المتحدة .. وكانت هزيمة 2006 والحفاظ على غزة سببا في اضفاء الصدقية على هذا التحقير لحكام العرب وربما سببا في الموافقة على مشروع التغيير الشامل أو الجزئي والاتيان بمنظومة جديدة "ثورية" تمارس التضليل السياسي والتهريج الثوري .. التضليل على جمهور وجد أنه لا يستحق أن يحكمه أنصاف رجال.. وأنصاف أطفال.. تضليل يضيع فيه الرجال مع أنصاف الرجال..وأشباه الرجال ..
لكن .. الزمن لم يعد معنيا بتأديب الزعماء والمشاريع الوطنية الطموحة بل زمن يعنى بتأديب الايديولوجيات الصلفة والحمقاء والمتهورة ..وتأديب بحر النفط الذي تجبر وطغى وأراد أن يقنعنا أن لونه الأسود وقوامه اللزج الثقيل أجمل وأبهى من لون جبهة البحر الأبيض المتوسط الزرقاء ورشاقة موجها .. وللزمن قول سيقوله ..في حينه..
نارام سرجون