اما وان الاوضاع في جرمانا ليست كما أملت بها السيدة " مهى " والدة صديقتنا ديما فالعودة الى حمص لا بد منها.
وكانت العائلة المكونة من شابين وفتاة والوالدة قد تركوا مدينة حمص وانتقلوا الى دمشق على اعتبار ان فترة الغياب لن تطول، فمن " لم يمت في الانشاءات حيث منزل العائلة، رأى الموت في بعض الاحياء الاخرى" . لذا فضلت تلك العائلة الحمصية اللطيفة والمتوسطة الحال (الوالدة اكاديمية تمارس التعليم الجامعي واعمالا استشارية هندسية حرة ) ان تنتقل الى دمشق هربا من صعوبات بدت بلا نهاية مع بداية حصار الجيش السوري للمسلحين في حي بابا عمرو" . وبابا عمرو يفصله عن حي الانشاءات " اوتستراد" لا يزيد عرضه عن اثني عشر مترا.
منطقة الانشاءات يمكن تشبيهها بمنطقة " المالكي" في دمشق (الى حد ما)، اغلب عائلاتها من الطائفة السنية، واغلب بيوتها تمليك ، ما يعكس مستوى لا بأس به من الراحة المادية.
لذا لم تنضم تلك المنطقة الى الثورة الا متأخرة وضد المحافظ لا ضد النظام، وقد طالب من تظاهر من اهاليها بشكل واضح باسقاط المحافظ فقط ولم يتطرقوا في هتافاتهم الى النظام . بقي الامر كذلك 6 اشهر الى ان سقطت اول ضحية وهو مسيحي من ال " نقرور" يعمل صائغا ويملك محلا في السوق المسقوف (حمص القديمة) ولكن منزله قائم في " شارع البرازيل " في " الانشاءات ".
المضحك المبكي ان الضحية (الصائغ نقرور) يفترض ان دمه اشعل الثورة في الانشاءات ولكن تطورات لاحقة اثبتت ان من قتله نشطاء يسميهم بعض الشعب في حمص " ثوارا " ولكن فعائلهم تثبت انهم " ارهابيون "، وبعد ان اعتقلهم الجيش في
" بابا عمرو" اعترفوا بان قتل " الصائغ نقرور" تم لاسباب طائفية وايضا لسرقة امواله.
لم يأبه احد ممن تظاهروا في الانشاءات في بداية الانتفاضة الى امكانية مقتل الرجل على يد من لا علاقة لهم بالدولة، ولكن في وقتها ولشدة التوتر، ولسهولة خداع القنوات الاعلامية والصفحات الالكترونية للمواطنين، ولوجود شباب ناشط مدرب و متحمس ومتمرس على اساليب الدعاية وتسويق الاشاعات(البركة في الجمعيات الاهلية الممولة من السفارات الغربية).
بث الاكاذيب في الانشاءات اشعل التظاهرات، وقد نجحت مجموعات شبابية في تسويق الامر وفي تحريض الناس، وهو امر يستحق الدراسة مستقبلا. فهنا بعض من شعب جرى خداعه بالأكاذيب التي تدرب على نشرها واستثمارها شباب سوري سقط في يد منظمات " انسانية " عملت في سورية علنا واحيانا (اونلاين) وجندت شبابا وشابات وارسلت كثيرون منهم الى اربع جهات الارض بحجة المشاركة في دورات صحافية او نشاطات شبابية او ندوات تدريبية، منذ عقد على وجه التقريب. وقد تكثفت هذه الجهود الغربية التي تملك ادوات محلية قبل اندلاع الحراك الشعبي ، والملفت انها منظمات محلية كانت تقوم باستقبال مدربين اجانب واحيانا بتنظيم من هيئات ترعاها الدولة. العمل التطوعي وتحسين القدرات البشرية والترويج لقضايا التنظيم المجتمعي والتنمية البشرية كانت مواضيع تعاون مع السوريين من قبل الغرب ولكنها كانت وسيلة الغربيين لتشكيل اولى المجموعات – التنسيقيات المهتمة بالاعلام الاجتماعي منذ سنوات ما قبل البدء بالحراك.
هؤلاء الناشطين المدربين سوقوا في " حي الأنشاءات" بأن القتيل (الجواهرهجي من ال نقرور ) قتله الشبيحة الموالين للنظام . وهذا مثال عما حصل في عدد كبير من المناطق السورية، والسؤال دائما، مع العدد الكبير من المنشقين عن القوى الامنية والعسكرية السورية (الاف الجنود وعشرات الضباط) هل من الممكن ان نقول بأن بعض المنشقين عملوا على المشاركة مع الارهابيين في عمليات قتل متبادل لتسويق ثورة بدا ان الدم فقط هو وقودها؟
قصة هذا الرجل (من ال نقرور) تعكس قوة " تنظيم " و" تحضير" و" تخطيط " من ساعدوا " الثورة " التي يصفها البعض بـ " الفورة الوهابية " على الانطلاق وعلى اكتساب ولاء قطاعات من الناس، فلو قامت الدولة وقتها بحملة اعلامية مضادة لما خرجت التظاهرات في حي الانشاءات على سبيل المثال، ولو اقيل المحافظ في الاسبوع الاول من التظاهرات (في المناطق الحمصية الراقية) لما بقي متمول حمصي يمول الثورة الوهابية.
في بداية تموز 2011 خرجت تظاهرة في شارع " البرازيل " وكانت تضم حوالي المئة شاب من سكان " حي الانشاءات " ، احدهم وهو من قادة التنسيقيات في " الانشاءات" ولكنه كان قد خضع لدورة تدريب عسكرية في حي" بابا عمرو" صنع قنبلة مسمارية بهدف رميها على الامنيين حين يحاولون قمع التظاهرة .
وصلت قوى الامن السورية الى مدخل "شارع البرازيل" والتقوا مع التظاهرة على مقربة من " مستشفى الحكمة " وعلى مقربة من الفرن الآلي في الشارع .
حاول الشاب القاء القنبلة المصنوعة يدويا فوقعت بين ارجل رفاقه فقتل اثنان وجرح عشرة ( العبوة ممتئلة بالمسامير).
الضحايا جميعا كانوا شبانا من "حي الانشاءات"، ولم يكن لاهل تلك المنطقة اي باع لا في السياسة ولا في الاعتراض، ولم يكن يهمهم من الثورة الا كف يد الفاسدين عن حياتهم وعن مشاريعهم التجارية، و ان يتوقف سماسرة يعملون لمصلحة المحافظ عن ابتزاز رجال اعمال كانت اعمالهم تتوقف الى ان يقبلوا بمنح نسبة نقدية او عينية من اعمالهم للمحافظ السابق اياد غزال حتى يمرر التراخيص اللازمة للبدء بالمشروع.
لإستغلال هذه الحادثة و لتسعير العداء بين الدولة والناس عمل ناشطون من حي "بابا عمرو" على اختطاف شابين وفتاة من منطقة عكرمة واعدموهما في مكان التظاهرة واعلنوا لاهالي المقتولين من " حي الانشاءات " بان ثأروا لابنائهم!
كان الضحايا الثلاث من الابرياء ومن سكان حي يسكنه موالون سكتوا على قتل المئات وعلى خطف مئات آخرين منهم(لا يزال كثيرون منهم مجهولي المصير حتى اللحظة) طمعا في ترك فرصة الردّ ومعالجة الامر للأجهزة الحكومية، الى ان ضاقوا ذرعا فردّ بعض اهالي الضحايا على احياء محسوبة على المعارضة (خرج منها القتلة) بالمثل فسقط منهم ايضا ابرياء.
مسلحو "بابا عمرو" كانوا قد اضافوا " لبطولاتهم الاجرامية الظالمة " رواية صدقها اهل "حي الانشاءات " ومضمونها:
ان شابين وفتاة من "حي عكرمة الموالي" هم من رموا على التظاهرة قنبلة مسمارية فقتلوا من قتلوا، واما الشاب صانع القنبلة اليدوية فقد بقي حيا والتحق بالمقاتلين في "بابا عمرو" وانسحب مع الهاربين، ويقول اهالي الأنشاءات ممن يعرفون ذويه انه الآن محاصر مع المحاصرين من الارهابيين في حارات حمص القديمة .
تلك الحادثة اذابت جدارا اجتماعيا شديد التجذر يفصل "بابا عمرو" وهي منطقة ابنية عشوائية وهي المعدمة ثقافيا لا ماديا (لان اهل بابا عمر هم اسياد التجارة الموازية والاقتصاد الاسود). و من المخدرات الى تجارة السلاح الى العصابات المنظمة للتهريب، يتوزع عدد لا بأس من " ابناء بابا عمرو " على تلك النشاطات وهم انفسهم من اصبحوا قادة الحراك، فالتصادم مع القوى الامنية مهنة يعتاشون منها، والتهرب من كمائنهم حرفة يتقنونها منذ اجيال، وشراء ذمم الفاسدين من الامنيين عادة يمارسها اهالي بابا عمرو الناشطين في عمليات ضد القانون منذ قرن ربما وتوارثوا حرفتها واتقنوا طرقها فنجحوا في تحويل منطقتهم الى حصن محاصر علنا ويزوده الفساد بكل ما يحتاج اليه من اسلحة ومسلحين وتجهيزات(المركز الاعلامي هناك كان افضل قناة تلفزيونية سورية شهيرة) .
في المقابل كان اهل الانشاءات مختلفين جدا، و فضلا عن راحتهم المادية الا ان الفروقات الاجتماعية هي الاهم، لذا كانوا ينظرون نظرة دونية لاهل " بابا عمرو" (كثير منهم من مخالفي القانون المحترفين للمهن الاجرامية ).
إنفجرت التظاهرات في " حي الانشاءات " واشتدت الحالة العسكرية المستوردة " من بابا عمرو" فنقلت عائلة " ديما دالاتي" سكنها الى جرمانا في ريف العاصمة.
اولا: لانها منطقة قريبة كثيرا من دمشق.
وثانيا: لانها منطقة مختلطة اجتماعيا وللعائلة اقارب فيها.
كان ناصر (19 سنة) يدرس في تلك السنة في جامعة " البعث " وبالكاد استطاع تقديم امتحاناته في ذلك الصيف، وكذا اخيه عمرو( 16 سنة ) الطالب في الصف " الحادي عشر".
في منطقة "جرمانا" بقيت الاوضاع مستقرة كثيرا طوال الاحداث السورية و حتى الشهر الماضي، حيث تعرضت تلك المنطقة ،الموالية بتعصب للدولة، لاعتداءات متواصلة. و بين تفجيرات ليلية ، وهجمات مسلحة يشنها الوهابيون، (المقيمون في بلدة " سقبا " التي تحولت في العام الاخير الى مقر لأكثر الوهابيين تشددا بشكل خاص)، تحولت جرمانا هي الأخرى الى ساحة حرب بين اللجان الشعبية التي تدافع عن امنها الداخلي بالتنسيق مع اجهزة الدولة، وبين وهابيين ارهابيين اتخذوا من سقبا ومن بعض بساتين قرى ريف دمشق المحيطة بجرمانا مقرا لهم.
وعلى خلفية طائفية اراد الوهابيون اشعال فتنة ضد السنة المعتدلين وضد الاقليات الدينية في محيط دمشق فقدت جرمانا هدوئها (اغلب اهل جرمانا من الدروز والمسيحيين مع قلة من السنة المعتدلين)
لاحقت المشاكل عائلة "ديما دالاتي" الحمصية المسالمة، والغير مسيسة، ما دفع الوالدة الأرملة الى خيارات متعددة احلاها مرّ، ففكرت بحل فما وجدت اسهل من العودة الى حمص .
غدا
عائدون الى حمص