هكذا أعيش في دولة «الخلافة»كيف يعيش الناس تحت وطأة سيطرة تنظيم “الدولة الاسلامية”، “داعش” سابقاً، وكيف يقضون أيامهم في الموصل، ماهي الآليات الحياتية التي يعتمودنها لتلافي الأضرار المحتملة المترتبة على خرقهم الأوامر والتعليمات التي يصدرها التنظيم المتشدد. وكيف يعيشون مع مخاوفهم اليومية وما هي طريقتهم في التخلص من قلق الحاضر والمستقبل.
“النهار” تمكنت، وبعد مشقة من تسليط الضوء على بعض ما يحدث هناك، عبر الاتصال بشاب موصلي أبدى تعاونه وترحيبه على رغم خضوع مدينته لسيطرة “داعش” منذ نحو ستة اشهر.
ومع ذلك، كانت عملية الاتصال شاقة ومجهدة. ففي ولاية نينوى، يسعى التنظيم الى إقفال منافذ الاتصال بالعالم الخارجي، وقد أوقف منذ أسابيع شبكات الاتصال للهواتف الخليوية، لكنه أبقى على شبكة الانترنت، وفي ضوء ذلك لم يتبقَ من طرق التواصل الا الحديث عبر رسائل الفايسبوك. وفي ساعة متأخرة من الليل تمكنتُ من تأمين الاتصال بالشاب الموصلي.
ذنون الموصلي هو اسم الشاب المستعار، وهو وعلى رغم جرأته ورغبته في التعاون، يتعامل بحذر شديد جداً، وقد رجاني بعد الانتهاء من المحادثة مسحها من صفحة الدردشة. ودفعه حذره الشديد لانشاء صفحة في الفايسبوك باسم مستعار، والمفارقة انه وضع دولة لاتينية في خانة محل الاقامة!
ذنون الموصلي
مرحباً ذنون، …مراحب.
قلت له لم أعلم انك تسكن دولة لاتينية! يضحك ويجيب: “شوية سكيورتي”!
ذنون الموصلي، مدرس أعزب عمره 25 سنة، يسكن في الجانب الأيسر من مدينة الموصل. يمارس عملاً ثانوياً في صيانة شبكات الانترنت، إذ فقد عمله في التعليم نتيجة وقوع مدرسته في احدى أقضية نينوى بيد قوات البشمركة وتحّولها ساحة حرب. ويقول ان البيشمركة لم يسمحوا للعرب بالعودة الى القضاء الخاضع لسيطرتهم.
كيف تقضي يومك، يجيب :”استيقظ العاشرة صباحاً، أتوجه الى عمل وأعبر الى السوق، بعد ذلك ألتقي أصدقاء عند أحد الارصفة أو في المنزل، ثم أعود للبيت، يتكرر ذلك كل يوم تقريباً، وأحياناً العب مع أصدقائي بعض الالعاب الالكترونية”.
أخبار ذات صلة
خبراء أميركيون يحذرون من كابوس “داعش”
عمالقة الانترنت متهمون بخدمة “داعش”
ديوان الحسبة
لماذا لا تذهبون الى المقاهي بدلاً من الأرصفة والبيوت، يوضح :”الجلوس في المقاهي مسألة صعبة، لا أحد يستطيع التدخين، فهو محظور، لكن اذا رصدوك فلن يقوموا بقطع رأسك، يأخذون علبة السجائر منك، ويقولون لك، اتركها لله. هذا إذا كانوا جنوداً عاديين، أما اذا كانوا من ديوان الحسبة، فيحاسبونك، وثمة فرق في الحساب إذا كنت مدخناً او بائعاً”.
هل ثمة فرق بين الجنود العاديين وجماعة ديوان الحسبة، يجيب أنه “في الموصل جيش وشرطة وشرطة مرور إسلامية، وهناك قوات تشبه القوات الحكومية، لكني لا أعرف ماذا يسمونها، وهناك شرطة اقتصادية. أما جماعة الحسبة، فهم رجال مسلحون بمسدسات يراقبون الشوارع ويتجولون في الاسواق. لاحظ ان اغلب المتطوعين جدد ومن ابناء القرى والارياف المحيطة في الموصل، وهؤلاء بالذات صلفون ويتعاملون بخشونة مثلما كان يفعل الجيش العراقي، وفيهم الاكراد والتركمان وحتى بعض الايزيديين الذين أعلنوا اسلامهم، إضافة الى العرب والاجانب”. وهم يرتدون ملابس عسكرية، وبعضهم يستخدم الزي الأفغاني.
مرة، يقول ذنون الموصلي، “تعرضنا لاطلاق نار، نصبوا لنا مكمناً وصاحوا، لكنهم تركونا حين عرفوا باننا مجرد اشخاص عاديين، اعتذروا منا، وظلوا يكررون مراراً، الحذر واجب”. ويضيف :”حين ترتكب مخالفة، يقولون لك، نحن نسامحك، اما “الروافص” (يشيرون بذلك الى الجيش الحكومي الذي يتألف من افراد شيعة)، فلن يُرحموا”.
حياة مهددة بالانقراض!
طلبتُ من ذنون الموصلي أن يحدثني عن اﻻنطباع العام عند الناس في الموصل. أجابني :”الناس غير مرتاحين أكيد، لأن حياتهم مهددة بالانقراض”. ويضيف بلهجة محلية :”كل شويه اجاك الذيب واجاك الواوي”، قاصداً أن الشائعات الكثير تفتك بالاهالي.
وأشار إلى أن “أعمال البناء شبه متوقفة، لتر البنزين يصل سعر المحسن منه الى 1700 دينار (450 في بغداد)، أما سعر الليتر السوري فيبلغ نحو 1000 دينار، اسطوانة الغاز بـ38 الف دينار(8 الاف في بغداد)، لاتوجد كهرباء وطنية منذ نحو شهر، والأهالي يستعينون بأصحاب المولدات الاهلية، حيث يشغلون نحو 9 ساعات بسعر 7 الاف للأمبير الواحد، وإن رغب أحدهم بخط ليلي، يرتفع سعر الامبير الى 17 الف دينار، المياه تأتي كل يومين مرة واحدة”. أما الطعام فمنخفض الكلفة وتدنت كلفة اللحوم، وتنتشر المطاعم في المدينة وكذلك باعة الخضر والفواكة، وذلك بسبب كثرة المهاجرين وانحسار فرص العمل. وكذلك “انتشر بائعو البنزين، يشترون مضخة بنزين ويضعونها في كرفان صغير ويعرضون بضاعتهم”.
ومع ذلك، يقول ذنون الموصلي، “أرجو أن تكتب أني لا يمكن ان أنقل اليك جميع المعطيات الحياتية بصورة تامة، فبين فترة وأخرى تضاف أشياء وتُسلب منك اخرى”.
وسألته هل يعود انخفاض كلفة اللحوم إلى”غنائم” الدولة الاسلامية، فأوضح :”في البداية ذبحت “الدولة الاسلامية” الغنائم وباعتها، ثم بنت مسلخاً وحصرت الذبح به، وبإمكان القصاب الشراء منه والبيع للناس. ومن اسباب انخفاض اسعار اللحوم جلب قطعان الماشية من سوريا وعدم تصدير قطعان المواشي العراقية الى الخارج”.
لائحة الممنوعات
وماذا عن ممنوعات “الدولة الاسلامية”. الى منع السجائر، يقول ذنون الموصلي إن التنظيم لا يسمح بألعاب الدومينو والورق والطاولة وبيع اللالعاب الالكترونية، إلى منع النراجيل وأقراص الافلام والموسيقى والالعاب وصالات الانترنت. كما “منع حف الشعر بالخيط في محلات الحلاقة. ولا ننسى ان إقفال المحلات التجارية إجباري وقت الصلاة. والاتصالات ممنوعة، والسفر كذلك. ولائحة الممنوعات يتم تحديثها باستمرار”.
أعراس الموصل
سألته وماذا عن الأعراس في مدينة الموصل في ظل تشدد “الدولة الاسلامية”، ضحك وأجاب:” لا شيء يوجد في الموصل اكثر من الأعراس!”
وكيف ذلك؟ يضحك مجدداً، تكاليف الزواج انخفضت الى ادنى معدلاتها منذ سنوات نتيجة عدم وجود حفلة زفاف تسبقها ليلة الحناء، ولا يسمح للزوجين التقاط صورة في الاستديو، ويقتصر الامر على زفة سيارات ووجبة عشاء في المطعم، الأكل رخيص بشكل عام ويعتمد بالاساس على سعر اسطوانة الغاز.
سألته، لماذا لاتستغل فترة انخفاض الأسعار هذه هذه وتتزوج، يضحك ويجيب :”لا افكر في الزواج الآن، وفي المستقبل، لدي مطامح ومشاريع مؤجلة”.
قلت له، نسمع اخباراً عن إرغام “داعش” الاهالي على تزويج بناتهم لاعضائها، فيجيب :”لم أسمع بذلك”.
الجبّة والخمار للنساء
سألته عن الرحلات الترفيهية والتعامل مع النساء. فرد أن النساء يرتدين الجبّة والخمار، لكن المتقدمات في السن “يغلّسون” (يتحايلن) على الخمار ويمشي الحال”. وأضاف :”كان رجال الحسبة ينهرون النساء بشكل مباشر، لكن ذلك أدى الى مشاكل مع السكان، واليوم يتحدث جماعة الحسبة مع الرجال فقط، وبدورهم يتحدثون الى نسائهم”.
وأضاف :”معظم رجال “داعش” من الشباب الذين لا تتجاوز اعمارهم العشرين سنة، وبعضهم كبار ومن اهل المدينة”.
“الشائعات تفتك بنا”
هل لا تزال العائلات تخرج في رحلات ترفيهية؟. يجيب أن نحو 60 في المئة لم يعودوا يقومون بذلك خوفاً من الشائعات، “الشائعات تفتك بنا، يقال ان الدولة تنوي تجنيد الشباب في الجيش، ويقال ان هجوم الجيش سيبدأ على المدينة. لا يوجد تجنيد الزامي حتى الآن، لكن نخشى ان يصير حقيقة. مع ان “داعش” لا تقبل بالمتطوعين الا بكفالة شخصين”.
أحد الأسباب الذي منع الناس من الخروج برحلات، إشاعة مفادها ان رجال “الدولة الاسلامية” يمزقون “هوية الاحوال المدنية” ويطلبون إبدالها بهوية اسلامية. ارتعب المواطنون وتهافتوا على مكاتب النسخ للحصول على نسخ اضافية من هوياتهم.
قلت له، وماذا عن الاشخاص الذين يتعاطون المشروبات الكحولية، فأجاب ضاحكاً :”سمعت انهم يشترون الحكول بعلب بلاستيكية وبأسعار عالية. قبل شهرين مات ثلاثة اشخاص، لانهم تناولو مادة “الاسبيرتو”. عوضا عن الكحول!”
سألت ذنون الموصلي عن اوضاع التعليم في المدينة، فقال: “دوام المدارس داخل مركز المدينة والنواحي التابعة لها مستمر حتى الدراسة الاعدادية، لكن الجامعات معطلة، أقدم تنظيم الدولة على تغيير بعض المناهج مرة بعد اخرى ولم تستقر الأمور على حال”. وكذلك الخدمات البلدية مستمرة بحدها الادنى وتنطلق ليلاً.
“يحملوننا ذنب الخسارة العسكرية”!
وأين توجد مقار الجماعات المسلحة؟ يقول محدثنا إنها “تتغيّر باستمرار، لكن هناك نقاطاً للمرابطة في الشوارع، غالباً ما يحثون الناس على الجهاد عبر المساجد، يعتبروننا مقصرين، ويحملوننا الذنب في حال تعرضوا لخسارة عسكرية”.
وهل قاموا برجم بعض الاشخاص، يجيب بأنه لم يشاهد بنفسه شخصاً يُرجم، لكن مصادر موثوقة أبلغته برجم رجل وامرأة. وهو لم ير أحداً يعدم، “لكنهم اعدموا بعض الضباط غير المتعاونين معهم، اخذونهم الى المحكمة الشرعية، وهناك قتلوهم”.
وهل يسمح للاهالي بمغادرة المدينة؟، يفيد بأن “ذلك ممنوع الآن”. ويتساءل :”الى اي مكان يمكن ان نذهب، الشباب ممنوعون من المغادرة، قبل نحو شهرين سمحوا لكبار السن بالسفر الى بغداد لإتمام معاملات تقاعدهم. ويقال ان السفر الى سوريا ممكن هذه الايام”.
ويوضح أن القصف يقع أكثر الأحيان خارج المدينة، وقد أمر رئيس الوزراء حيدر العبادي بوقف القصف على المدن.
رهائن للرقة
يقول ذنون الموصلي، ان الناس يشعرون بأنهم رهائن. ويقول البعض إن الجيش الحكومي إذا هجم على المدينة، فإن “داعش” ستأخذ الجميع رهائن معها الى مدينة الرقة السورية. “العالم كله فوقنا وينظر الينا، استطيع ان اقول ان اهل الموصل الاقحاح يرغبون في عودة الدولة، وكثير من اهل القرى لايريدون ذلك. استطيع القول ان 70 في المئة من السكان متاكدون من عودة الحكومة، لان الذي يحدث في الموصل مرفوض ومحارب من الجميع. وايضا الجميع على يقين بان القادم هو الحرب”.
ورأى أن لا سبب واضحاً لقطع الاتصالات، لكن يمكن القول إنها لتفادي الضربات، لذلك أبقوا على خطوط الانترنت.
“خطب الجمعة تزعجني”
سألته ما هي أكثر الأشياء التي تزعجك، فقال: “خطب الجمعة ونشرات الأخبار، ففي كل خطبة جمعة نتوقع نزول تعليمات وقرارات جديدة من “الدولة الاسلامية”، كل خطبة يرافقها بالثانية الواحدة عشرون اشاعة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى نشرات الاخبار، فهي متضاربة وغير صادقة”.
وأخيراً، كيف ينظر الموصليون إلى “الخليفة” أبو بكر البغدادي. يجيب محدثنا أن “أهل الموصل متدينون اصلاً، وليس لديهم وقت للتفكير به. كل شخص يفكر كيف “يجر جحشه من الوحل”، حكومتنا حقيرة وباعتنا بثمن بخس. وإذا كانت الحكومة مؤلمة للناس، فـ”الدولة الاسلامية” جرعة زائدة من الدواء. الاثنان غير مرحب بهم تقريبا من قبل اهل الموصل، نسمع عن اعمال مقاومة وتفجير عبوات، هناك فصائل تشتغل، لكن بطريقة غير مسلحة، ينتظرون اللحظة والتوقيت المناسبين”.
*النهار