عندما يتحدث الكثيرون عن الحل السياسي في سورية يخلطون بين مفهوم مبدئي لكل من مصطلحي «الاتفاق السياسي» و»تشكيل المؤسسات السياسية للدولة»، في الدول الديمقراطية القائمة على مفهوم للسيادة يضمنه دستور الدولة، يعني المصطلح الأول تفاهماً بين طرفين أو أكثر في الدولة ومؤسساتها، كالبرلمان مثلاً، يتوافقون في ما بينهم على برنامج سياسي موحد ينتهي بتشكيل حكومة ائتلافية بينهم، أو طرفان أو أكثر خارج الدولة يتوافقون على برنامج للمعارضة أو للتحالف الانتخابي نحو البرلمان أو نحو النقابات والبلديات وسواها، أو طرف أو أكثر داخل مؤسسات الدولة مقابل طرف أو أكثر خارجها، يتوافقون على احتواء أزمة معينة عبر تفاهم بينهم، يؤدي لتشكيل حكومة أو إجراء انتخابات نيابية مبكرة، أو سواها من الإجراءات التي تؤدي إلى صيغة ما من تشكيل لمؤسسات الدولة.
الاتفاق السياسي غير مقيد، بينما تشكيل المؤسسات السياسية للدولة مقيد دائماً بالدستور، فعندما يتفق طرفان أو أكثر مثلاً على تشكيل حكومة بمواصفات معينة، يجب أن يمتلكوا الآليات الدستورية التي تمكنهم من ذلك، وهي أولاً القدرة على إقالة أو استقالة الحكومة القائمة، ومن بعدها القدرة على تسمية رئيس حكومة جديد وضمان نيل الحكومة الثقة النيابية، وفي كل مرة توقيع المراسيم اللازمة لذلك، ما يعني عملياً امتلاك غالبية نيابية معينة من جهة، يحددها الدستور في الدولة المعنية، ويعني فوق ذلك شراكة الجهة التي ينيط بها الدستور صلاحية إصدار المراسيم بهذه الاتفاقات، وهي عموماً في الدول الديمقراطية رئاسة الجمهورية.
طريق الاتفاق السياسي حر الإرادة، وطريق تشكيل المؤسسات السياسية مشروط بإرادة ثالثة، هي الإرادة التي يحددها الدستور كمصدر للسلطات وهي الشعب، فعندما تتفق أطراف سياسية على تعديل الدستور، يبقى اتفاقها اسمه السعي لتعديل الدستور، حتى لحظة اكتمال امتلاكها الآليات التي حددها الدستور، والتي تبدأ من امتلاك غالبية موصوفة دستورياً للبدء بمناقشة تعديل الدستور، وغالبية أخرى للتصديق على التعديلات، وحكماً شراكة رئاسة الجمهورية المعنية بإصدار التعديلات بمراسيم، وممارسة حق النقض والرد للتشريعات، وصولاً للدعوة للاستفتاء على التعديلات، التي لا تصبح نافذة إلا بعد نيلها غالبية واضحة في الاستفتاء، الذي يتوقف الفوز به على امتلاك تأييد هذه الغالبية في صناديق الاقتراع.
لإنجاز الاتفاق السياسي طريق واحد هو الحوار، ولترجمة الاتفاق بين أطرافه في تشكيل المؤسسات السياسية للدولة أكثر من طريق، طريق واحد سلمي وسيادي وهو سلوك الآليات التي حددها دستور الدولة، وامتلاك القدرات التي يشترط الدستور تدخلها وحضورها وشراكتها لإتمام السلسلة التي تستدعيها عملية التشكيل، واحترام المهل التي ترتبط بها عملية التشكيل والنفاذ، مثل نشر القوانين، ومهل دعوة الهيئات الناخبة وسواها، أما ترجمة الاتفاق السياسي عن غير طريق فتستدعي إما الطريق الانقلابي أو الطريق الانتدابي أو شكلاً من الدمج بينهما.
في الطريق الانقلابي، يذهب أهل الاتفاق السياسي، إلى الشارع أو السلاح أو كليهما، لفرض أمر واقع تترجمه سيطرة المعنيين بالاتفاق على المفاصل التي ترمز لسيادة الدولة، من مقر الرئاسة وقيادة قواتها المسلحة ورموزها الإعلامية والاقتصادية، ومرافق عاصمتها ومدنها الرئيسية وطرقها المحورية وحدودها الدولية وأجهزتها الديبلوماسية، سواء كان المتفقون جميعاً خارج مؤسسات الدولة أو خليطاً من داخلها وخارجها، والطريق الانقلابي ينتهي بتشكيل هيئة انقلابية يسمونها حكومة ثورية أو حكومة موقتة، أو مجلس قيادة ثورة أو مجلس حكم موقت أو سواها، وتأخذ الهيئة الانقلابية لنفسها صلاحيات المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والرئاسية لفترة معينة، عبر إعلان دستوري يعلق العمل بالدستور لاستحالة تطبيق الاتفاق المعني بين الأطراف عبر سلوك الطرق الدستورية، فتحدد مهلة لوضع دستور جديد والاستفتاء عليه وانتخابات برلمانية ورئاسية على أساسه، ليتم حل الهيئة الانقلابية بعدها، وفي كثير من الأحيان لا تفي الهيئة الانقلابية بوعودها فتمدد مهلة صلاحياتها أو توسع نطاق الصلاحيات، بانتظار ضمان الهيمنة على مؤسسات الدولة عندما تتاح العودة للعمل بالآليات السلمية الدستورية من جديد.
في الطريق الانتدابي يلجأ المعنيون بالاتفاق أو رعاتهم الخارجيون، لتفادي سلوك الطريق السلمي الدستوري، الذي لا يملكون آلياته ولا القدرات الدستورية التي يستدعي الدستور امتلاكها، للسير بمضمون اتفاقهم وتحويله واقعاً في تشكيل المؤسسات السياسية للدولة، إلى قرارات تصدر عن جهات دولية، هي فقط وفقاً لأنظمة وميثاق الأمم المتحدة، مجلس الأمن الدولي الذي يجب أن يستند إلى الفصل السابع من الميثاق، للتدخل في ما يعتبره خطراً على الأمن والسلم الدوليين وفقاً لفهم الدول التي تملك حق النقض في المجلس، وفهم الغالبية اللازمة لاتخاذ القرار، وتعتبر الدولة المعنية تحت الانتداب الأممي، دول بلا سيادة، إما لارتكاب جرائم حرب أو جرائم بحق الإنسانية، أو خطر تفشي نزاعات إقليمية، فتشكل لها هيئة تدير موقتاً شؤون الحكم فيها، ويجري تعليق العمل بالدستور لهذه الغاية، وإعادة تشكيل انقلابية انتدابية لمؤسسات الدولة، ريثما يجري إخراج الدولة المعنية من أحكام الفصل السابع والعودة للعمل وفقاً لدستور جديد، ينتج المؤسسات الدستورية بطريق سلمي سلس مستند إلى مبدأ الشعب مصدر السلطات كأساس لأي ممارسة للديمقراطية، وغالباً ما يرتبط سلوك هذا الطريق بعيداً عن معايير النزاهة السياسية التي لا مكان لها في عالم تحكمه معايير القوة، عندما تكون هناك مصالح عليا لدولة عظمى أو أكثر تستدعي إنهاء الطابع السيادي لدولة لا تسلس القياد لأصحاب النفوذ الكبار، وتركيب بديل من معارضين باسم القانون الدولي يدينون بالولاء لهذه القوى العظمى.
في الأزمة التي شهدتها سورية، وقبل أن يتحول الإرهاب الذي جلبه أعداء سورية بغطاء عدد من دول المنطقة وكثير من مكونات ما سمي بالمعارضة، لاغتيال سورية وكيانها ونسيجها الاجتماعي وتدمير وحدتها، وجيشها ومقدراتها، إلى حالة تهدد بأخطارها الجوار والعالم وتستدعي، تغيير الكثير من القواعد التي حكمت مواقف الأطراف الداخلية والخارجية المتورطة في هذه الأزمة، كانت المواجهة تدور عملياً حول الترتيب الواجب اعتماده لحل الأزمة، بين نهجين وطريقين ينطلقان من عنوان هو أن في سورية أزمة تستدعي حلاً، طريق يرى الحل عبر حوار ينتهي باتفاق يؤدي لتشكيل المؤسسات السياسية للدولة، وفقاً للطريق السلمي الدستوري، وطريق يرى الحل باعتماد السلاح والشارع والدعم الخارجي لسلوك الدمج بين الطريقين الانقلابي والانتدابي، ولم تكن المواجهة يوماً بين من يريد الحل ومن لا يريده، بل بين طريقين في الحل.
مع ظهور الإرهاب وتجذره وتفاقمه وبلوغه مرحلة يستحيل معها تجاهله، لا منة ولا جميلاً لأحد في إعادة النظر بمواصلة خياراته القديمة التي جلبت الكارثة، فقد بذل كل المتورطين في الأزمة السورية كل ما لديهم من مال سلاح، وشغلوا كل ما طاولته أيديهم من وسائل للحرب النفسية والتضليل وغسل الأدمغة، واستنفروا أجهزة الاستخبارات ومقدراتها والجيوش، واستجلبوا المرتزقة والإرهابيين، ولم يدعوا شراً يعتب إليهم إلا واستعانوا به لإسقاط سورية، لفتح الطريق نحو الخيار الانقلابي أو الخيار الانتدابي أو الدمج بينهما.
سقط الخيار الانقلابي منفرداً، بسبب قوة مؤسسات الدولة وعلى رأسها رئاسة الجمهورية التي لم تفرط بذرة من القواعد السيادية للدولة ولا بنقطة وفاصلة من نصوص الدستور، وصمدت بصورة أذهلت العالم أمام الضغوط والتهديدات، ومعها الصمود البطولي للجيش العربي السوري وتضحياته التي لا حد لها ولا ثمن يعادلها بشلال لا ينضب من الشهداء، تضحيات قدمها شعب عظيم اعتاد أن يحمي كرامته الوطنية بتقديم الغالي والنفيس، فسقط المشروع الانقلابي، وسقط الدمج بين الخيارين الانقلابي والانتدابي، عندما اشتدت وتعاظمت التدخلات الخارجية، فوقف حلفاء سورية معها، لمنع المشروع الانقلابي من تحقيق أي إنجاز يذكر، على رغم دفق التدخلات الأجنبية، لكن الدور الأهم لحلفاء سورية كان بقطع الطريق على الخيار الانتدابي، الذي كان يحتاج المرور بمجلس الأمن الدولي حيث وقف الأصدقاء الروس والصينيين يحملون حق النقض مرة ومرتين، حتى أجبروا كل المتدخلين على التراجع، والتسليم أن في سورية طريقاً واحداً لتشكيل المؤسسات السياسية للدولة وهو الطريق السلمي الدستوري.
اليوم وبعد فشل الخيار الانقلابي والخيار الانتدابي معاً، وتحت عنوان مواجهة خطر الإرهاب صار التسليم بالطريق السلمي الدستوري تحصيلاً حاصلاً، وقد مرت فرصة دستورية هي انتخابات رئاسة الجمهورية التي تمت صيف هذا العام، وسبقها انعقاد لقاءات جنيف، ورفض من مثلوا المعارضة فيها القبول ببيان مشترك كأرضية للتفاهم عنوانه اعتبار الإرهاب الخطر الأول على بلدنا الحبيب سورية، كما رفضوا الدعوات لاعتبار الانتخابات الرئاسية طريقاً دستورياً سلمياً لبناء المؤسسات السياسية للدولة، واليوم ومع بدء الحديث عن الحلول السياسية للأزمة في سورية مجدداً، ثمة طريق واحد، هو الاستعداد للانتخابات التشريعية المقبلة كطريق سلمي دستوري لتشكيل المؤسسات السياسية للدولة، واعتبار الغالبيات التي تفرزها هذه الانتخابات، الأساس الذي يحكم وفقاً لآليات الدستور المراحل اللاحقة من أي عملية سياسية.
الحل العسكري كان في بداية الأزمة، وقف القتال، أي صرف النظر عن الحل العسكري، منعاً لمنح الفرص وتوسيعها أمام تدفق الإرهابيين وحقناً لدماء السوريين، وتمهيداً للجلوس إلى طاولة الحوار التي جهدت الدولة ورئيسها على توجيه الدعوات للمعارضين للمشاركة فيها، وصولاً إلى اتفاق يسلك الطريق السلمي الدستوري لتشكيل المؤسسات السياسية للدولة، فرفضت وعطلت كل المبادرات، وبالمقابل اختبرت كل الخيارات، ولم يعد إلا طريق واحد هو الحل العسكري لضرب الإرهاب واجتثاث جذوره، وصار الحل السياسي هو المنصة التي تعزز الجبهة الداخلية الواقفة وراء جيش الوطن في وجه الإرهاب، والحل السياسي هنا بدايته التسليم بخطر الإرهاب، وبوجود دولة سيدة يترجم سيادتها دستور ويصون هذه السيادة وهذا الدستور رئيس تنبثق رئاسته من إرادة مصدر السلطات وهو الشعب، بصلاحيات منصوص عليها في الدستور.
لقد اختصر الرئيس الروسي خلاصة الموقف، من مكان ذي مغزى عندما دعا في اختتام زيارته لأنقرة، إلى نقطة البداية في البحث عن الحل السياسي في سورية، بقوله:
«الانتخابات الرئاسية التي أجريت في سورية يجب التعامل معها في شكل مختلف، لقد أظهر السوريون أن الرئيس بشار الأسد لديه زخم وحشد ودعم كبير».