الدواعش: هذه بضاعتنا ردت إليناJune 29, 2014 (ميدل ايست) الدواعش : هذه بضاعتنا ردت إلينا
نضال البيابي
الدين، أيّ دين، قوة سيكولوجية مُبهِرة وخطرة في آن معاً. إنّه مروّع وآسر، يثير مشاعر متناقضة، بين الخوف والرجاء، بين الطمأنينة والاغتراب، بين الاحترام والنفور، أو كما يقول القديس أوغسطين: “إني أرتعش هلعاً وأضطرم حبّاً”.
إنَّ “الحاجة الدينية” كما يخبرنا التحليل النفسي، جزء جوهري من الوجود الإنساني، إذ لا يمكن أن تجد إنساناً لا تحركه “نزعة دينية”، فعبادة الإله المطلق، أو تقديس الأسلاف، أو الزعماء الروحيين، أو الأمة أو الحزب أو حتى “العلم”، تعبر عن النزعة نفسها وإن اختلفت الأسماء. وإذا كان المجتمع يحكم بسلطة قمعية تملأه بالخوف، وتحول دون الشعور بالفردانية والاستقلال، فإن التجربة الدينية لهذا المجتمع ستكون في الأغلب تسلطية. وقد تتخذ هذه التجربة تحت قناع “عبادة الإله” الإذعان للزعيم أو الدولة، أو السلف الصالح أو حتى شيخ الطائفة، ولذلك يبدو أن أكثر ما يغضب الله وفق هذا الدين هو عصيان السلطة. فكما يمكن للدين بنسخته الصوفية مثلاً، أن يفضي إلى خلق روح الحب والتسامح، فإن الدين التسلطي يفضي إلى تدفق نزعات التدمير والتسلط.
إن الاعتقاد الديني، كما يقول إلياس، في إله يثيب ويعاقب وفقاً لثنائيات صارمة، “ليس له في حد ذاته دور في تلطيف وجدان الإنسان أو جعله متحضراً، بل على العكس يتحضر الدين بقدر تحضر المجتمع والطبقة الاجتماعية التي تمارسه”. لأن التصور المرعب للإله، والتصور المطلق للحاكم أو الفقيه، أو للإنظمة الحاكمة، والتقديس القروطسي للفقهاء وللرموز التاريخية أو حتى “للمفكرين والعلماء الأفذاذ”، كله يعود إلى جذر واحد، أي أنه يعبر عن بنية المجتمع والسلطة التي تحكمه.
فالمجتمع الفصامي لا يمكن أن يتصور الله والدين بكل طقوسه وشعائره إلاّ تصوراً متشنجاً وهذيانياً وقمعياً، ولن ينتج هذا التصور بطبيعة الحال إلاّ فكراً عدوانياً في غاية الخطورة لا نزال نعاني منه لحدّ الآن، وسوف نعاني منه كما يبدو إلى أمد طويل.
قصص عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، والمصير الأخروي للأغيار في المخيلة الشعبية، جعلت من حياة المؤمنين “موتاً مستديماً قبل الموت!”. وهذا ما يفعله “الداعشيون” حرفياً، إذ إنّهم يؤثّثون بدماء “الآخرين” خوفهم وقلقهم من عذاب القبر وأهوال يوم القيامة. إن بنية هذا المجتمع تتسم بالعنف، ومتشبعة بعقيدة “المتغلب”، وغالباً ما خَنقت إمكانات ولادة أي فكر مستقل، وكما أنّها لا تفرز إلا العداوات والتوتّرات حتى بين أبناء المذهب نفسه، بل أكاد أقول أن القسوة الفحولية تعد فضيلة في هذا المجتمع.
إن معظم الحركات الدينية التي أنتجتها مجتمعات على هذا النحو، ليست إلا قطعان مصابة بــ”وسواس الأصول”، ومنسجمة تماما مع ” روح العشيرة البدائية”، إذ أنها تَعتبِرُ بمثابة عدوٍّ مُسبق كلَّ مختلف، وبمثابة متهمٍ كلَّ صوت متردد ولو كان سلفياً. قطعان هائجة تواجه بعضها بعضاً في حالة هيجان دموي مجنون يتعاظم وحشية يوماً بعد يوم. إنَّ الروح “النصية” هي التي تغذي تلك الحماسة الأخلاقية الشديدة، كالتزمت في “الاحتشام”، والنزوع الهائل للقمع.
إنّ بربرية اللاتسامح ليست اختراعاً داعشياً، فالعنف الداعشي هو مركب معقد أنثربولوجي/ سوسيولوجي نميل بسذاجة أحياناً إلى اختزاله في بعده الخارجي الاستعماري، وإن كان له دور لا يستهان به، إلا أنه قبل كل شيء، نتيجة لبنية هذه المجتمعات السلفية التي تغذي كل أشكال التطرف من العداء والحقد ضد الآخرين، فالعنف والنزعات الاستئصالية، مكون أساسي في “تراث الأمة”.
ذكر ابن الأثير جزء 4 ص255 أن جعد بن درهم تحدث عن تنزيه وتجريد الله من الصفات: “فالله ليس شيئاً وليس من شيء… إن الله منزّه عن كل الصفات التي يمكن أن تنسب إليه. هذا بالإضافة إلى نفيه أن موسى كليم الله. على أثر ذلك صدرت فتوى بسفك دمه فطالب به الخليفة هشام بن عبدالملك. ولما سجنه والي الكوفة خالد، أحضره معه مقيّداً يوم عيد الأضحى. وبعد خطبة العيد توجّه الوالي إلى الحشد وقال: اليوم هو عيد الأضحى، فاذهبوا وقوموا بواجبكم، وضحوا كي يغفر الله لكم ولنا. أمّا أنا فقد اخترت أضحيتي وسأقوم بواجبي. فنزل عن المنبر وشحذ سيكنه وذبح جعد من الوريد إلى الوريد على مرأى من الجميع….”.
فرويد في نظريته”العشيرة البدائية” أشار إلى أنه يكفي “نص” ينسب لزعيم تاريخي له قداسته، إلى إحياء “روح العشيرة البدائية”، النص الذي يحوّل المؤمنين إلى كائنات بدائية مخيفة. إنهم “يقظون لكنهم نيام”. هذا النكوص هو بمثابة تفعيل “للرصيد الوراثي”، الذي يتّسم بغلبة الاندفاع الغريزي وسرعة الهجيان بين العصابيين والمهتاجين أشباه المجانين. لهذا تتهافت كل الحجج العقلانية أمام قناعاتهم الراسخة. إن ما حرك هؤلاء بحسب التحليل الفرويدي هو الذي يجسد دائماً الأب البدائي المهاب: فالجمع يرغب دوما في أن يحكمه زعيم لا حدود لقوّته. وهو في الواقع متعطش أيّما تعطش إلى السلطة. وهذا ليس ببعيد عمّا ذهب إليه يونغ أيضاً، الذي بيّن أن هؤلاء المهتاجين، يتسمون بالرعونة والتوحش، إذ لديهم قابلية لأن يقادوا إيحائياً كما يُفعل بالمصابين بالهستيريا. “جمع سيكولوجي” تتحكم فيه قوى لاواعية إلى درجة تنمحي معها قدرات الناس النقدية وفردانيتهم. إنّها مجموعات طفولية وانفعالية، جشعة ومتهورة وعنيفة عنف “عنف حيوان الكركدن عندما يستفيق فجأة من نومه”. إنها أسيرة الأحكام المسبقة، وغالبا ما تكون فريسة لأتفه أنواع الخدع. فعند الرعشة الدينية تخرس “الروح النقدية وكل الاعتبارات الأخلاقية، فتنقلب القيم انقلاباً كلياً”.
ومع ما يسمى بالربيع العربي، شعرنا أننا نعود القهقرى بالزمن عندما صعقنا بانبعاث هؤلاء البرابرة من أعماق العصور المظلمة، حيث النفي والتعصب والمجازر، أبناء الروح “التسامحية”، الذين ظننا أنهم اندثروا منذ قرون. هؤلاء السكارى باستيهامات الفتح، والغنائم والنساء، الذين جعلوا الناس تحت “رحمة” قوانين في منتهى العسف والقسوة، كالإعدامات بلا محاكمات، والرجم والجلد والنهب لأتفه الأسباب، والذين عملوا على تدشين عصر جديد من العنف الوحشي والمذابح الطائفية، وتنشيط غريزة الموت التي زادت وضاعفت من تدفق هذياني للرؤى القيامية والنزعات التبشيرية في معظم الأراضي العربية. إن هؤلاء البرابرة ليس لهم أي هدف سوى تحقيق الجحيم على الأرض. وإذا كان ابن عربي قد جعل من الحب أسمى أشكال الدين، فهذا يعني أنه حين يضمر الحب في أي دين لا يمكن أن نعول عليه، بل ينبغي أن نستعد لاستقبال الخراب.
نضال البيابي.