هل تخلـُفُ «داعش السعودية» داعش القاعديّة؟
علي عبادي – موقع المنار
إعادة غربلة صفوف المعارضة المسلحة في سوريا قبل جنيف – 2، وقبل تحقيق هدفها المعلن في إسقاط النظام، وبعد نكسات مُنيت بها في الغوطة الشرقية لدمشق وفي ريف حلب الشرقي، فاجأت الكثير من المراقبين بعنفها وضراوتها وحدّة الخطاب الفاصل الذي واكبها بين الجماعات المتقاتلة، لكن هذا التطور لا ينفصل عن إعادة ترتيب أوراق دولية وإقليمية لا تخلو منه عناصر محلية على الساحة السورية.
النداء الأخير الذي وجهته الإدارة الأميركية الى قادة دول المنطقة من أجل العمل لوقف تمويل وتجنيد عناصر لحساب تنظيم داعش ووقف تدفق المقاتلين الاجانب الى سوريا لم يأتِ من فراغ، وهو بيان – كما يلاحَظ – تجنب ذكر “جبهة النصرة” برغم إدراجها سابقاً على لائحة الإرهاب الأميركية. فما هي طبيعة الصفقة التي حرّكت القتال بين تنظيم داعش من جهة، و”الجبهة الاسلامية” و”جيش المجاهدين” و”جبهة ثوار سوريا”، بمساندة ضمنية من “جبهة النصرة”، من جهة ثانية.
ملامح المعركة ضد “داعش”
لنُعِدْ تركيب المشهد لنكتشفَ ان المسرح كان يُعدّ بعناية لما نراه اليوم:
“الجبهة الاسلامية”: عنوان ظهر في 22 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي (أي قبيل المعركة مع داعش بشهر ونيف) لتجمعَ فصائل كبيرة نسبياً أبرزها: “حركة أحرار الشام” و”لواء التوحيد” و”جيش الاسلام” و”ألوية صقور الشام”، وعكست تقارباً بين حركات تتبنى التفكير السلفي ويرتبط بعضها علناً بصورة وثيقة مع السعودية، وهي انطلقت من ضرورة تشكيل قوة ذات وزن للوقوف في وجه تمدد داعش في حلب وادلب ومحافظات اخرى من جانب، ولتقاسم الموارد المالية والتسليحية والشرعية السياسية مع “الجيش الحر” الذي بات إسماً بدون مضمون كبير من جانب آخر. وقد توقعنا في مقالة “هل انتهى الجيش الحر؟” تاريخ 13-12-2014 ما يلي: “في نصف النهائي من السباق الدموي على الإمرة، تقف “الجبهة الاسلامية” أمام “داعش” التي تتربص بالجميع لإخضاعهم لولاية (الدولة الاسلامية) وأمرائها”. والمباراة انطلقت الآن بفظاعات تفوق التصور.
“جيش المجاهدين” و”جبهة ثوار سوريا”: تشكيلان ظهرا قبيل المعركة مع داعش ليخدما هدفاً محدداً. التشكيل الأول أعلن عنه في يوم المعركة في 3 كانون الأول /ديسمبر، وقال ناطق باسمه في شريط مصور انه يضم: كتائب نور الدين الزنكي، ولواء الأنصار، وتجمع (فاستقم كما أمرت) وفصائل أخرى صغيرة الحجم وانه يتوجه إلى تحرير مناطق حلب وريفها وإدلب وريفها من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف بـ(داعش)، عازياً ذلك الى ممارسات داعش في السلب والاحتلال والتكفير.
والتشكيل الثاني “جبهة ثوار سوريا” يضم أيضاً فصائل صغيرة أعلن عن نفسه في النصف الاول من شهر كانون الاول /ديسمبر، وهو مثـّل عند اندلاع المعركة رأس حربة للهجوم على داعش، ودعا المنتسبين السوريين إلى التنظيم لتسليم أسلحتهم إلى أقرب مقر تابع للجبهة، وطالب المقاتلين الأجانب بالانضمام إليه او مغادرة سوريا خلال أربع وعشرين ساعة.
وإعلان فصائل صغيرة محدودة القدرات الحرب على داعش التي تتفوق عليها ولا تتردد في قطع رؤوس من يواجهها إنما ينم عن ثقة بالقدرة على الحسم العسكري، وهو ما كان ممكناً لولا تلقيها وعداً بمساندة من جماعات أكبر مثل “الجبهة الاسلامية” ولولا تأكدها من عدم انضمام جبهة النصرة الى أختها غير الشقيقة داعش.
فتّشْ عن السعودية
من هنا نفهم أن القطبة المخفية التي حركت عناصر متباينة لا تجتمع صباحاً الا لتتفرق مساءً، تُمسِكُ بها جهة او جهات نافذة، وهي تتمثل في الدرجة الأولى بالسعودية التي اتخذت قرار التخلص من داعش للأسباب التالية:
1- التضحية بداعش على مائدة تجسير الهوة مع الادارة الاميركية في شأن السياسة المتبعة في سوريا. لقد أدرك المسؤولون السعوديون أن واشنطن جدية في قطع أذرع القاعدة في سوريا والمنطقة، وهي باتت توجه خطاباً علنياً الى دول المنطقة لوضع ذلك في أولوياتهم، بسبب تحول سوريا الى موطن جاذب للمقاتلين الأجانب بصورة لم يسبق لها مثيل منذ حرب أفغانستان في الثمانينيات.
وتسعى الرياض في تحركها ضد داعش الى تقديم إثبات على التزامها بمحاربة الارهاب، في ظل شوائب وشكوك أميركية في دعم متزايد تلـْقاه المجموعات المتشددة على اختلافها من جهات سعودية رسمية أو غير رسمية. كما تريد القيادة السعودية إعادة توجيه البوصلة الأميركية نحو هدف إسقاط النظام السوري بعد الانتهاء من تنظيم داعش، وفي هذا يعود الجانبان الى الالتقاء على أولوية مشتركة بعدما اختلفا علناً إثر إعراض الولايات المتحدة عن مهاجمة سوريا عسكرياً وتركيزها بعد اتفاق السلاح الكيماوي على ضرورة مكافحة الإرهاب بصورة عاجلة.
2- الاستحصال على اعتراف دولي، أميركي تحديداً، بـ”الجبهة الاسلامية” وتشكيلات متشددة أخرى باعتبارها قوة “معتدلة” ساهمت في قتال إرهاب القاعدة، برغم خطابها الطائفي الفاقع وممارساتها التي تستورد نموذج المطوّعين السعوديين وآخرها جلد بائعَيْن تخلفا عن صلاة الجمعة في إحدى البلدات السورية.
3- تمهيد الأرضية لتوحيد المعارضة المسلحة سياسياً وعسكرياً في إطار جديد أكثر التصاقاً بالأجندة السعودية بهدف تسعير القتال ضد النظام السوري والعمل لإعادة عزله من جديد. وقد كانت داعش عاملاً يصعّب هذه المهمة بسبب نمو انتشارها على حساب الفصائل الأخرى وتبنيها أجندة خاصة ببناء “دولة العراق والشام”. (ونفتح هلالين هنا عند نقطة تطرق اليها تقرير لمعهد ستراتفور الأميركي للدراسات الاستخباراتية بشأن صراع المملكة السعودية وتنظيم القاعدة على قيادة “العالم السني”، إذ يقول إنّ “التنظيم يرى في الصراع المذهبي الذي تقوده المملكة ضد إيران… وسيلة لتحصين موقعه في العالم السني. ولهذا السبب، تعمل الرياض بجهد لعزل فرعَي القاعدة في سوريا، أي تنظيمَي جبهة النصرة وداعش. وبإمكان المملكة أن تستغل شبكة المجموعات السلفية الجهادية المنتشرة في سوريا لتهميش القاعدة. ويصب في هذا الإطار إنشاء الجبهة الإسلامية في سوريا التي هي عبارة عن تحالف مجموعات سلفية بدأت مؤخراً بمحاربة القاعدة في الوقت ذاته الذي تحارب فيه أيضاً النظام السوري”).
4- قطع الطريق على المواطنين السعوديين الذين يلتحقون بالقاعدة في سوريا والعراق، ذلك أن حضور هؤلاء في المشهد السوري تحديداً لم يعد يخفى بسبب مناخ التعبئة المذهبية القائم في المملكة في شأن الصراع في سوريا وبسبب غضّ الطرف الرسمي أحياناً للتخلص من العناصر المشاغبة لا سيما في ضوء كبت الأنشطة السياسية داخل البلاد. وقد أشارت تقارير أجنبية استقصائية الى الحضور الاستثنائي للعنصر السعودي في سوريا، نشرنا خلاصة بعضها في مقالة “طلب عاجل من واشنطن الى حلفائها: ضبط لعبة الإرهاب؟” بتاريخ 28-12-2014.
وثمة سؤال يستجدّ في هذا الصدد: ما الثمن الذي يطمح الجانب السعودي للحصول عليه من اميركا مقابل وقفته ضد داعش القاعديّة؟ هل هو التشدد لاحقاً في وجه النظام السوري في مفاوضات جنيف 2؟ أو إمداد المعارضة السورية (داعش السعودية) بدعم عسكري فعال؟
ليس واضحاً بعد، بيدَ أن الأكيد أن هناك جدية من أطراف عدة لمحاصرة تنظيم داعش الذي يسعى لإقامة إمارة على امتداد حدود سوريا والعراق وإنشاء خلايا في بلدان أخرى. والواقع ان هناك تلاقٍ للمصالح غير مسبوق بين الاطراف المحلية (المعارضة السورية) والإقليمية (العراق وايران والسعودية وتركيا) والدولية (أميركا وروسيا وأوروبا) من اجل التخلص من تنظيم مثير للإنقسام ويمثل جاذباً للإرهاب بطبعة دولية عابرة للحدود.
ولكن ماذا عن جبهة النصرة التي تحظى بتأييد زعيم القاعدة أيمن الظواهري؟ هل سيصار الى تعريبها ورفعها من لائحة الارهاب او غضّ الطرف عنها مقابل شروط معينة؟ ربما يتوقف ذلك جزئياً على مدى مساهمتها في مواجهة “داعش”، وهي تقوم بذلك في الرقة شرق سوريا وفي بعض مناطق الريف الحلبي، بينما تعمل وسيطاً لوراثة دور داعش في مناطق قتال أخرى.
حرب بالوكالة
القتال بين تنظيم داعش والجماعات المنافسة يثير أيضاً ملاحظات على الهامش:
- ليست هناك فوارق جوهرية بين المتقاتلين، في ضوء برنامج الإقصاء والتكفير الذي يحمله كل طرف لجماعات منافسة ولطوائف سورية عدة، وايضاً في ضوء الممارسات الشائنة التي يرتكبونها بحق بعضهم بعضاً والتي تشبه ما ارتكبوه بحق أسرى الجيش السوري أو مواطنين سوريين من قبل.
- القتال الداخلي يؤكد مرة أخرى ان الكلفة الإنسانية للحرب لا تمثل مشكلة للمعارضة التي تمضي الى حرب استنزاف بلا أفق وأصبحت أسيرة شعاراتها بحيث لم تعد قادرة على اجتراح حلول تحفظ ما تبقى من إمكانات لدى الشعب السوري.
- لا يمكن لأي جماعة مسلحة أن تبرر ما يجري بمشاكل جزئية هنا أو هناك؛ اجتماعها على داعش ليس محض صدفة، و”كلمة السر” التي جاءت من اطراف دولية وعربية تؤكد مرة اخرى ان هذه الجماعات تخوض حرباً بالوكالة الى أمد غير معلوم، بجانب ان التنظيم القاعديّ هو الآخر بندقية تائهة في صحراء القحط السياسي العربي.
وفي ظل مؤشرات على صعوبة حسم القتال بين “رفاق السلاح”، وظهور الخلافات مرة أخرى بين اطراف الائتلاف الوطني المعارض حيال المشاركة في مؤتمر جنيف2، سيكون من الصعب التنبوء بصيرورة المشهد السوري، وستكون حرب استنزاف الشعب السوري سيدة الموقف الى ان يقتنع الفرقاء الراعون لهذه الحرب بأن التسوية السياسية هي الحل الأمثل، ولو انها غير واضحة المعالم بعد.
ومن الجائز التساؤل أخيراً: هل بات دخان الحرب في سوريا غطاءً ضرورياً لتمرير اتفاق- إطار لتسوية القضية الفلسطينية يعمل الاميركيون لإنجازه بحلول نيسان/أبريل المقبل، هذه المرة متمسكين بحكومة نتنياهو، بما يقود الى نفي حق العودة لغالبية اللاجئين الفلسطينيين و”تبادل” أراض لمصلحة الكيان الصهيوني؟