متغيرات جذرية في السياسات الإقليمية

متغيرات جذرية في السياسات الإقليمية

حكمت شحرور
تتسارع الأحداث والمواقف قبيل انعقاد مؤتمر “جنيف-2″، وسواء عُقد المؤتمر أم لم ينعقد، فإن ما تم الاتفاق عليه بين روسيا وأميركا ومعهما إيران والصين والاتحاد الأوروبي، بات قليل احتمالات التغيير فيه، وما الانعطافات السياسية المتزامنة وكأنها مجدولة ومنسجمة بمدلولاتها منذ توقيع الاتفاق النووي الإيرني مع مجموعة “5+1″، وما طبيعة سير المعارك الميدانية في سورية، والتي تُظهر بشكل جلي أن الجيش العربي السوري يستعيد المبادرة والسيطرة على مساحات شاسعة على مختلف محاور القتال في أغلب المحافظات، وانكفاء المعارضات المسلحة بكل أطيافها المتناهشة عن مدن وقرى مهمة واستراتيجية، إلا مؤشراً قوياً على متغيرات جذرية في صناعة السياسات الإقليمية، وقد تبدو مواقف واستدارات حكومات مؤثرة دولياً وإقليمياً غريبة إلى حد بعيد في سرعة إعادة التموضع.
فتركيا التي كانت رأس حربة في تأزيم الوضع في سورية، وهي التي سهّلت ودعمت بشكل فاضح الجماعات المسلحة، وعملت على تفتيت الجيش السوري، ودعت إلى إسقاط النظام بالقوة، نراها الآن تدعو إلى حل سلمي للأزمة، ونراها مربَكة على الحدود، وتستعد لمقارعة تنظيم “داعش” تحت عنواني التطرف والإرهاب، ولعل الجائزة العراقية بإبرام صفقة النفط الكردستاني، والتي أُرفقت بالتصريح الإيراني باستعداد طهران للقيام بدور الوساطة السياسية بين أنقرة ودمشق، غايتها تعزيز الانعطافة التركية.
إضافة إلى ذلك، فإن بعض دول الخليج أعادت النظر في مواقفها السياسية، فبادرت إلى اعتماد الزيارات وإرسال المندوبين والرسائل باتجاه إيران وسورية ولبنان، في السر والعلن، ما شجّع إيران لترسل بدورها إشارات إلى السعودية بدعوتها كي تكون شريكاً كاملاً في صناعة الحل وإرساء الاستقرار في المنطقة، رغم المواقف السعودية السلبية والمتشددة تجاه إيران وحلفائها، مع الإشارة إلى أن الأميركي الذي انزعج من الأداء السعودي وردود فعله بغضب وتسرّع دون القراءات السياسية المستفيضة بالاستراتيجات المقبلة إلى المنطقة، قد أوصى بالصبر والاستيعاب، وأبدى رغبته بتهدئة الغضب السعودي، وبعدم الرد عليها بالمثل، واحترام دورها في المنطقة، وهذا شكّل تلاقياً مع الموقف الإيراني أيضاً.
في المقابل، لم يكن غريباً موقف الكيان الصهيوني الذي عبّر عنه ببالغ الغضب رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو برفضه ما يجري من صفقات تاريخية يراها على حساب المصلحة والأمن “الإسرائيلي”، رغم أن ردات فعل قيادات “إسرائيلية” وازنة وفاعلة قد جاءت باهتة وغير متماهية مع طروحات نتنياهو، مثل صمت الرئيس “الإسرائيلي” بيريز وقيادات كتل نيابية ووزارية معتبَرة، وهم من أهم الساسة “الإسرائيليين”، مثل الوزراء “بينيت” و”ليبيد” و”ليفني”، حيث بدت البرودة النسبية في مواقفهم، وعدم المواكبة الحثيثة لتحركات نتنياهو، ولو حتى بالاتصال بالأصدقاء النافذين دولياً لعرقلة الاتفاق النووي الإيراني، مشكلة نافذة في الرؤى الجديدة في “إسرائيل”، والتي لم تغفل عنها الصحافة العبرية، فيتبين أنه وفي مكان ما هناك مواءمة “إسرائيلية” قد تتمثل بانكفاء “إسرائيلي” عما هو مقبل على المنطقة ردحاً من الزمن، وكأن هدنة غير معلنة قد فرضت نفسها على جميع اللاعبين ليتم التفرغ لما هو بات يشكل “إجماعاً عالمياً ليس له مثيل سابق”.
وهنا أصبح من ناقل القول إن هذا الاتفاق النووي قد شكل بوابة ضخمة فتحت على مصراعيها لإعادة الشراكة العالمية على أنقاض الأحادية القطبية، ولتمرير توافقات أمنية وسياسية واقتصادية في الشرق الأوسط، والظاهر أنه تمت مراسم دفن اتفاقية “سايكس بيكو” دون إعلان، واستُبدلت بنموذج جديد في إدارة المنطقة بمزيد من احترام سيادة واستقلال الدول، وبالتمتع بالثروات الموجودة بشكل يُخرج الجميع راضياً وسعيداً، ويبدو أن أول الغيث سيكون في لبنان وسورية والعراق، لكن هناك دافع أساسي لهذه الشراكة يتجاوز المنافع والأرباح المتوقعة، وهو الخوف المشترك من التطرف وما يحمل من إرهاب لا أحد يستطيع تحمله أو التعايش معه بأي شكل من الأشكال، والرغبة الأميركية بانتهاز الفرصة السانحة لتوجيه ضربة قاسمة لأكبر تجمّع عالمي لكوادر هذا الإرهاب الموجود في سورية، ولعل هذا ما كان مقصوداً من كلام السيد نصر الله حينما قال منذ أكثر من سنة، إن “القاعدة” وتفرعاتها قد وقعت في الفخ في سورية وقد بات هذا الأمر اليوم مشهوداً، ورغم أن سقوط جماعة “الإخوان المسلمين” في أدائهم السياسي بشكل عام من تركيا إلى شمال إفريقيا مروراً بسورية وفلسطين والأردن، خصوصاً في مصر، ورغم ما نتج عنه من سقوط مؤلم لـ”الإسلام السياسي” والأضرار والتشوّهات التي تعرض لها، فإنه بات من المحتم على جميع أفرقاء الحل الدولي أن يتكاتفوا ويتضامنوا لإقامة المحرقة الكبرى لإيقاف التضخم العالمي للإرهاب الذي تقوده “القاعدة”، والذي تم تجميعه على أرض سورية، فقدَرُها أن تدفع هذا الثمن الذي فُرض عليها مضطرة غير باغية، يدفعها عاملان أساسيان: الدفاع عن النفس، والتوافق الدولي.
الثبات

» خريطة المواقف الدولية و متغيرات المشهد السوري
» متغيرات ميدانية مدويّة ستسبق انعقاد مؤتمر «جنيف ـ 2»
» هل تدفع السياسات السعودية إلى تشظي المملكة؟
» استقالة هاغل... وجهة تغيير السياسات إلى أين؟
» اين السياسات الادارية الفعالة في الدولة ؟ عبد الرحمن تيشوري