في سورية ليس أصعب من الموت سوى الفشل في الموت ؟؟ بقلم: بلال فوراني
من شرب من ماء سوريا من الصعب أن يبصّق فيه , ومن بصقّ ما فيه فلأنّ الطهارة لا تليق بأمعاء الفأرة , وكل من جاهد على بكارة سوريا كي يفضّها عاد بالدماء التي لم تدلّ يوماً على صدق شرفها بل بدمائه التي استحتّ ثيابه المصنوعة في بلده أن تتنجسّ بها , عاد وهو يزفّ البشارة تلو البشارة وسقط سهواً من حفل بشاراته عزمي بشارة , عاد كي يزغرد في عرس خيبته أن النظام قد انتهى و أن الرئيس قاب قوسين أو أدنى و يصير زعيماً عربياً , وأن الحناجر التي تعفنتّ وهي تصدحّ باجرام النظام قد صارت منفضة للسجائر , وأن الديك انشقّ عن شهرزاد لأن شهريار ضحك على الصباح وأقنعه بأن لا يطلع , وأن البعبعّ الامريكي صار مسلسلاً في برامج الاطفال , والعطر الفرنسي لم يعد أجمل من رائحة البارود , والملح الانكليزي ليس أبيضّ من الطحين السوري , والحجّ الى البيت الحرام صار حرام , وسفرّبرلك ليس أحلى من حول العالم في ثمانين يوم , كلهم عادوا الى جحورهم التي خرجوا منها يوما باسم الاصلاح والحرية والديمقراطية , كلهم عادوا الى المنفى الذي جاؤوا منه يوما وهم يمتطون سفنّ هنري برنار ليفي لاكتشاف الحقيقة وراء كلمة سوريا الله حاميها , كلهم عادوا الى احجامهم الطبيعية التي تضخمت بفعل عوامل الحرارة العربية والمؤامرة الدولية , كلهم عادوا يا سادة إلا نحن لم نعد كما كنا ...؟
البيوت ستعمّرونها من جديد , والمصانع ستعيدوا بنائها من جديد . والجوامع والكنائس سترفعونها من جديد , والدمار الذي لحق بالبلد ستعوضّوه كله , أعرف هذا مسبقا فهي اقل الاخلاق التي تستوجب على الفارس ان يفعلها بعد أن ينتصر في معركته التي خاضها , هي اخلاق الفارس أن يمسح على ظهر جواده العظيم الذي تمثل بشعبه العظيم والذي حمله طوال هذه الفترة وتحمّل معه ضرب السيوف وطعن الخناجر , هي اخلاق الفارس أن يمسح الدماء عن سيفه الدمشقي الذي حارب به و عن درعه الحلبي الذي احتمى به , وعن ثوبه الحمصي الذي تمزقّ لأجله , هي أخلاق الفارس أن يفعل هذا ليس تكرما منه ولا عطفا ولا حتى رداً للجميل , بل هو الواجب المقدس على من يملك في زمن النعاج أخلاق الفروسية . وهي الصلاة المفروضة على من افترش سجادة صبر شعبه طوال سنتين و راهن على الحسّ الوطني في شعبه أكثر ممن راهن على هذا الشعب في كازينو الربيع العربي .
كل هذا ستفعلونه يوما ولا ندري أي يوم هو هذا , ولا ندري هل سنكون أحياء لنشهده أم سيظلّ حلماً قيد الدراسة , لا ندري هل سنخبر أولادنا عن هذا اليوم أم سيظل هذا اليوم تاريخا معلقا في أمانينا. لا أدري, فأنا لست أحد منجمي رأس السنة , أبتهل على جمهور المتابعين بتوقعاتي , ولست يوسف كي أقصص على أبي أني رأيت أسدا يتربع على الشمس والكواكب من حوله تلف وتدور , ولست هامان فأبني صرحاً من الحوار المفتوح مع الاخر كي أطلعّ على ربهم الذي يعبدوه بين أقدامهم , ولست فرعون أملك مقادير الموت والحياة بكلمة مني فأقضي على هؤلاء بالموت وأقضي على هؤلاء أن يكونوا ضحايا على قناة الجزيرة , ولست أملك ألواحاً فيها الوصايا التي تقول فرّق تسد وإن ضربك أحدهم على خدك الايسر فحافظ على ما تبقى من كبرياء خدك الايمن , ولست ممن يكتبون كي يصير حرفه بخورا في بلاط السلاطين وأناشيد تزهو بها البلاد , لست أحد هؤلاء ولكني بكل تأكيد واحد من الذين أوجعهم أنين الوطن وآلمهم دمار البلد وأهانهم نأي الجار قبل خراب الدار.
أولئك عادوا كما كانوا عراة كما خلقهم ربي , ولكن نحن لم نعد كما كنا متدثرون برداء الوطن , فلقد مزقوه أشد تمزيقا وداسوا عليه بالاحذية ونهشوا خيوطه وانتهكوا حرمة الوانه ولم يكفهم هذا بل غسلوه بدمائنا وجففوه على أوجاعنا ونشروه في إعلامنا , وبعد كل هذا ما زالوا حيارى من صلابته وقدرته العجيبة على امتصاص الأزمات وما زالوا مشككين في أدواتهم القذرة التي استعانوا بها علينا طوال سنتين وما زال لديهم الأمل في انحلال اللون الاسود علينا وهروب النجمتين منا , وما زالوا يطرقون بيوت العرافات و يمشطو أرصفة الطرقات كي يجدوا ساحراً يقلبّ الشعب على نظامه او النظام على شعبه أو أي ّ شيء يقلبّ والسلام فالمهم أن لا تنقلب الطاولة على رؤوسهم هم. أولئك جربوا علينا كل أمراضهم النفسية وجعلوا منا حقل تجارب لأوهامهم البطولية ومارسوا علينا أقسى أنواع الارهاب الفكري والجسدي , واستباحوا كل حرماتنا باسم الله أكبر , وزيّفوا الحقائق وخلطوا الأوراق ورشّوا مقامات كبيرة لدينا , ووضعوا السمّ في الدسّم واشتروا الذمم بأرخص الاسعار وشوهوا أحلام الشباب , واستأجروا عقول المفكرين , ووظفوا كل كلابهم كي تنبح معهم علينا, وفي ختام الحفلة الاجرامية لم ينالوا لا تصفيقا من الجماهير ولا ربحا في تذاكر البيع , فكل ما طالوه من هذه المسرحية الانفصامية شرخ كبير في صفوف المتفرجين وشهادة تقدير في ثقافة الاستحمار حين تغيب ثقافة الحوار .
اليوم نحن متعبين جداً , لدرجة أننا صرنا نتوجع من الوجع ثم نضحك على الوجع نفسه , وكل مشاعر الالم تحيط بنا من كل جهة , لم يعد صوت فيروز يطربنا صباحا فلقد استبدلناه بصوت الرصاص والهاون , والشتاء ما عاد جميلا بعد أن هجر المازوت وسائل تدفئتنا , والكهرباء لم تعد مقتصرة على التقنين فقد صارت مثل أغنية زوروني كل سنة مرة , وجرّة الغاز صارت الحلم العربي في كل بيت سوري , والدم لم نعد نتبرع به بعدما نشّف دمنا من هول ما رأينا , والخبز الذي كنّا نفتخر بأننا لا نجوع له صرنا نموت اليوم لأجله , والامان الذي كنا نعيش فيه ونحتمي به أدار لنا ظهره وأعلن انشقاقه عنا , والكلمة العفوية التي كنا نقولها لاي شيء نستعجبه ونستغربه بقول " سبحان الله " بدلّوها عنّوة عنا وصارت الآن " أفلا تكبرون " ؟؟؟
يقولون لي لما تتابع أخبار مصر أكثر مما تتابع ما يحدث في سوريا؟ فأقول لهم بكل بساطة لأني أنظر الى المستقبل الذي كان مرسوما لسوريا بعد سقوط نظامها كما كانوا يحلمون . أنظر الى الايام التي لن أراها ولا أريد أن أراها في سوريا, فهي فرصة لن تتكرر أبدا في قرن واحد أن تعيش كابوساً وترى الكابوس الأعظم الذي كان سيأتيك بعده . هي قراءة تاريخية لن تحدث مرتين أن تعيش الحاضر والمستقبل في زمن واحد , هي حياة لن تصير مرتين لكنك بكل تأكيد ستموت فيها مرتين ...؟؟
على حافة الوطن
لم يحدث في تاريخ الدنيا أن اجتمعت كل الدنيا على بلد واحد
فإما يا سادة ..أن هذا التاريخ صغير أو أن هذا البلد كبير ...؟؟