خاص دام برس - حوار - بلال سليطين :
في كل يوم تزداد الأزمة السورية تعقيداً وترتفع أسهم المتاجرة بدماء السوريين وأوجاعهم وجراحهم ودموع أمهاتهم والتباكي عليهم من أشخاص لطالما عرفوا بعدائهم لسورية وتقصدهم إيذاء شعبها، وفي كل يوم هناك منعطف جديد ومبادرة جديدة للوصول إلى حل لكن حائط اللاحل أقوى من إرادة الحل على مايبدو فكل المبادرات التي أطلقت حتى اللحظة لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت فيه، ومع كل اشراقة شمس جديدة يتشبث السوريون بخيوط الأمل علهم يصلون إلى حل أو تسوية تاريخية كتلك التي تحدث عنها نائب الرئيس السوري فاروق الشرع دون أن يشرح ماهيتها.
الدكتورة أشواق عباس أستاذة العلوم السياسية في جامعة دمشق ضيفة دام برس في حوار خاص عن الأزمة السورية وتفاصيلها وإلى أين تتجه؟ عن أي تسوية تحدث الشرع؟ ماذا تغير بعد الاعتراف بالائتلاف الجديد؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي يبحث الكثير من السوريين عن إجابات لها.
نص الحوار:
*
تحدث نائب الرئيس السوري "فاروق الشرع" عن تسوية تاريخية، كيف ممكن أن تكون هذه التسوية؟** لا أعتقد، برأيي الشخصي، أن السيد الشرع نائب الرئيس مدركاً هو نفسه لنوعية وشروط هذه التسوية "التاريخية"، وإلا لكان تحدث عنها، أو أبدى رأيه بها.
حقيقةً، هو يعلم تماماً أن التسوية ستكون بين القوى الكبرى الفاعلة في الأزمة السورية، وأتحدث هنا عن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا (ومن لف لفهم من أدوات عربية وتركية)، وبين الطرف الآخر المقابل لهم من، أي روسيا والصين وإيران. ومفهوم التسوية هنا، وإن كان موضوعها هو الشأن السوري، لكنها مرتبطة بقضايا ومصالح لتلك الدول، وهي متعددة ومقعدة ومتشابكة. والتسوية بشأن الأزمة السورية ستكون جزء من تسويات كبرى تشمل غالبية القضايا الخلافية بينهم. وأعتقد أن السيد الشرع يعرف ذلك جيداً بحكم عمله الدبلوماسي لعشرات السنيين. وحالما تنضج تلك التسوية، فإنه (كما هو حال جميع السوريين) سيعرف بها.
**
ما هي دلالات تصريحات الشرع" في السياسة وفي اتجاه الأزمة السورية؟أعتقد أن ما صرح به الشرع مؤخراً لا يعكس فهماً دقيقاً لطبيعة الأزمة المركبة والمعقدة في سوريا. لاسيما في حديثه عن طبيعة المؤسسات في الدولة والتي كان على مدار سنوات طويلة منها أحد أبرز أعمدتها. وهو الأمر الذي يحمله مسؤولية تاريخية تجاه الشعب السوري نتيجة لذلك. كذلك إن بعض ما ورد في تصريحاته لاسيما تلك المتعلقة بـ "في العام 1970 تم بناء العديد من مؤسسات الدولة على تناقضات وصراعات مجلس قيادة الثورة آنذاك وعلى أساس ميثاق متفق عليه على سبيل المثال الجبهة الوطنية التقدمية- مجلس الشعب- الإدارة المحلية ثم أخذت هذه المؤسات بالترهل ولم تجدد رغم المحاولات المتكررة لإعادة هيكلتها منذ أن تولى الرئيس الأسد السلطة عام 2000 ثم أصبحت معظم المؤسسات تعمل بقوة العطالة المكتسبة". غير مقبول أبداً من مسؤول سؤري بحجم ومكانة الشرع، ويطرح أسئلة كبرى عن مساهمته في ذلك، بالإضافة إلى حالة الترهل التي تحدث عنها في بنية مؤسسات الدولة، والتي كان يرأس الكثير منها وعلى مدى عشرات السنين. فأين كان دوره، وفاعليته السياسية في مؤسسات أدارها، وهو الآن يتكلم عن الخلل فيها، وعن فشلها. ما الذي قام به هو وغيره من مسؤولين طوال كل السنوات السابقة، عندما كانت سوريا بعافيتها وقوتها، ليخرج على الشعب اليوم، والبلد يمر بأزمة حقيقية، ليقول إن مؤسسات الدولة أصبحت على هذا النحو؟ إذا السؤال الآن عن سبب ذلك الفشل هو برسم السيد نائب الرئيس نفسه؟ ولماذا لم يسمع الشعب السوري بمثل هذه التصريحات مسبقاً؟ وأنا كمواطنة سورية أطالب بإجابة واضحة حيال ذلك. فلو كان هذا الكلام جاء من مواطن سوري بسيط أو حتى معارض لكان مقبولاً جداً، أما أن يأتي من مسؤول سوري كالشرع فهو مدان بالضرورة.
*
ماذا بعد الباتريوت على الحدود السورية التركية، كيف سيكون الرد السوري ومن خلفه الروسي والإيراني، هل يقرع الباتريوت طبول حرب؟** لا أعتقد أنه يدق طبول الحرب، فلو أراد اللاعبون في الأزمة السورية القيام بحرب على سوريا، فلن يكونوا بانتظار حجة كالباتريوت للقيام بها. الحقيقة أن هناك لبساً في توقيت وآلية نشر الباترويت على الحدود السورية التركية. لا أعتقد أن الهدف منها هو سوريا، أو التخوف التركي من سوريا، وإن تم نشرها تحت هذا المسمى.
الهدف الحقيقي منها هو تطويق الأمريكيين للروس والإيرانيين، وتهديد مصالحهم. وهو أمر كان يصعب على الأمريكيين القيام به مسبقاً، دون وجود مبرر قوي لهم. أما ومع تصاعد الأزمة في سوريا، فقد أصبحت الفرصة بالنسبة للأمريكيين في تحقيق هذه الهدف مواتية، وتحت تغطية دولية.
*
مخيم اليرموك اليوم في دائرة النار، وبذلك يدخل الفلسطينيون على خط الأزمة من بابها الواسع، من مصلحة من إشعال المخيم وإشراك الفلسطيني في الأزمة؟** أعتقد أنك ضمنت الجواب في سؤالك. من مصلحة من العمل على زج الفلسطينيين في سوريا، وهم الذين عاشوا على الأراضي السورية منذ تهجيرهم من فلسطين عام 1948 بسلام وأمان، يعاملون معاملة المواطن السوري في كل المجالات، حتى العمل في مؤسسات الدولة.
إن أي عاقل يمكنه أن يرى، عبر مسيرة تطور الأحداث في سوريا، ونوعية الدمار الذي لحق به، والأهداف التي تم ضربها، أنه كان هناك بنك واضح من الأهداف البشرية منها والمادية التي يجب ضربها في سوريا. والفلسطينيون ليسوا إلا جزءاً من هذه الأهداف التي سيؤدي ضربها أو استخدمها إلى إضعاف الدولة السورية.
*
في السياسة والتحليل السياسي، هل من ربط بين إشعال المخيم وانتشار المسلحين فيه، ودخول المراسل الصهيوني إلى ادلب ولقاءاته مع المسلحين؟** الرابط الوحيد بينهم هو وحدة الجهة التي تقوم وراء ذلك، فضرب الفلسطينيين وزجهم في صراع ليس من شأنهم، والمتاجرة إعلامياً وإنسانياً بهم، هو هدف واضح وهام للإسرائيليين لإبعادهم عن هدفهم الأساسي، وهو المقاومة وتحرير فلسطين. بل حتى أن البعض بات يقول (ممن يعمل على هذه الفكرة) أن تحرير القدس يبدأ من تحرير مخيم اليرموك؟ لكن السؤال هنا: ممن يجب أن يحرر مخيم اليرموك الذي لا يوجد للدولة السورية أي تواجد عسكري أو سياسي فيه؟ وهو ما يعني أنه يجب تحريره من ساكنيه أي الفلسطينيين وجبهتهم الشعبية وجيشهم الفلسطيني.
ثم كيف يمكن تقبل فكرة أن من يريد تحرير الفلسطينيين في سوريا التي احتضنتهم، هو نفسه الذي يستقبل الإسرائيليين ويدخلهم بطرق غير مشروعة الأراضي السورية، ويقدم لهم كل أنواع الولاء والطاعة. السؤال هنا، هل بات تحرير الفلسطينيين من النظام السوري الذي يحتضنهم بدلاً من تحريرهم من إسرائيل؟
*
هناك اليوم حديث عن مبادرات ومحاولات لإيجاد حل، هل مازال هناك وقت للمبادرات؟** أعتقد أن كل ما يقال بهذا الصدد هو للاستهلاك الإعلامي. تماماً كما جرى التعامل مع القضية الفلسطينية، والتي بات من الصعب إحصاء عدد المبادرات والمحاولات التي أعلن عنها، أو جرى القيام بها لحلها. والتي عملياً كانت السبب الحقيقي لضياعها، وتغيير بوصلتها. إن حل الأزمة السورية واضح، ومعروف لمن يريد فعلاً حلها. وهو بالضرورة ليس داخل الأراضي السورية. بل في العواصم التي تؤجج الأعمال الإرهابية وتدعمها. وهو الأمر الذي أشرت له مسبقاً.
*
بعد الاعتراف بائتلاف الدولة هل تغير الواقع السياسي للمعارضة السورية وأصبح لها حضور دولي يعقد الوضع ويزيد التباعد في وجهات النظر والمواقف بين القوى العظمى وخصوصاً روسيا وأميركا؟** لا لم يتغير، إنما جرى إعادة تشكيل جديد علها تصبح مقبولة. لكن القوى الكبرى تدرك جيداً أن من جاءت بهم إلى هذا الإئتلاف لا ينتمون فعلياً للشعب السوري، وليس لهم أي تأثير حقيقي عليه. يمكننا تماماً قراءة هذا الأمر بنفس الصيغة التي نصبت أمريكا من نفسها راعياً لعملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية، رغم أن الجميع يعرفون حقيقة مواقفها من الفلسطينيين، ودعمها اللامحدود لإسرائيل.
*
إلى أين تتجه الأزمة السورية؟** في الحقيقة، الإجابة على هذا السؤال فيها حالة من التعقيد بعض الشيء، وكل من يقول لك إنه يمتلك الجواب فهو واهم، أو غير مدرك حقيقةً لأبعاد الأزمة السورية.
فلنتفق بداية على أن الأزمة في سوريا مركبة، حيث تحتوي على عدة أوجه متداخلة ومتشابكة ومتفاعلة فيما بينها. فهناك الوجه الداخلي، والذي يقوم على وجود مشكلات حقيقية داخل سوريا، جرى التعامل معها مسبقاً بنوع من الاستخفاف أو اللامبالاة، بل وحتى التجاهل أحياناً. وأقصد هنا بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، والتي تشكل في جوهرها المقدمة الأولى والأساسية للمشكلة السياسية. ولا أخفيك الاعتقاد بأن هناك من عمل عليها من المسؤولين السوريين الفاسدين، والذين لم يروا في الوطن سوى مصدر لمكاسبهم الشخصية. وهو الأمر الذي فاقم سوء الأوضاع الداخلية في بعض الجوانب، لاسيما تلك المتعلقة بمعيشة المواطن السوري وكرامته.
هذا الوجه تم استثماره تماماً من قبل بقية وجوه ومستويات الأزمة السورية. فمن الوجوه الأخرى للأزمة، تلك المتعلقة بالمستوى الدولي، والذي ظهر واضحاً درجة تدخله في الشأن السوري منذ الأيام الأولى للأزمة السورية، والذي قام باستغلال بعض نقاط الخلل والضعف في الواقع السوري، وغذاها عبر ضخ عناصر متطرفة ومسلحة عملت بشكل مباشر وغير مباشر على تسعير الأزمة وحرف مجراها إلى حيث تلبي مصلحته ومصلحة مشغليه وداعميه. فالدول التي تعادي سوريا، وأقصد هنا الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبعض الدول العربية، والتي عملت سابقاً على تدمير الدولة السورية وفشلت في ذلك، غيرت تكتيكها، ووجدت في إثارة أزمة داخلية (في مجرى الاستفادة مما يطلق عليه بـ "ثورات الربيع العربي")، وتسعيرها الأسلوب الأمثل لتدمير البلد، إو إضعافه. هذا ناهيك عن استغلال ذلك بتحويل الأراضي السورية لتصفية حساباتها مع دول أخرى، والتخلص من تنظيمات أصولية كالقاعدة مثلاً، كانت ناشطة وتعمل على أراضيها، عبر توجيهها للذهاب والقتال بسوريا، وبذلك تكون قد ضمنت إخراجها من معادلة الصراع معها، ونقلها إلى سوريا. فتتخلص بذلك منها، ومن سوريا. وأياً كان المنتصر (بحسب أهداف تلك الدول) فسيخرج من الصراع ضعيفاً بالشكل الذي يسهل القضاء عليه نهائياً.
من مستويات الأزمة أيضاً، المستوى الثقافي وتباينه لدى بعض شرائح المجتمع السوري، حيث جرى استغلال الشرائح متوسطة وضعيفة الثقافة، عبر تجنيدها لخدمة مشاريع خارجية، تهدف بالدرجة الأولى إلى هدم بناء الدولة السورية، لكن تحت شعارات مزيفة توهم منفذيها بأنهم يعيدون بناء الدولة وفق أسس صحيحة. وهذا الأمر خاطىء ومجافي للحقيقة والمنطق السياسي. فما جرى خلال الشهور الماضية أثبت أن ما يعلنه الحراك المسلح في سوريا، ومن يؤيده من الشارع (عن عمد أو مغرر به)، إنما استهدف تدمير البنى الرئيسة والحساسة في البلد، وإخراجها عن الخدمة، وتسعير الاقتتال الطائفي في بعض المناطق، وهو أمر كان ليودي إلى حرب أهلية لولا وعي المواطن السوري بشكل عام. وهو الأمر الذي يقودنا إلى المستوى الأخطر في الأزمة السورية، وهو البعد والوجه الديني الذي أُريد له أن يكون القشة التي تقصم البلد تماماً. فما تعرضه مواقع وتنسيقيات الحراك المسلح، والإعلام الداعم لها من فديوهات تظهر خطاباً دينياً متطرفاً وتقسيميا وطائفياً وإقصائياً...غير مألوف وغير معروف للشارع السوري، يوضح ما أقوله ويثبته.
ما أردت من خلال تقديمي هذا هو القول، إن مستويات الصراع ومقدماته الرئيسة متعددة، وكذلك هو الأمر بالنسبة لنتائجه وإفرازاته على المجتمع السوري. وإن كان الحل الأساس الآن هو باتفاق القوى المتقاتلة على الأراضي السورية، فحالما تصل إلى تسوية فيما بينها، سنشهد بالضرورة تراجع للأزمة وانكفائها. أقصد هنا المقدمات الرئيسة. لكن ستبقى إفرازاتها ونتائجها فاعلة بالضرورة. وهذا الأمر سيتطلب من السوريين سنوات طويلة من العمل لتجاوز ومعالجة هذه المفرزات والنتائج، سواء تلك المتعلقة بالبنى التحتية، أو تلك المرتبطة بالمزاج العام للشعب السوري وآثارها الاجتماعية والنفسية، لاسيما بسبب نوعية الجرائم التي وقعت، وحجم الخسائر البشرية الكبيرة.