يعكس تعليق بعثة المراقبين الدوليين عملياتها في سوريا نهاية الأسبوع الفائت وطأة المأزق الذي يتخبّط فيه المجتمع الدولي والداخل السوري في آن واحد، في حمأة تصاعد موجات العنف. وجّه المراقبون الدوليون رسالة مزدوجة إلى النظام ومعارضيه المسلحين بعد استهدافهم بنيرانهما، في وقت يتعذّر على مجلس الأمن، كما على الغرب منفرداً، اتخاذ مبادرة في معزل عن روسيا.
كلاهما على طرف نقيض من الآخر، ولا يلتقيان في الظاهر سوى على ما ليس في وسعهما فرض التزامه، وهو تطبيق خطة الموفد الدولي ـ العربي كوفي أنان. يؤيدها الغرب وروسيا، ولا يجدان سبيلاً إلى تطبيقها في ظلّ انقسام الموقف من الرئيس بشّار الأسد ونظامه: لا يرى الغرب الحلّ إلا بحمل الأسد على التنحّي طوعاً أو بالقوة، بينما يتمسّك الروس بالتسوية السياسية معه وليس على حسابه، أو في منأى عنه. يُدرك الطرفان أن خطة أنان فشلت. لكنهما لا ينعيانها ما داما لا يملكان بديلاً منها بعد. تضع الخطة سوريا بين يدي مجلس الأمن، ولا تمكّنه من اتخاذ قرار.
ولأن هذا التناقض مرشّح كي يطول أمداً إضافياً، وربما إلى أشهر أخرى من غير التوصّل إلى حسم حقيقي للأزمة السورية والعنف الذي يتوسّله طرفاها المتنازعان، يتحدّث مسؤولون رسميون زاروا موسكو قبل أيام عن جانب من حصيلة الزيارة، بعدما تسنّى لهم ـ على هامش مهمتهم ـ الاستماع إلى مزيد من الإصرار الروسي على دعم نظام الرئيس السوري، ومنع إسقاطه بالقوة.
في الملاحظات التي استقاها المسؤولون الرسميون اللبنانيون: 1 ــ تتصرّف موسكو كأن لا أزمة في سوريا، وتثابر على تنفيذ العقود العسكرية المبرمة مع الحكومة السورية، وتبدي تجاهلاً صريحاً للعقوبات الغربية على النظام. لا تكتفي بالقول إنها لا تبالي بها ولا تعنيها، بل تؤكد العزم على المضي في تنفيذ الاتفاقات المعقودة بين البلدين.
2 ــ لا تخفي تنسيقاً كاملاً بينها وبين دمشق في جبه الأحداث والتطورات التي تواجها الدولة السورية وخصوصاً من المعارضين الذين يتلقون دعماً غير مشروط بالمال والسلاح. لا ينفي المسؤولون الروس علمهم بتزايد وتيرة العنف والتصعيد الأمني هناك في نطاق ما يعدّه النظام دفاعاً مشروعاً عن النفس. وخلافاً لانطباعات سابقة، لم يفاجئ العنف في سوريا روسيا، ولا وجدت هذه نفسها محرجة حيال تصاعده، وأخذت في الاعتبار الدوافع التي تسلّح بها النظام ضد معارضيه والتدخّل العربي والغربي بدعمها.
3 ــ استخلصت موسكو من تعيين كردي هو عبد الباسط سيدا رئيساً للمجلس الوطني السوري خلفاً لبرهان غليون، محاولة لإدخال العامل الكردي في المواجهة مع النظام وتوسيع مروحة المعارضة دينياً واجتماعياً وعقائدياً، والسعي إلى تأليب الأكراد عليه بعدما كان الرئيس السوري منحهم الجنسية في الأشهر الأولى من الاضطرابات، وأتاح لهم اكتساب حقوق مدنية.
4 ــ بمقدار اعتقاد المسؤولين الروس بثبات دعم موسكو نظام الأسد وعدم التخلي عنه، وتأكيد تمسّكهم به يوماً بعد آخر، مع اقتراحهم دعوة إلى مؤتمر دولي حول سوريا، لا يخفون أن جزءاً من تحريك الشارع الروسي ضد الرئيس فلاديمير بوتين وتحرّك المعارضة الروسية يتصل بموقف الرئيس من الدولة السورية . إلا أن المسؤولين هؤلاء يرون سوريا مصلحة روسية مباشرة بعد خدعة الغرب لهم في العراق وليبيا واليمن. يجزم المسؤولون الروس أمام المسؤولين الرسميين اللبنانيين بأن لا تكرار لتجربة أي من تلك البلدان في سوريا، في مجلس الأمن وخارجه.
5 ــ لا تقل ثقة موسكو باستمرار نظام الرئيس الأسد والمعاونين الذين يحيطون به عن ثقتها بتماسك الجيش السوري الذي يعدّه الروس صمام أمان لحماية النظام، ومنع انهياره أو إطاحة الرئيس بالقوة. لكنها تعزو دفاعها عن الأسد إلى أنه لا يزال يتمتّع بشعبية واسعة في بلاده، يستمد منها سيطرته على الجيش وولاءه له.
لكن ثبات الموقف الروسي لا يبدّد وقائع في الأزمة السورية تطورت بمرور الأشهر الـ16 المنصرمة منذ اندلاعها. أضحت هذه التطورات أكثر جلاءً في الأشهر الثلاثة الماضية وفق معطيات منها:
ــ فقدان الجيش السوري سيطرته على بعضا من أرياف المدن الكبرى كدمشق وحمص وإدلب وحماة نظراً إلى مساحتها المترامية التي يصل بعضها إلى الحدود الشرقية والشمالية، فاتسعت فيها هجمات التيّارات السلفية و«الجيش الحر» والإخوان المسلمين والمسلحين والعصابات الخارجة على النظام والقانون. ورغم أن هذه الأرياف انتقصت من سيادة النظام والجيش على أراضيه، بيد أنها لا تشكل أخطاراً مباشرة ومحدقة على النظام بالذات. تترك أثراً مباشراً هو تنفيذ عمليات أمنية ضد الجيش وتفجيرات متنقلة لإنهاكه في مدن وبلدات صغيرة تتخذ المعارضة المسلحة منها موطئ قدم. لا تؤثر على سقوط الدولة، ولا على انشقاق الجيش، رغم استهداف الدوائر الرسمية وإحراق وثائق السكان ومعاملاتهم.
قيل في هذه الصورة المعبّرة عن الفوضى وتقلّب لعبة السيطرة على الشارع، «النظام في النهار والمسلحون في الليل». ــ تراجعت التظاهرات التي شهدتها البلاد في الأشهر الأولى من الاضطرابات، وطبعت سمة ما عدّته المعارضة « ثورة» على النظام. على أن التظاهرات اختفت إلى حدّ كبير ما خلا تجمّعات في قرى صغيرة تتكرّر يومياً، تفتقر إليها المدن الكبرى وتكتفي بالأرياف البعيدة، ويضخّم الإعلام أحجامها.
مثّل ذلك الانتقال بسوريا من الانقسام على النظام، إلى الاقتتال للوصول إلى السلطة.
ــ حافظ النظام على سيطرته على المدن الكبرى وأوّلها العاصمة، بما في ذلك عواصم الأرياف العاصية ومدن أخرى كالرقّة والقامشلي ودرعا وطرطوس واللاذقية، باستثناء حمص المدينة. أما حماة فأضحت شبه هامشية ضربها الدمار والتهجير. بإمساكه بالمدن الكبرى، غلّب النظام هيبة الدولة عليها، فحافظت بدورها على استمرار عمل الإدارات الرسمية كالوزارات ومقار المحافظين والمؤسسات، فضلاً عن الجيش والأجهزة الأمنية اللذين ضَمَنَا ولاءها للنظام الذي لا تعوزه فيها شعبية واسعة بسبب خشية السكان من أن تضرب مدنهم الفوضى والشغب وأعمال العنف والنهب والإحراق والقتل.
الاخبار