تبذل الولايات المتحدة جهودا جبارة لطمس حقيقة ما يدور بشأن ما يدعى الأزمة السورية بجميع تفاعلاتها وأصدائها ، والحقيقة المرة التي لا يريد المسؤولون في واشنطن إفساح المجال أمام ظهورها ،
هي أن الإمبراطورية الأميركية قد هزمت أمام صمود سورية حتى الآن ، و رغم كل التضليل و الضجيج ، فذلك هو ما تبينه الوقائع .
الولايات المتحدة تحمل سورية مسؤولية فشلها في العراق ، كما تحملها مسؤولية الهزيمة التي منيت بها كل من واشنطن وتل أبيب في لبنان وفي غزة، و هذه الإمبراطورية المهزومة والفاشلة توهمت أنها وجدت الطريق إلى تقويض القوة السورية ، لكنها مفلسة وعاجزة من جديد أمام الصمود السوري والإرادة الشعبية الواضحة في هذا البلد بالوقوف إلى جانب الدولة الوطنية وجيشها وخلف رئيسها في تحد صارخ لأكبر حرب عالمية بالواسطة تقودها الولايات المتحدة وشركاؤها في الغرب والخليج وتركيا.
أولا: بلغت الحرب على سورية أقصى مداها في استهلاك الخيارات والأدوات التي أنتجتها الضغوط الأميركية والغربية عبر الأمم المتحدة كما استنفذت في سياق هذه الحرب التي تديرها واشنطن جميع التدابير والعقوبات والإجراءات العدائية التي اتخذتها الحكومات الغربية عموما وسائر الحكومات التابعة لها في المنطقة بدءا من جامعة المستعربين وحكومات الخليج التي قادت الهجمة.
في منظومة الضغوط وإجراءات الحصار وقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والجارية مع سورية لم تبق وسيلة غير مجربة وبكل تأكيد فقد نتجت عنها صعوبات وآثار فرضت نفسها على الشعب السوري وعلى الاقتصاد السوري ولكن تشير الوقائع إلى أن إرادة المقاومة الشعبية في سورية تصاعدت وأن الاقتصاد الوطني السوري يحول التهديد إلى فرصة لتنمية الإنتاج الوطني والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في البلاد و لتعزيز منظومة الاكتفاء الذاتي التي تميز سورية اقتصاديا منذ عقود .
كما تبرهن الوقائع المستمرة منذ العام 2005 على أن شراكات سورية وعلاقاتها الدولية والإقليمية أوسع وأفعل من أن تنجح مساعي الحصار والعزل التي تستهدفها وشبكة الشراكات السورية تمتد على قوس مجموعة البريكس من الصين والهند وروسيا إلى جنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية في حين لم تفلح الضغوط في توليد قطيعة تجارية مع العراق أو حتى مع الأردن.
ثانيا: التلويح بالانتقال إلى شن عدوان على سورية يبدو تهديدا افتراضيا أقرب إلى التهويل السياسي وفي أي حال فان ارتباك الحماقة سوف يقود إلى تداعيات خطيرة يعرفها الغرب بأسره ولكن الأكيد هو أن مثل هذه الموجات الدعائية التي تكررت منذ آذار 2011 ليست سوى فصول من محاولات التأثير على المعنويات وممارسة الابتزاز السياسي اتجاه شركاء سورية الاستراتيجيين وخصوصا روسيا والصين وإيران.
العدوان على سورية إن وقع لن يواجه القوة السورية بمفردها فمنظومة المقاومة في المنطقة من إيران إلى لبنان وفلسطين جاهزة وحاضرة للنيل من قوات الناتو ومن قاعدتها الإسرائيلية المتقدمة وهو ما سوف يحول التهديد أيضا إلى فرصة جدية.
لقد افترض كثيرون في بداية الأزمة السورية أن الدولة الوطنية قد تقفز من مواجهة الحرب الأميركية التي تستهدفها إلى إشعال جبهة الجولان ، ولكن منهجية الرئيس الأسد في إدارة الصراع قامت على مبدأ مجابهة التحدي الداخلي المتمثل بالإصلاح ، والذهاب إلى النهاية في التدابير السياسية التي تلبي الطموحات الشعبية ، وهو أراد بذلك فك التشابك والالتباس بين قوى المؤامرة وبين حوافز الاحتجاج الصادق والسلمي للمطالبة بالإصلاح ، وقد نجح في ذلك كما تبين بالتجربة كما تصرف الرئيس الأسد أيضا في موضوع الجبهة مع العدو الإسرائيلي على انه شأن استراتيجي مصيري يتقرر بالشراكة مع الحلفاء في منظومة المقاومة وليس مهربا من تأزم داخلي أو من مؤامرة خارجية.
لكن ما يعرفه الغرب بأسره أيضا هو أن العدوان على سورية بقوات أجنبية مباشرة سيعتبر عدوانا على إيران وعلى المقاومة في لبنان وفلسطين وهذا ما سبق أن أعلنته القمة الثلاثية في قصر الشعب التي ضمت الرئيسين الأسد ونجاد والسيد نصرالله.
ثالثا: التمرد المسلح الذي استثمرت فيه الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي وتركيا وحكومات الخليج ، وجندت المرتزقة وضباط المخابرات الأجانب ووردت الأسلحة والأموال بسخاء عبر خطوط التهريب الحدودية، هذا التمرد بلغ أقصى مداه والرهان على تطويره إلى حرب أهلية عبر المجازر اصطدم بعقبتين كبيرتين ، أولاهما الكشف السريع عن هوية فرق الموت التابعة للمعارضات السورية وجماعاتها الإرهابية على الأرض وبالتالي افتضاح أمر الفبركة الإعلامية والسياسية التي جرى التخطيط لها مع تدبير المذابح في وقت واحد، أما العقبة الثانية فهي تمسك الشعب السوري بقطاعاته الأساسية وبقواه الحية بالوحدة الوطنية وبالدولة الوطنية التي اضطرت لتحريك قواتها في مكافحة التمرد ولنزع الأسلحة تحت الضغط الشعبي الملح في طلب التخلص من الفوضى والإرهاب.
مع تقدم العمليات التي يخوضها الجيش العربي السوري في مدينة حمص والبلدات المجاورة سيسقط المعقل الرئيسي للتمرد المسلح وبينما ترسخ الدولة السورية من سيطرتها على المعابر الحدودية غير الشرعية يتم الإمساك بخطوط الإمداد الخارجية التي اعتمدت عليها العصابات بينما يظهر من الانكفاء الشعبي عن العصابات المسلحة في بعض الأرياف أن عمليات التفكيك الأمنية باتت أكثر يسرا في حين تتواصل عمليات إلقاء السلاح والتجاوب مع فرصة العفو التي قدمتها الدولة الوطنية.
إن الأداة الوحيدة الباقية بيد الولايات المتحدة في حربها مع الدولة السورية هي شبكات الإرهاب والتكفير التي تضم حسب التقارير الأميركية أكثر من ألف محارب من القاعدة دخلوا إلى سورية وهنا تقع الولايات المتحدة في لعبة لحس المبرد فالغرب بأسره سوف يدفع كلفة توليد بؤرة جديدة لنشاط الإرهاب والتكفير ، بينما الدولة السورية تبدو قادرة أمنيا وسياسيا على خوض هذه الحرب إلى النهاية بما لديها من الخبرات و بالحصانة الشعبية التي تحظى بها ضد جرائم القتل والتفجيرات الانتحارية التي زادت بنتائجها من التفاف السوريين حول دولتهم على عكس ما أراد المخططون.
رابعا: وقف مهمة المراقبين الذي جرى مؤخرا والتلويح بالحرب هي أوراق ضغط يستبق بها الأميركيون لقاء القمة بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره باراك أوباما وهم يعلمون مسبقا أنهم يستطيعون المماطلة بالالتزامات المطلوبة لاستكمال مهمة أنان ولكنهم لن يستطيعوا التأثير على موقف روسيا التي تدرك جيدا أهمية المعركة بين سورية والولايات المتحدة في إنتاج التوازن العالمي الجديد كما يعلمون أيضا أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الخليج وتركيا يشرفون على تدريب فصائل الشيشان في ليبيا وينظمون جماعات القتل والفوضى التي يريدون استعمالها في الداخل الروسي وهذا يبدو كافيا لترسيخ قناعة الرئيس بوتين بأن الانحياز إلى سورية والشراكة مع الرئيس الأسد في مقاومة الهيمنة الأميركية هو دفاع عن الأمن القومي الروسي.
الولايات المتحدة أمام فرصة الاعتراف غير المباشر بالفشل من خلال التجاوب مع المبادرة الروسية وإذا ركبت رأسها مسايرة للسعودية وقطر وتركيا فهي أمام استحقاق الهزيمة الصريحة والمعلنة أمام سورية طال الزمان أم قصر بعدما استنفذت جميع أدوات الحرب غير المباشرة والضغوط أما إن غامرت بالانتقال إلى الحرب المباشرة فإنها ستكون أمام حريق كبير يهدد جميع مصالحها ومواقع نفوذها بدءا من إسرائيل.