صدمة تل كلخ ....نبيه برجي

سواء الذين فاخروا بأن اولئك الشبان الضحايا، والذين مشهد جثثهم يفتت الروح، وليس القلب فقط، سقطوا في ارض تل كلخ، او الذين حاولوا استغباءنا، كأنه لا يكفينا كل ذلك الغباء الذين نحن فيه، وقالوا ان الشبان ذهبوا بمبادرة فردية. هكذا اكثر من 20 شاباً، بلحاهم ،وببنادقهم، وبكوفياتهم، قرروا فجأة ان يتسللوا الى المجهول ليقاتلوا او لينصروا اخوانهم في بلاد الشام والذين يعتبرون انهم يسقطون على ايدي طواغيت العصر…

كما لو ان هناك في الدولة من لا يغطي الخلايا التي لا تقل هولاً عن تنظيم القاعدة، والكثيرون من امرائها او مشايخها ذهبوا في فتاوى الدم الى ابعد مما ذهب اسامة بن لادن او ابو مصعب الزرقاوي، وكما لو ان هناك بين المرجعيات الدينية، بما في ذلك بعض المرجعيات السلفية، من لم يتوقف عند قول «لا حول ولا قوة الا بالله»، بعدما بلغه الدليل تلو الدليل بأن العدوى الافغانية تستشري في الشمال وغير الشمال وبتعبئة مذهبية تذهب بالبلاد، حتماً، الى الحرب الاهلية…

صدمة الجثث المحطمة على الارض اكثر بكثير من ان تكون صدمة اخلاقية، او صدمة عاطفية. هي صدمة الوعي الذي يفترض ان تجعلنا نسأل، نسأل جميعاً ولا نقصد فريقاً دون آخر، الى اين نحن ماضون مادمنا قد اوغلنا في تلك اللوثة المذهبية، بل وبصوت عال، في تلك اللوثة الوثنية؟

لا نعتقد اننا كنا بحاجة الى ذلك المشهد المروع لندرك ان السيناريو الذي يتم تنفيذه منهجياً لا يتوخى تقويض النظام فحسب ، وانما تقويض سوريا بكل تلك الحساسية التاريخية والقومية والجيوبوليتيكية، لكي لا يبقى هناك موطىء قدم لاي عربي على ارض العرب…

من الآن، وصاعداً، وبأيدينا القذرة، كلنا شظايا مذهبية واتنية وقبلية، وحتى طبقية. لا مجتمعات ولا دول، ولا انظمة بطبيعة الحال، هذا اذا كنا نجد في اي مكان من العالم مثل هذه الانظمة البالية والتي لا تليق حتماً بأن تحكم البشر، وحتى مادون البشر…

الصدمة التي ينبغي ان تجعلنا نعي اننا ممنوعون من الثورات، وممنوعون من صناعة الحياة، حتى صناعة الآخرة تخضع لمواصفات ومعايير تتم صياغتها في المطابخ الاستخباراتية الكبرى. اجل، ممنوعون من الثورات بعدما اخترعوا لنا ذلك الاسلام الذي تحل فيه المناجل محل النصوص، واللحى محل الادمغة، ويحل فيه الجلباب محل الخيال، الا اذا كان ذاك الطراز من الخيال الذي يترعرع على العكاز في الاقبية والسراديب…

ممنوعون من الثورات، وممنوعون من وقف الدم. في لبنان يتكاثر منظرو الشاشات، والمهرجانات المصطنعة (هل قرأتم دموع والد وسام الحسن في مهرجان طرابلس التي لا بد من ان ننحني امامها؟)، وحيث الوجوه، والقامات التي توظف الاحزان، والآلام، التي هي ليست احزانهم، ولا آلامهم، من اجل مقاعد نيابية او من اجل زعامات لا تتعدى حدودها حدود الزقاق…

المنظرون إياهم يقولون «لا حوار مع النظام»، اي بين المعارضة او المعارضات والنظام، كما لو اننا في لبنان لم يقتل بعضنا البعض، ولم نتذابح، حيناً من اجل عيني ياسر عرفات، وحيناً من اجل عيني آرييل شارون، وسقط منا اكثر من مائة الف قتيل، لنستقر في نهاية المطاف على طاولة في الطائف.

لماذا يصح الحوار في لبنان، وفوق جبل من الجماجم، ولا يصح في سوريا التي تتحول يوماً بعد يوم الى باحة دموية لاولئك «المجاهدين» القتلة، والاغبياء، الاغبياء باسم العالم الآخر والذين ينتمون حتى الآن الى 14 جنسية عربية وغير عربية، حتى ان ديبلوماسياً اوروبياً قال لنا ان ثمة مغتربا سورياً في نيجيريا يعمل الآن، وبتنسيق مع احد الاجهزة العربية، لنقل العشرات من جماعة بوكو حرام الى سوريا…

…سوريا التي اذا كنا نريد نصرتها، لا قتلها خدمة لهذه الامبراطورية او تلك، بما فيها امبراطورية يوشع بن نون، ما علينا الا ان نبذل قصارى جهدنا لحث الافرقاء على الحوار، وان كان هناك من يسخر من هذا الكلام، فحين نعجز نحن، كلبنانيين، عن الحوار، كيف لنا ان ننصح او نحمل الآخرين على الحوار؟…

هذا اذا لم نأخذ بالاعتبار ان سوريا اصبحت في اشداق كل الذين يبغون ازالتها من الوجود..

نحن اساقفة الغيب والغباء شركاء ومتواطئون. حاولوا ان تستعيدوا مشهد الجثث، ثم انظروا الى ايديكم، ارواحكم، المخضبة بالدم. دم سوريا الذي هو ايضاً دم لبنان!