بدا السياسي الروسي المخضرم وكأنه يمتلك عيني زرقاء اليمامة حين قال ايضا ان الاميركيين تعبوا كثيرا من التضاريس الايديولوجية في الشرق الاوسط، وحيث يبدو ان الازمات لا تحل الا في العالم الاخر، فيما الحروب التي تحدث عادة كـ«اجراء جراحي تاريخي» لا تفضي سوى الى... التيه!
هو اول من تحدث، على نحو حاسم، عن الابحاث الاميركية المكثفة لانتاج الطاقة البديلة، حتى اذا ما بدأ العقد الثالث من القرن، لم يعد الشرق الاوسط اكثر من حطام استراتيجي، وليذهب النفط علفا للابل، الا اذا ارادت واشنطن استخدامه في اللعبة الزئبقية حول الاسعار.
ومع صعود الازمة السورية، قال بريماكوف انه كما ادى المال العربي العشوائي الى اطلاق الظاهرة الافغانية التي تشكل تهديداحقيقيا للدول العربية، فان المال اياه لا بد ان ينتج الظاهرة السورية التي تتغلغل تلقائيا في المحيط العربي، وبتواطؤ مع الادارة الاميركية التي باتت تعطي الاولوية للمصالح، او للسياسات، الانية على الاستراتيجيات الكبرى التي بدأت مع فرنكلين روزفلت لتتسلل مع دوايت ايزنهاور الى الشرق الاوسط عبر اكياس الطحين...
هكذا يفكر سيرغي لافروف الان، وهو ما يعكسه الديبلوماسيون الروس في اكثر من عاصمة عربية، فوزير الخارجية الروسي يدرك ان نظيرته الاميركية هيلاري كلينتون مشوشة جدا، ان تصريحاتها الببغائية ليست نتاج استراتيجية واضحة المعالم، وربما اخذ بتحليل بريماكوف الذي يعتبر ان كلينتون لا تصنع السياسات، ليس فقط لكونها تفتقد الخبرة الديبلوماسية المعقدة، وانما ايضا لانها ليست موهوبة في هذا المجال.
استطرادا، فان بعض نظرائها في اوروبا يتعاملون معها كعارضة ازياء هؤلاء لا يترددون ابدا في الثناء على ذوقها الرفيع في اختيار ملابسها، وفي تسريحة شعرها وربما في احمر الشفاه الذي تستخدمه، حتى ان احد معلقي لوكنار انشينه لم يتورع عن القول ان عقدة مونيكا لويفنسكي (وقصتها الشهيرة مع بيل كلينتون) تلاحق وزيرة الخارجية حتى وهي تصرخ في وجه المشروع النووي الايراني، ليضيف انها «ديبلوماسية الهوت كوتور».
هل حقا ان فلاديمير بوتين يجر باراك اوباما بيده؟ يضحك الروس كثيرا عندما يتحدث احدهم عن «الربيع العربي» ويقولون انه لا يأتي بالفراشات بل بالضياع، حتى ان الاستخبارات الروسية وضعت بين يدي الاميركيين معطيات حساسة للغاية حول الاسلمة المنهجية لمؤسسات الدولة في تركيا، وهو ما قد يضع هذه الدولة الاقليمية الكبرى امام احتمالات بنيوية خطيرة بالنظر لتركيبتها الفسيفسائية المعقدة.
لا بل ان بريماكوف يسأل عن موعد اعلان الخلافة في اسطنبول، وهو الذي يعتقد ان الاتراك الذين طردوا من البلدان العربية بتلك الطريقة المهينة انما يتشوقون الى تلك اللحظة التي يرفرف فيها علمهم في دمشق العزيزة جدا على قلب السلطان. بالاحرى على قلب الخليفة...
كان هذا ليحصل فعلا لولا الدرع الروسية التي ما لبثت ان اعقبتها تجربة صاروخ عابر للقارات. التجربة كانت مثيرة للدهشة وللاسئلة في آن. حدثت فوق دول معينة، وبتظاهرة ضوئية لافتة. انتبهوا، اننا دولة عظمى، وان النظام في سوريا لن يسقط لكي تعود السلطنة العثمانية، بعباءة اميركية هذه المرة، وتقفل المنافذ على الدببة القطبية...
عبثا حذر الكرملين العرب من التداعيات الدراماتيكية للحدث السوري. لا مسافة بين دمشق وبغداد، ولا مسافة بين دمشق وبيروت، فماذا اذا استشرى الجنون المذهبي في هذا المثلث، وهل يمكن للخليج ان يبقى بمنأى عن الشظايا الدموية لذلك الوباء؟
لا احد يتصور، بمن في ذلك يفغيني بريماكوف، ان علاقة غرامية تربط بين النظام الروسي والنظام السوري. بالتأكيد انها علاقة استراتيجية ولا تتعلق بالمجال السوري فحسب، بل انها ترمي الى الحيلولة دون ارساء قواعد جديدة للعبة، فالاميركيون المنهكون من الحروب الضائعة، ومن الازمات المالية التي تضرب نصف الكرة الغربي (وهذا المصطلح اطلقه جون فوستر دالاس). يريدون اعتماد وكلاء اقليميين يتولون ادارة اللعبة اياها، وفي اطار استراتيجية محددة لا يبدو انها تمت الى الواقعية بصلة، ان بسبب اليقظة الهائلة للتنين، او لان الروس يعتبرون ان ما يبتغيه الاميركيون، من خلال زحفهم الى شرق اوروبا وشرق آسيا، تحويل روسيا الى دولة على قياس اوكرانيا او طاجكستان، وربما على قياس مولدافيا و.. قيرغيزستان!
الروس يستغربون كيف ان الاميركيين لم يصنعوا حتى الان بن لادن السوري (اين هو عدنان العرعور؟) لكي يستكمل حفل الجنون اياه. يقولون «خذوا علما بان نظام بشار الاسد لن يسقط. تعالوا نتفاهم...».
عبارة «تعالوا نتفاهم» تقض مضاجع الاميركيين والحلفاء العرب على السواء. ولكن لا بد من ذلك، والا فاقرأوا ما تقوله الكتب المقدسة!