قضية "مجزرة الحولة" لعبة غربية مفضوحة خوفاً من انقلاب تقرير المراقبين الدوليين على الدول الغربية فتكفّل الإرهابيون التابعون لهم بتنفيذها على الأرض وجعلتهم يتورطون دبلوماسياً
على الرغم من أن الغربيين لا يعترفون أبدا بأخطائهم, إلا أنهم في واقع احتمال الاعتراف بأنهم قد ضللوا بخصوص مجزرة الحولة.
ليس المهم معرفة فيما إذا كانوا سيصححون أو لا يصححوا الصورة الكاذبة التي تصنعها دعايتهم حول سورية, بل الأهم معرفة تطور علاقات القوة التي نشأت بين حلف شمال الأطلسي من جهة, ومنظمة تعاون شنغهاي, من جهة أخرى.
لقد كشفت قضية الحولة عجز القوى الغربية عن معرفة حقيقة ما يجري في سورية, في مقابل سعة اطلاع الاستخبارات العسكرية الروسية على ما يجري على الأرض.
لقد عرض ما يسمى "الجيش السوري الحر" في أحد مساجد الحولة صور 108 جثث, يقول المتمردون أنها أجساد مدنيين تم ذبحهم وسلخ جلودهم بتاريخ 25 أيار - مايو 2012 على يد ميليشيات موالية للحكومة, يطلق عليها اسم "الشبيحة".
إلا أن السلطات التي بدت في حالة صدمة منذ وصول نبأ المجزرة, سارعت إلى إدانتها ونسبتها للمعارضة المسلحة.
ففي الوقت الذي لم تتمكن فيه وكالة الأنباء الرسمية "سانا" من نشر معلومات دقيقة وموثوقة حول ما حصل, سارعت وكالة الأنباء الكاتولويكية السورية "فوكس كلامانتيس" إلى نشر شهادات حية تمثل جانباً من الأحداث, موجهة اتهاما صريحا للمعارضة, وبعد أيام خمسة من وقوع المجزرة, قامت قناة روسيا اليوم الفضائية ببث ريبورتاج مفصل جداً مدته 45 دقيقة يمكن وصفه بأنه التحقيق العام الأكثر وضوحاً حتى الآن.
لقد هرعت الدول الغربية ومعها دول الخليج التي تتحرك ككتلة موحدة "لإسقاط النظام", وتعتبر المعارضة محاوراً متميزاً, إلى تبني رواية ما يسمى "الجيش السوري الحر", متجاهلة نتائج تقرير بعثة المراقبين الأمميين في سورية. وكإجراء عقابي فقد اتخذت معظم هذه الدول فيما بينها قراراً مشتركاً لوضعه في التنفيذ حين الحاجة: طرد السفراء السوريين من بلدانهم. هذه الخطوة السياسية لا تعني بأي حال قطع العلاقات الدبلوماسية, طالما أن بقية العاملين في السفارات باقون في وظائفهم.
على صعيد آخر, تبنى مجلس الأمن بياناً رئاسياً أدان فيه المجزرة دون أن يحدد هوية المرتكبين. لكنه ذكر في المقابل الحكومة السورية بمسؤولياتها في حماية شعبها بوسائل متناسبة, أي عدم اللجوء إلى الأسلحة الثقيلة.
خلافا لما ورد, قدمت المفوضة العليا لحقوق الانسان, نافي بيلاي, مزاعم اتهمت من خلالها السلطات السورية بارتكاب المجزرة, طالبة تحويل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية.
أما الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير خارجيته لوزان فابيوس, فقد أعربا عن نيتهما بإقناع كل من روسيا والصين بالعمل على عدم إعاقة صدور قرار عن مجلس الأمن يجيز اللجوء إلى استخدام القوة, بالتزامن مع استمرار الصحافة الفرنسية باتهام روسيا والصين بحماية الرئيس الأسد.
وفي رده على هذه الاتهامات, أسف نائب وزير الخارجية الروسي, أندريه دينيسوف أن يكون الموقف الفرنسي مجرد "ردود فعل عاطفية بسيطة", خالياً من أي تحليل, مشيرا في الوقت نفسه إلى أن موقف بلاده الثابت إزاء هذا الملف كما في الملفات الأخرى, لا يقف عند دعم حكومة ما, بل دعم شعب ( طالما أن الشعب السوري قد اختار الرئيس بشار الأسد في الاستفتاء الأخير على الدستور).
وبناء على طلب من السلطات في دمشق, وصلت بعثة المراقبين التابعة للأمم المتحدة, واستقبلتها المعارضة التي تسيطر على بعض المناطق, وتمكنت من تكوين ملاحظات مختلفة لإعداد تقريرها المرحلي.
وبناء على طلب من السلطات في دمشق, وصلت بعثة المراقبين التابعة للأمم المتحدة, واستقبلتها المعارضة التي تسيطر بعض المناطق وتمكنت من تكوين ملاحظات مختلفة لإعداد تقريرها المرحلي.
في مؤتمره الصحفي الموجه للداخل السوري, تلا الرئيس الأسد للجنة التحقيق القضائية في المجزرة بيانا موجزا, كشف من خلاله عن العناصر الأولية للتحقيق والتي تشير, حسب ما أفاد, بأن المجزرة قد ارتكبتها المعارضة في سياق عملية لما يسمى "الجيش السوري الحر" الناشط في المنطقة.
انطلاقاً من يقينهم بأن تقرير بعثة المراقبين التابعة للأمم المتحدة, يمكن أن ينقلب ضدهم, لجأت القوى الغربية إلى انشاء لجنة تحقيق مكملة من قبل مجلس حقوق الإنسان الخاضع لهيمنتهم في جنيف, مهمتها تقديم تقرير عاجل من شأنه أن يفرض رؤية سابقة لخلاصات لجنة المراقبين الدوليين.
كيف من الممكن معرفة ما الذي حصل في الحولة؟
لكن هناك عقبات رئيسية تعترض سبيل المحققين. أولها أن الحكومة السورية قد فقدت السيطرة على منطقة الحولة منذ بضعة أسابيع. الأمر الذي يتعذر معه وصول القضاة السوريين إلى الميدان, وإذا كان هناك صحفيون قد تمكنوا من الوصول إلى الحولة والتجول فيها, فهذا ليس ممكنا إلا بالاتفاق مع عناصر الجيش السوري الحر وتحت اشرافهم.
ثمة حالة استثنائية لابد من ذكرها. لقد توصل فريق صحفي من قناة روسيا 24 الاخبارية من التجول في تلك المنطقة من دون مرافقة واجراء ريبورتاج صحفي مفصل من الميدان.
ففيما تؤكد لجنة التحقيق السورية الرسمية بأنها جمعت الكثير من الشهادات الميدانية, تؤكد في الوقت نفسه أنها لن تضع هذه الشهادات بتصرف الاعلام قبل اكتمال التحقيق. لذا تبقى مسألة حماية الشهود حتى هذا التاريخ ضمن اطار سرية التحقيق, ولكن التلفزيون السوري الرسمي بث مع ذلك عدة شهادات في اليوم الأول من شهر حزيران - يونيو الجاري.
لدى المحققين أشرطة فيديو زودهم بها ما يسمى "الجيش الحر" بشكل حصري. لكن بما أن ما يسمى "الجيش الحر" قد جمع جثث الضحايا في المسجد, ثم واراها الثرى في اليوم التالي, فلم يعد أمام بعثة مراقبي الأمم المتحدة أيه امكانية للحصول على نتائج صادرة عن الطب الشرعي لعدد من الجثث.
النتائج التي توصلت إليها شبكة فولتير
الحولة ليست مدينة, بل منطقة إدارية تضم ثلاث بلدات, عدد سكان كل واحدة منها حوالي 25 ألف نسمة. بلدة تلدو "تخضع منذ عدة أسابيع لسيطرة المتمردين, وتحديداً ما يسمى "الجيش السوري الحر" الذي يفرض قوانينه على البلدة. أما الجيش الوطني فلا يقوم إلا بتأمين طرق المواصلات من خلال المواقع التي أقامها في عدة أماكن في تلك المنطقة, دون أن يغامر بالخروج عن مسار هذه الطرق.
قام بعض الأفراد باختطاف أطفال بهدف الحصول على فدية مالية لقاء اطلاق سراحهم. وعندما باءت محاولاتهم بالفشل بالحصول على المال, قتلوا الأطفال ورموا بجثثهم في الشوارع قبل أيام من مجزرة الحولة, وقد جمعهم الجيش الحر وأضافهم لضحايا المجزرة.
مساء 24 أيار-مايو, نفذ الجيش السوري الحر عملية واسعة النطاق بهدف تعزيز سيطرته على المنطقة, وجعل تل دو قاعدته الجديدة. وقد استعان في عمليته هذه بمقاتلين 600-800 شخص استقدمهم من محافظات بعيدة نسبيا, جمعهم في البداية في الرستن وسعان, ثم بدأ هجومه على المواقع التي يتمركز فيها الجيش النظامي. في تلك الأثناء, كان يقوم فريق منهم بتحصين تل دو عبر نصب بطاريات صواريخ مضادة للمدرعات, وتنفيذ عمليات تطهير بالقضاء على عدد من سكانها.
أولى ضحايا تلك العمليات في تل دو, كانت عائلة عبد المعطي مشلب, وهي مؤلفة من عشرة أشخاص, ونائب منتخب لتوه في مجلس الشعب, وبعد أيام قليلة من انتخابه صار أميناً سرّ المجلس, إضافة إلى ضابط برتبة عالية يدعى معاوية السيد.
أما الأهداف الأخرى لعملياتهم فقد أصابت كل الأسر السنية التي اعتنقت سابقا المذهب الشيعي. من بين الضحايا مراسلين محليين لـ "توب نيوز", و"نيو أورينت نيوز", وهي وكالات صحافة, أعضاء في شبكة فولتير.
ونظرا لعدم تمكنهم من الاستحواذ إلا على موقع واحد للجيش النظامي, لجأ المهاجمون إلى تغيير خطتهم, عبر تحويل هزيمتهم العسكرية إلى خبطة اعلامية ناجحة. قاموا بمهاجمة المشفى الوطني, ثم احرقوه, بعد أن نقلوا الجثث المحفوظة في ثلاجات المشفى, وأضافوهم إلى باقي الجثث المتجمعة في المسجد, حيث جرت عمليات التصوير.
إذن, فنظرية اقدام "ميليشيات" موالية للحكومة على ارتكاب هذه المجزرة, لا تصمد أمام هذه الوقائع. لقد جرت في تلك الأثناء اشتباكات مسلحة بين الموالين والمتمردين, وتم ذبح العديد من الموالين للدولة على أيدي المتمردين, وما حصل ليس سوى مسرحية قام بها ما يسمى "الجيش السوري الحر" من خلال خلط جثث من أصول مختلفة, متوافقة مع وفيات حصلت منذ أيام قليلة.
يستنتج من ذلك أن فرضية وجود "شبيحة" مجرد خرافة. هناك بالتأكيد أفراد موالون للحكومة وهم مسلحون, ومن الممكن أن يقوموا بأعمال انتقامية, لكن ليس هناك أي بنية هيكلية, أو مجموعة منظمة يمكن نعتها بميليشيات موالية للحكومة.
تورط سياسي ودبلوماسي
طرد السفراء السوريين من قبل الدول الغربية, هو اجراء تم اعداده في وقت سابق ليأتي متناغما. كان ينتظر القادة الغربيون وقوع مجزرة من هذا النوع, كي يضعوا قرارهم موضع التنفيذ. لقد تجاهلوا العديد من المجازر السابقة, لمعرفتهم أن من ارتكبها ليس إلا ما سمونه هم "الجيش السوري الحر", وما تمسكهم بهذه المجزرة بالذات إلا لاعتقادهم بأن من ارتكبها هم "ميليشيات" موالية للحكومة.
فكرة الطرد المنسق للسفراء تم تصورها في واشنطن وليس في باريس, التي وافقت من حيث المبدأ على الفكرة دون النظر في الآثار القانونية المترتبة عليها. فمن الناحية العملية, لمياء شكور هي سفيرة سورية لدى فرنسا ومنظمة اليونسكو في نفس الوقت. الأمر الذي يعني عدم امكانية طردها من فرنسا بموجب اتفاقية المقر, وحتى لو لم تكن سفيرة معتمدة لدى اليونسكو, فسوف يتعذر على السلطات الفرنسية طردها لكونها تحمل الجنسية المزدوجة, السورية - الفرنسية.
لقد نسقت واشنطن أمر طرد السفراء السوريين بهدف اعطاء انطباع بتحرك جماعي, من شأنه أن يشكل عامل ضغط على روسيا.
وفي الواقع, فقد سعت الولايات المتحدة من وراء هذا التصرف, لاختبار ميزان القوى الدولية الجديدة, وتقييم ردود فعل موسكو, بهدف معرفة إلى أي مدى يمكنها أن تذهب.
غير أن اختيارهم لمجزرة الحولة كان خطأً تكتيكياً. لقد تبنت واشنطن هذه القضية دون أن تتأكد من التفاصيل, ليقينها بأن أحداً لن يمكنه القيام بذلك. لقد نسيت واشنطن, أن موسكو قد أحاطت بكل البلد خلال الشهور الأخيرة, وأن لدى الأخيرة 100 ألف مواطن روسي مقيم في سورية.
بالتأكيد لم ينشر الروس هكذا ببساطة منظومة دفاع جوي متقدمة جدا قادرة على ردع أي هجوم لحلف الناتو ضد سورية, دون أن يتمموها بنشر وحدات من الاستخبارات, تضم عسكريين قادرين على التحرك في المناطق المتمردة.
هذا ما مكن موسكو, في حالة كهذه, من كشف الحقائق بعد بضعة أيام من وقوعها. فقد تمكن خبراؤها من تحديد هوية 13 فردا من عناصر ما يسمى "الجيش الحر" المتورطين بارتكاب المجزرة, وتسليم قائمة بأسمائهم إلى السلطات السورية.
هذه المعطيات, لم تجعل موسكو غير خاضعة لتأثير القضية عليها فقط, بل زادت من صلابة موقفها.
لقد بدا لفلاديمير بوتين أن سعي الغرب لجعل الحولة رمزا لهم, دليل واضح على عدم معرفتهم بما يجري حقيقة على الأرض. فبعد أن اضطروا لسحب ضباطهم الذين كانوا يدربون عناصر الجيش الحر في الميدان, لم يعد لدى القوى الغربية سوى استسقاء المعلومات من طائراتهم بدون طيار, ومن أقمارهم الاصطناعية لمعرفة ما يجري على الأرض؛ وبالتالي, صاروا فريسة للأكاذيب, وعنتريات المرتزقة الذين أرسلوهم إلى الميدان.
وبنظر موسكو, فأن هذه المجزرة ليست إلا واحدة من المآسي الكثيرة التي يتكبدها الشعب السوري منذ سنة ونيف. يبقى أن موضوع ترتيبها المبكر من قبل الغرب, يشير إلى أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من وضع خطة جديدة منذ سقوط الامارة الاسلامية في بابا عمرو.
وفي المحصلة, صعدوا مكان القاضي, ففقدوا المقدمة التي تسمح للاعب الشطرنج بالفوز.
تحقيق: تييري ميسان ـ