مرة أخرى .. وقعنا أحياء بيد الله: عن الحوريات والغلمان والجهاد!
تقول الأسطورة إن شيخ الجبل حسن ابن الصباح صاحب قلعة آلموت في إيران ق13م أجرى في هذه القلعة نهرين أحدهما من لبن وآخر من عسل.. وكان يعطي من يريد تجنيده بعض الحشيش حتى يفقد الوعي وبعد أن يفيق من خدره يرى البساتين والجنان اليانعة والأنهار المنسابة من عسل ومن لبن؛ ويرى الجواري الحسان يتفيأن الظلال ويرفلن في ثياب سندسية خضراء، ويتهادين بين يديه على أنغام الربابة كحوريات الجنة؛ والغلمان المقرطون يطوفون عليه بأيديهم أقداح الخمر والأباريق؛ فيقول أين أنا؟ فيقال له أنت في الجنة.. ولكنك لن تدخلها حتى ترجع إلى الدنيا وتطيع الحسن بن الصباح.. وبعدها يفقدونه الوعي ويرجع إلى حيث كان..
فكانت النتيجة مذهلة -كما هي اليوم- من كتاب (المنتظم) لابن الجوزى: أنّ ابن الصباح عندما كان يستقبل مبعوثين من خصومه السلاجقة يطلبون منه التنازل عن ألموت والرجوع عن دعوته عمد إلى الردّ عليهم بواقع حال فدائييه الذين أذاقهم فردوسه، فاستدعى اثنين منهم وقال لأحدهم: هل تريد العودة إلى الفردوس والخلود فيها؟ فأجاب الفتى: أن نعم، فقال له اذهب إلى أعلى ذلك البرج وألقِ نفسك إلى الأرض، فانطلق الغلام برغبة طافحة وجذل ظاهر وارتقى البرج وقذف بنفسه إلى الأرض فتقطع جسده ميتا، ثم التفت إلى الفدائي الآخر ملوحاً بالفردوس وسأله : ألديك خنجر؟ فأجاب أن نعم، فقال له: اقتل نفسك، فانتزع الفتى خنجره وغرسه في عنقه وفار دمه ثم خرّ صريعا… عندها قال ابن الصباح للرسل بين يديه : أبلغوا من أرسلكم أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا مبلغ طاعتهم لي!!
لم يصنع ابن صباح شيئا سوى أنه جسد الفكرة والملحمة الإسلاموية ولخّص الحال والمآل، إنه يتقمص دور الرسول ويبلور فحوى الرسالة المحمدية كما يقرأها الإسلاميون في جملة مقاصدها وجوهر غاياتها؛ قد تختلف لغة الخطاب والأنماط والعلائق الوقتية لكن تظل (البنية الفوقية) بتعبير ماركس واحدة إذ يرجع الإسلاميون في رؤاهم الوجودية إلى قرون بعيدة في التاريخ حيث الإله الأسطوري المتجسم الجالس على العرش فوق السماوات يتسلى بالبشر. مع أن (البنى التحتية) تدفع إلى اتجاه معاكس؛ وهنا نقع في حالة ’’النفي’’ عند هيغل حول التطور الجدلي ولكن بصيغة مختلفة.
إذا آمنا بكون نمط الانتاج في مجتمع معين هو الذي يحدد التجليات السياسية الايديولوجية والأخلاقية لهذا المجتمع فإننا نجد أنفسنا أمام مجتمعات شرق أوسطية في طور الدخول على حقبة دينية ترفل في أسمال القرون الوسطى البالية رغم أن طبيعة البنى التحتية لهذه المجتمعات تفرض أن تكون طرق التفكير والمعايير الأخلاقية وأنماط التشريعات مختلفة ومعاصرة. ألم تصبح علاقات الانتاج نفسها خاضعة بوجه أو بآخر للبنية الفوقية التي تبلورت في العقود الثلاثة الأخيرة؟ فبماذا يفسر ذلك؟ يمكن أن يقال في هذه الحال إن هذه المجتمعات (باعتبار الغالب) تعيش خارج سياق التاريخ وجدانا وفكرا فهي تكره التجديد وتحن أبدا إلى الوراء؛ وتبالغ في الحذر من كل ما يظهر خارج شطوطها المسيجة بالحتميات والأغلال. لكن المفارقة تكمن في كون هذه المجتمعات تبنت بنى تحتية وظروفا مادية عصرية منذ عصر النهضة ودخول الطباعة إلى مصر، ما سيجعل الوضع بعد تولي الاسلاميين واسترسالهم في تطبيق تعاليم السياسة الشرعية التي سادت أيام الخلافة أكثر هزالة وهزءا وعرجا.. إن السقف يوشك أن يطير.
هنا نعيد السؤال؛ أيهما المحرك الحقيقي للتاريخ؛ الظروف المادية أم الظروف الروحية؟ ألا يطغى الوجدان الأعمى أحيانا على العلم حتى يخمد جذوته كما كان مصير العلم والفلسفة في العصور القديمة ورؤاها النظرية التي لم تعرف سبيلا للتطبيقات العملية بسبب الاهمال والتمسك بالأساطير مع ما كانت تعد به من تحسينات مهمة. يظهر أن نمط الانتاج خلافا للسابق لم يعد مؤثرا في التوجهات العامة للمجتمعات التي تتفيأ ضلال العولمة التي وحدت بشكل أو بآخر البنيات التحتية للمجتمعات المعاصرة بما فيها الدول النامية. لكن ألا يبدو الأمر إذا ألغينا قانون السببية وارتباط النتيجة بالعلة و سمحنا للخيال أن يسرح بنا- أشبه بكرة البليادو تضرب بها أخرى فبدل أن تندفع إلى الأمام ترتد إلى الخلف. نعم هو أمر غير معتاد لكنه حصل ويحصل الآن لكنها تبقى معوقات؛ والحتمية أن سيرورة التاريخ تتجه إلى الأمام وتتطور رغم العوائق كما العقل والفكر نحو معرفة أوسع وتلقاء قدر أكبر من العقلانية والحرية ؛ وليس في مقدور أحد تعطيلها فهي من قوانين الطبيعة.
حين يدخل الدين كأحد تلك المعوقات بكافة أبعاده كعنصر جوهري في المسألة الشرقية تتغير الرؤية وتعود بنا إلى مراحلية (كيكيرغارد) الوجودية :المرحلة الجمالية والمرحلة الأخلاقية والمرحلة الدينية؛ فإذا نظرنا من هذه الزاوية الوجودية إلى تاريخ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الحديث يمكن اعتبار الجمالية ما قبل عصر النهضة حيث سادت أجواء اللامبالات وكان الوالي العثماني أسير رغائبه يعيش اللحظة ويبحث في كل آن عن متعته ومتعة حاشيته غير آبه بالشعب ومآسيه الاجتماعية والأخلاقية ورغم ذلك تخللتها فترات تحررية قلقة في مصر وتونس(إلغاء نظام الرقيق، كتابة دستور حديث..) كانت ارهاصات لعصر النهضة، باعتبار القلق حالة ايجابية تدل على كون المجتمع في مرحلة وجودية. المرحلة الأخلاقية وهي المرحلة التي عرفت جاذبية متشبعة بقيم مدنية وسياسية حديثة مراعية ما يسميه (كانت) بأخلاقيات الواجب وتفعيل القانون الأخلاقي الكامن داخلنا وشهدت عملية بناء الدولة والمؤسسات وفق معايير أخلاقية أكثر انصافا للإنسان وملائمة لإنسانيته من تسلط الخلفاء المترفين حيث الحياة وسياسة الراعي للرعية أشبه بلعبة ابتزازية مهينة.
تمضي عقود بعد عصر النهضة فتنقلب طائفة لترتد إلى الجمالية فتعود الحياة السياسية لعبة يطبعها القمع والاستخفاف بالحقوق إرضاء للزعيم لتتيح الفرصة لظهور الإسلام السياسي قبل أن ’’نقع مرة أخرى أحياء بيد الله’’ وهي المرحلة الدينية مع تصدر الإسلاميين الساحة السياسية والتشريعية وانتشار المظاهر الدينية بين مختلف فئات المجتمع وبروز الدعاة و الوعاظ كمنظرين أخلاقيين وسياسيين واجتماعيين!! ليس هؤلاء كالفلاسفة الموسوعيين في عصر التنوير الواحد منهم كان فيلسوفا ولاهوتيا وفيزيائيا ورساما ومؤلفا موسيقيا وشاعرا وهو في كل ذلك مرجع محيط بدقائق تلك العلوم..موسوعية المشايخ الدكاترة وعموم أصحاب الفضيلة تكمن في المحفوظاتية السردية القائمة على أسلوبي الترغيب والترهيب النفسي والقدرة على التأقلم مع المتغيرات والحيل السافرة في التوجيه والتأويل النفعي للنصوص والاعتماد على الخيال و``الرومانسية`` الدينية. في الحالة الشرقية الراهنة يكون أمامنا عقدان مقبلان من الصراع المحموم على جميع الأصعدة وبمختلف الوسائل الحديثة نتيجة تداخل كل تلك المراحل في جيل واحد، في العقدين المقبلين سيضيق مناخ الحرية وستنمو العضلة الاسلامية ويتضاعف نفوذها، لن نعيش دولا ثيوقراطية شمولية ولن نر أنظمة ديمقراطية خالصة ولا ديكتاتورية بوليسية محضة، ولكن خليطا من كل ذلك.