نشرت الصحف السعودية والخليجية مقالات عديدة تتناول موجة انخفاض أسعار النفط وجادل كتابها في الدوافع ردا على موجة سياسية إعلامية محورها تحميل الولايات المتحدة والمملكة السعودية مسؤولية تعويم الأسواق العالمية وإغراقها للتأثير على الواردات الروسية والإيرانية في إطار الصراع الجاري على مستقبل التوازن العالمي ولإضعاف قدرة كل من موسكو وطهران على اتخاذ المزيد من المبادرات ناهيك عن الثبات الدفاعي مع حلفائهما في ساحات الصراع وعلى خطوط التماس الممتدة من اوكرانيا حتى اليمن والبحرين مرورا أساسا بسورية والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها .
أولا إن دراسة العوامل التي ولدت انهيارا دراماتيكيا في أسعار مبيعات النفط العالمية تشير إلى دور الإرادة السعودية السياسية التي تجلت في التصميم على إغراق الأسواق بقرار معلن رغم المعطيات التي تشير إلى تراجع الطلب العالمي على النفط نتيجة العوامل الاقتصادية التي يكررها المجادلون بمعنى أن تراجع الطلب الأميركي المنسوب إلى مباشرة إنتاج النفط الصخري معروف ومعلن منذ مطلع السنة الحالية ومعدلات الركود الاقتصادي في أوروبا واليابان معلنة أيضا وتباطؤ النمو الصيني كذلك معروف ومعلن وجميع تلك المؤشرات متواصلة منذ ازمة البورصات العالمية عام 2008 وبفوارق كمية بين عام وآخر.
الطبيعي نظريا في التعامل مع هذه العناصر والمؤشرات كان اتباع سياسة محافظة في تحديد معدلات الإنتاج النفطي بدلا من تعويم الأسواق لا سيما وان التراجع الكبير الحاصل في أسعار المبيع انعكس على الموارد المالية السعودية نفسها وهو ما يرجح الطابع السياسي للقرار ولأهدافه الفعلية ويفرض النظر إليه من ضمن انخراط الممكلة السعودية في استراتيجية الولايات المتحدة للجم انبثاق القوى العالمية المنافسة وللتحكم بالتوازنات والمعادلات الدولية المقررة في التسويات المحتملة لقضايا الصراع العالمي على المستقبل.
ثانيا النقاش الذي تشهده صحافة الخليج في هذا الملف يتناول فرص التكيف مع تراجع نوعي في الواردات النفطية ومع آثار هذا التحول على اقتصاديات المملكة السعودية ودول الخليج الأخرى التي تعتبر نموذجا للأحادية الاقتصادية المفرطة وهذه الدول لم تنجح واقعيا في تنويع مصادر الثروة وتنمية المجتمعات بصورة تقيم توازنا يحميها من تبعات انهيار مفاجيء في مداخيلها النفطية ، باستثناء حالة دبي التي استطاعت منذ الحرب العراقية على إيران في الثمانينات التقاط فرصة تطوير موقع تجاري وخدماتي ومصرفي عالمي وإقليمي انطلاقا من محلة جبل علي التي برزت كنواة متواضعة لمنطقة تجارية حرة تعتمد أساسا على حاجات إيرانية متزايدة خلال خمسة وثلاثين عاما لكوة تنفس اقتصادية ومالية تخرق جدران الحصار الغربي وهنا مفارقة درامية في الحسابات فخفض أسعار النفط يستهدف قوة اقتصادية ضخمة صاعدة هي إيران تكونت على هوامش حصارها فرصة دبي المتحولة إلى سوق إقليمية وعالمية بينما المملكة السعودية وسائر دول الخليج تواجه مأزق الاختناق الاقتصادي وخفض الموازنات وبدء حقبة جديدة من شد الأحزمة في أنظمة تبدو قاصرة عن تحويل التهديدات إلى فرص بسبب ارتباطاتها بالدول الغربية المهيمنة التي تبتلع في مصارفها ومحافظ سنداتها المالية تريليونات العائدات النفطية المتراكمة.
الاحتياطيات المالية الخليجية المتاحة خارج النظام المصرفي الأميركي والغربي ستذوب تدريجيا أمام الحاجة الملحة لإنفاق نسب كبيرة منها في تمويل النفقات الجارية للحكومات الغارقة في نهج استهلاكي بات يميز أنظمة الخليج الاقتصادية التابعة للغرب بصورة شبه كلية وقد بددت خلال العقود الماضية ثروات طائلة من عائدات النفط في تمويل حروب أميركية كثيرة كانت أولها الحرب في أفغانستان وتلتها الحرب العراقية على إيران ومن ثم الحرب على العراق نفسه لاحتلاله وتدميره ومؤخرا الحرب على سورية وثمة تقارير تفيد بأن بعض واردات النفط الخليجي وأمواله جيرت بواسطة الولايات المتحدة أو على شكل هبات سرية لصالح إسرائيل في تذخير حروبها الكبرى الخاسرة ضد لبنان وقطاع غزة لاسترداد الهيبة بعد اندحارها في لبنان عام 2000.
ثالثا أجرى بعض الكتاب مقارنة بين قرار حظر النفط الذي اتخذه الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز عام 1973 في سياق حرب تشرين التي خاضتها مصر وسورية ضد الكيان الصهيوني وقرار تعويم الأسواق الذي اتخذته المملكة مؤخرا ليبرهنوا على المكانة السعودية المقررة وهي أمر معترف به لكنهم غيبوا الفارق الحاسم بين القرارين .
في حرب تشرين كانت وجهة وغاية القرار السعودي الذي ردت عليه الدوائر الغربية والصهيونية بتدبير جريمة اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز هي الضغط على القوى الدولية الداعمة لإسرائيل ولا سيما الولايات المتحدة لإرغامها على ترجيح فرص تنفيذ القرارات الدولية التي تضمن تحقيق ما كان يسمى بتسوية عادلة وشاملة للصراع العربي الصهيوني عبر الانسحاب الشامل من الجولان والضفة الغربية وسيناء وإقامة دولة فلسطينة مستقلة.
أما وجهة قرار التعويم النفطي الأخير وغايته فهي تقديم الدعم والمساندة لخطة تثبيت الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم وعلى الأمم المتحدة والمكرسة لدعم إسرائيل ولحمايتها من تصاعد منظومة القوة الإقليمية التي يقيمها محور المقاومة بدعم من روسيا وإيران .
السؤال الذي يشغل بال المحللين في الصحف الخليجية يتعلق بالمستقبل وبجدوى التفريط بإمكانات محتملة لصالح شريك غير مضمون ( أي الولايات المتحدة ) خصوصا وأن روسيا وإيران بالذات مصممان على مقاومة الضغوط وقد سارعتا لاتخاذ تدابير وإجراءات ضمن خطة للتكيف والمواجهة وردتا بمضاعفة الدعم للدولة الوطنية السورية اقتصاديا وعسكريا ، أما المفاجأة غير السعيدة لاستراتيجية واشنطن والرياض فهي ان قوى عالمية صاعدة كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها سوف تستفيد من خفض أسعار النفط لتضاعف احتياطها الاستراتيجي من الطاقة ولتعزز تنوع مواردها الاقتصادية بينما تسعى إيران وروسيا وفنزويلا في هذا الخيار الذي تتيح لها مواردها وشراكاتها التقدم في سبيله وتقليل الخسائر والمضي في نزعتها الهجومية لفرض معادلات جديدة تنهي عصر الهيمنة الأحادية .f