لجأ الإرهابيون العاملون ضد الشعب والدولة السورية إلى عرسال اللبنانية لاتخاذها قاعدة لوجستية وملجأ بهرعون إليه كلما احتاج أحدهم لاستراحة أو قضاء وقت يستعيد فيه قدراته أو يلتقي فيه «أميراً» أو آمراً يأتي إليه من الخارج لإصدار التوجيهات والإملاءات أو إسداء النصح والتوجيه في مجال العمل الإرهابي الذي يمارس في سورية. ومن المستهجن أن لبنان تراخى أمام الإرهابيين متنازلاً عن سيادته وأمنه في تلك البلدة، لا بل سعت بعض الأطراف فيه إلى تأمين الحماية والحصانة الحزبية التي تحول دون أي عمل سياسي أو عسكري يستعيد البلدة إلى الوطن وأمنه كما يجب.


ولا ننسى كيف جوبه وزير الدفاع اللبناني في الحكومة السابقة بهجوم صاخب من جهات رسمية زملاء له في الوزارة أو جهات حزبية خصوصاً تيار المستقبل وآخرين من جماعات «14 آذار» ، هجوم شن عليه لا لشيء إلا لأنه أظهر حقيقة ما يجري على الساحة اللبنانية عامة وفي بعض مناطق الشمال وعرسال خاصة، لجهة تغلغل تنظيم «القاعدة» الإرهابي وفروعه الجديدة من «نصرة» وسواها، في تلك المناطق اللبنانية.

كما نذكر بالموقف الرسمي اللبناني الواهن الذي اتخذ إثر استهداف ضابط في الجيش على مشارف البلدة وقتله مع معاونه الذي كان ينفذ معه مهمة رسمية، حيث أن رد الفعل الرسمي متبوعاً برد فعل جماعات «14 آذار» عامة بمن فيهم المسيحيون من هذه الجماعات، وتيار المستقبل خاصة، ردود فعل كادت أن تحمل الضابط الشهيد المسؤولية عن استشهاده وتتباكى على عرسال وأهلها «المظلومين « بالاتهام بأنهم يؤوون إرهابيين. وهنا كانت القرارات الرسمية -الكارثة على الجيش وعلى أمن المنطقة، والتي تضمنت غل يد الجيش ومنعه من العمل داخل البلدة وفقاً لمقتضيات العمل العسكري، وكانت حجة متخذي القرارات ومن دفع إليها، تجنب استفزاز أهالي عرسال و«السوريين المظلومين» الذين ألجأتهم النار إلى عرسال طلباً للأمن والهدوء.

لكن الحقيقة التي كان يخفيها هؤلاء أو يعملون على طمسها منذ اللحظة الأولى لـ «تعاطفهم» الكاذب مع عرسال، أن الحقيقة هي أن هناك قراراً أجنبياً صادراً عن قيادة جبهة العدوان على سورية بجعل عرسال وبعض المناطق الأخرى في شمال لبنان قاعدة لوجستية لإمداد الإرهابيين العاملين في سورية ضد الدولة السورية، بما يحتاجون على كل صعيد متصل بعملياتهم الإرهابية تلك.

ومن أجل تنفيذ هذا الإملاء الخارجي، كانت سلسلة المواقف التي اتخذها تيار المستقبل ومن تبقى من جماعات «14 آذار» وأملاها على الدولة وسلطتها، بدءاً من رفض العمل بالاتفاقية الأمنية المعقودة بين لبنان وسورية، مروراً برفض التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري من أجل حفظ الأمن في لبنان، من دون أن تتوقف تلك المواقف عن الرفض الكامل لأي دور للجيش حتى داخل الأرض اللبنانية من شأنه أن يضيق على الإرهابيين ويمنعهم من الحركة في لبنان ومنه باتجاه سورية. ولهذا كان رفض قاطع للخطة الأمنية التي وضعها الجيش لمنطقة الشمال وعكار في عام 2012، كما والحرب التي شنت على الدعوة لإعلان المنطقة شمال خط عرسال طرابلس منطقة عسكرية يتولى فيها الجيش اللبناني مسؤولية الأمن وحفظ النظام.

في ظل هذه الوقائع، نفذ الإرهابيون «طعنة عرسال» في الصيف الماضي، غزوة ابتغوا منها ربط مراكزهم في القلمون السوري بمرفأ طرابلس والانتشار في المنطقة الشمالية من لبنان لتعويض ضمور وجودهم في القلمون السورية، ولإعادة تنظيم قواتهم من أجل العودة إلى ريف دمشق لاستئناف إرهابهم بعد أن تراجع نتيجة الإنجازات الكبرى التي حققها الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة هناك.

لقد ألحقت «طعنة عرسال» الإرهابية بلبنان وبسبب القرارات الكارثية التي كانت اتخذتها الدولة، القرارات ذات الصلة بالأمن في عرسال وطريقة انتشار الجيش في محيطها من دون دخولها، ألحق ذلك بلبنان كارثة تلقاها الجيش وقوى الأمن الداخلي ترجمت استشهاداً لبضعة عشر من العسكريين وخطفاً لبضعة العشرات منهم، كارثة تضافر على صنعها من أسس للواقع السيء، ومن تدخل لمصلحة الإرهابيين من أشخاص يحملون ألقاباً رسمية أو دينية ضغطت حتى مكّنت الإرهابيين من الاحتفاظ بالمخطوفين ونقلهم خارج عرسال إلى حيث يخفونهم الآن في جرودها.

هنا بدأت المأساة في شكلها الجديد حيث تحول الإرهابيون الذين خطفوا العسكريين بعد خطف عرسال تحولوا إلى متحكمين بلبنان وحولوا المخطوفين وذويهم إلى مقبض تحكم عن بُعد بالشعب اللبناني وقرارات الحكومة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية والسياسية والقضائية حتى والإدارية.

وفي المقابل انقسم اللبنانيون كعادتهم فئتين، فئة تتبع المنطق والكرامة وهيبة الدولة وسيادتها وفئة المنخرطين في معسكر دعم الإرهابيين يتلقون الأوامر الخارجية والإملاءات بما يمنع أي عمل جدي ينهي المأساة تلك، مع المحافظة على هيبة الدولة وسيادتها. انقسام أدى إلى تعطيل أي قرار يمكن من الخروج من المأزق الذي دخل لبنان فيه نتيجة سلسلة القرارات الخاطئة، والمواقف الكيدية التي اتخذت بقصد الإضرار بسورية وجيشها وشعبها فانقلبت ضرراً على لبنان وخسائر تلحق بجيشه وشعبه. وحتى نخرج من التعميم وتجهيل الفاعل نقول إن تيار المستقبل كان العمود الفقري للجهة العاملة ضد سورية واستجلبت بكيديتها الضرر للبنان عامة وللجيش وعرسال خاصة، طبعاً ولا نسقط هنا مسؤولية بعض من يعلنون عن أنفسهم بأنهم رجال دين يتبعون السلف!…

إن الوضع الذي يتخبط فيه لبنان اليوم هو نتيجة تراكم الأخطاء ومسلسل المواقف اللاوطنية التي أدت إلى دخول الإرهابيين إلى لبنان وإلى تأمين الحماية لهم تحت عنوان كاذب ملفق رفع شعار «حقوق وكرامة أهل السنة والجماعة»، ثم الخدعة الكبرى التي أدت إلى تمكين الإرهابيين من إخراج المخطوفين من عرسال إلى جرودها ما عقد عملية تحريرهم بعمل ميداني ينفذه الجيش، ثم أضيف إلى كل ذلك سوء إدارة الملف في شكل ضيع المسؤولية وشتت الجهود وأفرغ أوراق القوة اللبنانية من محتواها، فجاءت ما أسميت «خلية الأزمة» لتضيف إلى الملف تعقيداً ولتصبح أزمة بذاتها بحاجة إلى من يضبطها ويحلها، والنتيجة كانت بقاء العسكريين في الخطف وبقاء ذويهم في الشارع يتحكم بهم الإرهابيون ويتحكمون عبرهم بالشعب اللبناني.

ثم كان الأدهى من ذلك انقلاب الحال الآن إلى وضع يستعصي حله فعلياً بالوسائل السياسية والتفاوضية العادية، على رغم تظاهر الفريق الإرهابي بأنه «يستميت» للدخول في مفاوضات سريعة تنهي القضية. نقول إنه وضع يستعصي حله لأن الإرهابيين الذي باتوا في موقع يحققون عبره كل ما يريدون مستحوذون على القرار اللبناني تحت طائل قتل العسكريين، وبهذا تحولت عرسال وفي شكل واقعي قاعدة لوجستية كاملة المواصفات للإرهابيين تؤمن لهم المال والتجهيزات والاستشفاء والملاذ الأمن.

ولأن المسألة باتت هكذا، وبات المخطوفون بمثابة الكنز الثمين للإرهابيين، فأننا لا نتصور إقدامهم على التخلي عنهم مهما حصلوا مقابلهم من ثمن لأن القاعدة اللوجستية أهم للإرهابيين من أي شأن آخر، وبالتالي لا نتوقع أن تفضي أي مفاوضات مهما كان شكلها ومستواها إلى تحرير المخطوفين بما يتيح للجيش بعدها اتخاذ التدابير الأمنية التي تستعيد عرسال إلى الدولة وإخراج المسلحين من جرودها، وإقفال القاعدة اللوجستية للإرهاب. وبهذا نفسر مماطلة الإرهابيين في التفاوض الجدي وتسويفهم في طرح مطالبهم الفعلية، وتأخرهم عن تحديد لوائح اسمية بمطلوبيهم وعدم تعاونهم مع أي وسيط ما جعل كل الوساطات تصطدم بالحائط المسدود فيعتذر أصحابها عن عدم المتابعة.

وعلى هذا الأساس نرى أن الدولة اللبنانية باتت الآن أمام الخيار الصعب باتخاذ القرار الذي ينهي الابتزاز ويقفل الملف، وذلك عبر واحد من أمرين: الأول محاولة تحرير العسكريين بعملية عسكرية أمنية مركبة تبدأ بتحديد أماكنهم ولا تنتهي إلا بانتهاء القضية، وهو عمل تقدر الدولة على القيام به وتحمل تبعاته، أما الثاني فيكون عبر تعطيل كل المكاسب التي يحققها الإرهابيون من الخطف، ما يعني البدء بإقفال قنوات إنعاش الإرهابيين عبر عرسال والتضييق عليهم من دون الإنصات لتهديداتهم، حتى يوقنوا بأن الخطف غير مجدٍ وهنا تتغير سلوكياتهم وينقلب المخطوفون عبئاً عليهم يسعون للتخلص منه مع ما تيسر من مكاسب. أما البقاء في حال التخبط الرسمي والحزبي والشعبي أيضاً، وإبقاء عرسال قاعدة لوجستية أساسية للإرهابيين الذين يمارسون أبشع عمليات الابتزاز للدولة اللبنانية بشعبها وسلطتها، إن هذا السلوك لن يحرر مخطوفاً ولن ينقذ حياة، ولن يحفظ سيادة.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية