تكتيكات حزب الله كبديل عن تكتيكات الجيوش النظاميةليس اختياري لعنوان البحث نابعاً من رغبة في تصوير حزب الله على أنّه النموذج النهائي وغير القابل للنقاش أو التعديل، فأحد أسرار نجاح المقاومة الإسلامية في لبنان أنها اتّخذت عنوان التطوير منهجاً أساسياً تنطلق منه في كل مساراتها منذ لحظة الإنطلاق وحتى هذه اللحظة.
ممّا لا شكّ فيه أننا عندما نتحدث عن نموذج حزب الله كمقاومة لا يمكننا أن نعزل الجانب العسكري عن الجانب العقائدي، فحيث يتوفر عامل الإيمان بقضية عادلة ومحقّة بالتوازي مع قرار مقاومة المعتدي فإننا بالتأكيد نتحدث عن حالة سيكون مسارها مليئاً بالإنتصارات، وما أقصده بالجانب العقائدي ليس ذلك الإيمان المرتبط بدين أو مذهب فقط، فالتاريخ الحديث مليئ بأمثلة كثيرة لبطولات كبيرة غيّرت مسار التاريخ كحركات التحرر في أميركا اللاتينية وما مثّله النموذج الثوري الكبير أرنستو تشي غيفارا كمعلم من معلمي الحرب الأنصارية أو ما يُصطلح بتسميته حرب العصابات، وكذلك ما حصل في فييتنام وما فعله الجنرال جياب صانع النصر بمواجهة أميركا، وما صنعه الكثير من أبطال الحرب السوفييت إبّان الحرب العالمية الثانية حيث كان لحرب الأنصار في أوكرانيا والقتال خلف خطوط العدو أثر كبير في هزيمة الجيش الألماني.
عندما بدأ حزب الله بتنفيذ عملياته العسكرية في جنوب لبنان لم يكن الأمر منطلقاً من الصفر، فجزءٌ كبير من الكادرات العسكرية سبق لهم أن مارسوا العمل العسكري ولكن قيادة حزب الله وقتها اتخذت قراراً بتوفير مستلزمات النجاح وبدأت بوضع خطط واقعية تتناسب مع حجم قدراتها وتسليحها ولم تبالغ في تنفيذ عمليات تتجاوز القدرات المتاحة، حيث وضعت خططاً مرحلية تدرّجت الى مستويات أعلى كلما ارتقت القدرات البشرية والتسليحية والتدريبية.
عندما نتكلم عن نموذج حزب الله كحالة عسكرية فهذا يعني أننا نتكلّم عن قوّة تعمل على تطوير نفسها إنطلاقاً من التجربة المباشرة عبر الاستفادة من دروس المواجهات وعبر متابعة آخر ما تتوصل له العلوم، حيث كانت تتم دراسة نتائج كل عمل عسكري بجوانبه الإيجابية والسلبية مهما كان هذا العمل بسيطاً ليتم تلافي الأخطاء في المرة القادمة سواء في نوعيات التسليح أو في التخطيط أو في برامج التدريب.
يعتقد البعض أنّ حزب الله خاض حرباً دفاعية فقط، رغم أنّ أعماله تُصنّف في خانة الدفاع إلّا أنّ جوهر عقيدة حزب الله قائمة على الهجوم سواء كان بالأفراد أو بالأسلحة بما فيها الصواريخ الثقيلة.
فمنذ اللحظة الأولى لبدء العمليات كان جوهر العمل العسكري قائماً على عمليات الإغارة وزرع العبوات والكمائن وهي بمجملها أنماط قتالية تعتبر أنماط هجومية رغم أنها تُنفّذ بمجموعات صغيرة وتكون عادةً بمنتهى الدقة في التخطيط والفاعلية، حيث تسبقها عمليات استعلام استخباراتي وميداني وعمليات إيواء معقدة داخل القرى وهو ما نُطلق عليه لقب البيئة الحاضنة.
وفي مقاربة سريعة لتجربة الصراع مع الكيان الصهيوني نرى بوضوح تجربتين للإنسحاب الصهيوني من أراضٍ عربية وهما:
1- تجربة الإنسحاب الصهيوني من سيناء وهي التي جاءت بعد مفاوضات شائكة وكنتيجة لإتفاقية كامب ديفيد، هذه الإتفاقية التي اخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني وكبّلتها بالعديد من المعيقات الإقتصادية والعسكرية والسياسية ووضعت الجيش المصري على بعد مئات الكيلومترات من حدود الكيان الصهيوني، باستثناء وحدات محددة وضمن شروط صهيونية وهي أشبه بقوات أمن منها بقوات عسكرية، وهو أمر تدفع مصر ثمنه حالياً في مواجهتها مع الإرهاب في صحراء سيناء.
2- تجربة الإنسحاب الصهيوني من لبنان وغزّة تحت ضغط ضربات المقاومة ودون شروط مسبقة أو اتفاقيات مذلّة والتي أبقت على حالة التماس العسكري ضمن خط الحدود المباشر وفي أعماق تختلف بين غزة ولبنان، حيث لكل جبهة تجربتها في التعاطي مع متطلبات ووقائع الميدان.
وبالعودة الى تجربة حزب الله فإنّ هذه التجربة تختلف من مرحلة الى اخرى ويمكننا أن نقسمها الى قسمين، التجربة التي تمتد من الإنطلاقة وحتى العام 2000 وهو عام التحرير، وتجربة ما بعد التحرير مروراّ بعدوان 2006 وصولًا الى مرحلة دخول حزب الله في الحرب السورية حتى يومنا هذا.
1- منذ الإنطلاقة وحتى تحرير الجنوب عام 2000 اتّسمت هذه المرحلة بالسرية الكبيرة وبنوعين من العمليات القتالية وهما العمل إنطلاقاً من القرى التي شكلّت البيئة الحاضنة المثلى، وأغلب المجموعات التي عملت من القرى كانت ذات طبيعة إستخباراتية ولوجستية تعمل على تزويد المقاومة بالمعلومات الدائمة عن تحركات العدو وتقوم بتأمين ايواء المجموعات التي تقوم بأعمال الإغارة والكمائن وزرع العبوات وتأمين العناية الطبية للجرحى وغيرها من الأعمال، بينما كانت مجموعات أخرى تقوم بالتموضع على خطوط التماس مع العدو الصهيوني وتتخفى في انفاق ودشم أعدّت بعناية فائقة لتؤمن للمقاومين قواعد الإنطلاق الملائمة لتنفيذ العمليات الهجومية بما في ذلك في مرحلة ما بين العامين 1996 و2000 الإطلاق الكثيف لقذائف المدفعية والصواريخ والصواريخ المضادة للدروع، وصولاً الى تنفيذ عمليات هجومية واسعة ومكشوفة وفي وضح النهار على مواقع العدو وعملائه ما أدى الى استنزاف العدو وإجباره على مغادرة الاراضي اللبنانية.
2- مرحلة ما بعد التحرير وهي التي يمكن أن نصفها بمرحلة الكمون والإعداد لجولات حرب اخرى لم يكن عند حزب الله اي شك انها ستحصل في أية لحظة، لمعرفته بفكر العدو الصهيوني وتوجهاته وعلى هذا الاساس اتت المفاجآت التي اربكت العدو الصهيوني بشكلٍ كبير جعله يستمر في حربه 33 يومًا دون تحقيق أي من أهداف الحرب التي كانت تستهدف اقتلاع حزب الله من جذوره وهو الأمر الذي لم يتحقق أبدًا، حيث كانت المفاجأة التي جعلت كونداليزا رايس تقول انه ليس باستطاعة اي جيش في العالم هزيمة حزب الله، وما جعل البعض الآخر يطلقون على حزب الله أسماء كجيش الأشباح وجيش تحت الأرض وغيرها العديد من المسميات.
وحده حزب الله يعرف ماذا لديه ويعلم كيف يكيّف مهماته بما يتناسب مع طبيعة المرحلة ومهماتها، وهذا ما يحصل حالياً في سورية، حيث استطاع حزب الله بسهولة ان يدفع الى ساحات القتال في بدايات دخوله الى سورية وحدات قتالية توازي كتيبة مشاة بكل ما تحتاجه من تجهيزات، وكان تحرير مدينة القصير السورية باكورة نجاحات حزب الله العسكرية وفيما بعد إنجازات النبك والقلمون في مناطق متنوعة البيئات الجغرافية والتي يمكن اعتبارها خليطاً من صحاري وأراضٍ سهلية وجبال معقدة التضاريس ما نوّع طبيعة الدروس المستفادة من هذه المعارك والتي تمت إضافتها الى الدروس السابقة.
إنّ تكتيكات حزب الله تعتمد في أساسياتها على برامج تدريب خاصة ترتبط بـ:
1- تنمية الروح العقائدية لدى المقاتل بحيث يتم صقل شخصيته وتربيته على معايير روحية دقيقة جداً تعلمه القدرة على الصبر والتفاني ورسوخ الحالة الإيمانية وهي عوامل تجعل من المقاتل حالة إنسانية متقدمة.
2- برامج تدريب متقدمة ومتتالية تعتمد على رفع اللياقة البدنية الى اعلى المستويات لتأمين قدرة الصمود الميداني والمرونة اثناء تنفيذ الحركة والنار.
3- تدريب المقاتل على كل مهارات الميدان واستخدام كل انواع الاسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة بما فيها الاسلحة التي يستخدمها العدو لضمان قدرة هذا المقاتل على تنفيذ المهام الموكلة اليه ضمن كل الظروف.
4- الإعتماد الكبير على العامل الإستخباراتي والعلمي فيما يتعلق بالحرب الإلكترونية والمتابعة الإعلامية وتحليل المعلومات على أسس علمية حديثة.
وإن كانت هذه العوامل اهم ما يميز مقاتل حزب الله فيمكن للجيوش العربية سواء في مواجهة الكيان الصهيوني او التكفيريين أن تعتمدها كأنماط أساسية، حيث يمكن أن يكون عامل الولاء للوطن والارض هو العامل الذي يجب تنميته في نفوس الجنود، والبدء بتجهيز افواج النخبة الخاصة التي توكل اليها مهام المواجهة على ان يتم بناء هذه الأفواج بالإعتماد على برامج تدريب خاصة كتلك التي يستخدمها حزب الله، وليس شرطاً ان تكون نسخة طبق الأصل عنها.
وهنا لا بد من الإشارة الى أنّ الأفواج الخاصّة التابعة للجيش اللبناني قد قدّمت نموذجا مميزاً خلال تأدية مهامها القتالية، وهذا ما ينطبق أيضاً على الكثيرمن وحدات الجيش السوري التي حصلت على تجارب قتالية كبيرة جداً خلال السنوات الأربع منذ بداية الأزمة في سورية.
الامر الأخير الذي يجب الإشارة اليه هو أنّ المعارك التي خاضتها وحدات حزب الله والأفواج الخاصة للجيش اللبناني ووحدات المهام الخاصة في الجيش السوري كانت المعارك الأنجح والأسرع مقارنةً بالوحدات التقليدية، وهذا ما يحتّم البدء بتحويل الوحدات التقليدية الى وحدات مهام خاصة ما سيؤثر على نتائج الأعمال القتالية لهذه الجيوش بالإتجاه الإيجابي.
* عمر معربوني