خرائط جديدة للمنطقةمصطفى اللباد – صحيفة السفير
ينشغل سكان مناطق الأزمات المشتعلة بأمنهم الشخصي والخوف على المستقبل ـ وهو أمر طبيعي ومشروع – فيما ينبري المحللون المحليون لمحاولة استنباط مواقف الأطراف المتصارعة أو الإضاءة على خلفياتها الطائفية والعرقية. ولكن الصورة تبدو مختلفة نوعاً ما من زاوية نظر القوى الإقليمية للأزمة ذاتها؛ حيث تهتم تلك القوى أساساً بتأثير الأزمة على مداها الحيوي وتأثيرها الإيجابي والسلبي على تحالفاتها في منطقة الصراع، وأخيراً بانعكاس هذا الصراع أو ذاك على وزنها النسبي في مقابل منافسيها الإقليميين. أما من منظار القوى العظمى، فللأزمات تقدير أوسع ومغاير بالكلية. تنهمك القوى العظمى بتقدير أوزان الصراعات الإقليمية وأولوياتها على الأجندة العالمية، فضلاً عن استجلاء تأثيراتها الكامنة على علاقاتها بالأقطاب المنافسة. بمعنى أنه بعد التنافس مع الأقطاب الدولية ومصالحها يظل حاضراً في ذهن الجالس بالمكتب البيضاوي بالبيت الأبيض وفي مخيلة مستشاريه للأمن القومي، عند التعامل مع الأزمات الإقليمية. لتبسيط ذلك يمكنك تخيل وقت قراءة هذه السطور، «الخليفة» أبو بكر البغدادي جالساً ليرى خريطة تمدد تنظيمه بين الرقة والموصل، ويشاور معاونيه في كيفية استمالة وتحييد أو حتى تصفية معارضيه من عشائر بادية الشام الممتدة تاريخياً من الرقة إلى الموصل، في الوقت ذاته الذي ينظر فيه كل من الرئيس رجب طيب أردوغان والملك عبد الله بن عبد العزيز والمرشد السيد علي خامنئي إلى الصراع مع «داعش» على خلفية الأخطار المحتملة والمكاسب الممكنة للطرفين المنافسين الآخرين. في الوقت عينه سينظر أوباما بوصفه رئيساً للقوة الأعظم في العالم فيه إلى الصراع من منظار أوسع كثيراً بحيث تشتمل نظرته على المنافسة الجيو-اقتصادية مع الصين على كامل خريطة العالم.
أميركا في مواجهة الصين وبينهما «داعش»
حتى لا يذهب ظنك بعيداً، الصين ليست حليفة لتنظيم «داعش» من تحت الطاولة، ولا تتوافر عند كاتب السطور معلومات تفيد ذلك من أي نوع. لكنّ هناك ارتباطا مصلحيا موضوعيا بين «داعش» والصين و«داعش» وروسيا. تتواجه الأخيرة مع حلف «الناتو» في أوكرانيا، وبالتالي يهمها تشتيت الانتباه الأميركي على منطقتين جغرافيتين بعيدتين نسبياً، ما يربك الحسابات الأميركية. و«داعش» لها مصلحة في تفاقم أزمة حلف الناتو وروسيا حول أوكرانيا، لتشتيت انتباه الحلف عنها. أي أن تزامن الأزمتين الأوكرانية و«الداعشية» يخلق مصلحة غير مباشرة بين طرفين لا رابط مباشراً في ما بينهما، إذ إن روسيا تعادي «داعش» وتتخوف من انتقالها إلى حدودها منطقياً. الشيء ذاته ينطبق على علاقة «داعش» والصين، فالأخيرة تعاني من عدم تناغم مواطنيها من قومية الأويغور المسلمة مع الدولة الصينية، ولا ترى أي تعاطف مع تيارات الإسلام السياسي، وخاصة الجهادية التكفيرية منها مثل «داعش». ولكن في حال إخفاق واشنطن في التعامل مع التنظيم التكفيري، وبالتالي الفشل في إعادة ترتيب المشرق العربي وفقاً لمصالحها، سيعد ذلك خبراً ساراً لبكين بالمنطق المجرد. فمن المعلوم بالضرورة أن أميركا مهتمة بمواجهة العملاق الاقتصادي الصيني الصاعد ومنعه من امتلاك الموارد الطبيعية ـ وبضمنها النفط والغاز – اللازمة لاستمرار نسبة نموّه الاقتصادي العالية (حوالي تسعة في المئة سنوياً). من منظار جيو-سياسي، تملك الصين القدرة النظرية على تحدي أميركا اقتصادياً وإنزالها من المرتبة الرقم واحد في الاقتصاد العالمي إذا استمرت في نسبة نموّها الاقتصادي المرتفعة، فيما تحوز روسيا قدرة محدودة للغاية اقتصادياً على ذلك، بينما لديها قدرة فعلية على التمدد في جوارها الجغرافي وحالة أوكرانيا مثالها الأوضح. قواعد اللعب مع روسيا في الأوراسيا معروفة وشكلت الأساس لعلم الجيوبوليتيك الكوني منذ قرن على الأقل. والإجراءات في مواجهة تحدي روسيا النووية أسهل نسبياً من تلك في مواجهة الصين، التي لا تتمدد عسكرياً في جوارها الجغرافي ولا تهدد بالسلاح، بل بما هو أخطر – من المنظار الأميركي – أي بالسيطرة على حصة كبيرة من الموارد الطبيعية الكونية.
الخرائط الجديدة للمنطقة
يعاني الشرق الأوسط، الغني بموارد الطاقة والواقع على مفترق الطرق بين القارات، منذ سنوات من سيولة حدودية وانفجار هوياتي وطفور لكيانات غير دولتية متعددة المشارب، بالتوازي مع إخفاق شامل لدوله الوطنية في القيام بأبسط واجباتها، وبالتالي تصبح مسألة ترسيم الحدود من جديد أمراً مرجحاً بفعل الصراع والمصالح والتدافع بين الأطراف. وكان أوباما قد تحدث عن خرائط الشرق الأوسط القائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى بطريقة مواربة قبل شهر واحد في مقابلته المتلفزة الطويلة مع الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان. وتأسيساً على النظرة الكونية لصانع القرار في القطب الدولي الأوحد راهناً، تبدو الطبقة الأعمق لما يجري في المشرق العربي من منظار أوباما، متمثلة في ضرورة منع الصين من النفاذ إلى موارد المنطقة، حتى لو تطلب الأمر إشعالا محدودا للمنطقة على خلفية الصراعات المحلية والإقليمية الممتدة وضبطها على قياس الرغبة الأميركية تلك. فإذا كانت العشائر العربية في بادية الشام قد تعرضت لمظالم تاريخية وجغرافية واقتصادية وثقافية وطائفية، بما سهّل ظهور تنظيم تكفيري مسلح يخربط الأوراق ويشكل فتيل الإشعال للانفجار الحاصل مثلما هو الحال الآن، يكون الأوفق أميركياً استخدام هذه الظاهرة لمنع الصين من الحلول محل أميركا في هذه المنطقة وتوجيهها في مسارات تخدم ذلك الهدف، وليس بالضرورة تدمير هذا التنظيم حتى ولو اقترف ما اقترف بحق مواطنين أميركيين. وبالتالي سيسمح الحريق في المنطقة و«التحالف الدولي» في مواجهته، بانتقال مركز الثقل الأميركي في مواجهة الصين إلى عقر دارها في نصف الكرة الأرضية الشرقي، وبمحاولة بناء اصطفاف إقليمي عسكري – اقتصادي هناك في مواجهة الصين قوامه اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان من الشرق، وربما تطعيمه بأستراليا من أقصى الجنوب بالتوازي مع تركيز القوة البحرية الأميركية في المحيط الباسيفيكي، مجال الصين البحري الحيوي.
التحالف الدولي في مواجهة «داعش»
يزداد التقدير السابق وضوحاً مع ملاحظة تصريحات أوباما، في مقابلته المتلفزة في قمة حلف الناتو التي عقدت في ويلز قبل أيام قليلة، فصرح بأن هناك اعترافاً من الدول الأعضاء بضرورة القيام بأعمال ضد التنظيم، معتبراً أن المفتاح لذلك هو التشاور مع اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط، وخصوصا الدول ذات الغالبية السنية، مضيفاً أن منظمة مثل «داعش» لا يمكن احتواؤها، ولذلك فالهدف يجب أن يكون تفكيكها. وأكد أوباما أنه لا قوات برية أميركية ستتمركز في سوريا، بل شركاء محليون فاعلون مثل التحالف المعتدل الذي يمكن مساعدته في حربه ضد «داعش». بعيداً عن الحرفية في اختيار الألفاظ مثل «تفكيك» لا «تدمير»، لا تبدو أميركا ـ بوضوح – في وارد إرسال قوات برية إلى سوريا أو العراق، ما يعني أن تنظيم «داعش» سيبقى بشكل أو بآخر بعد ضربات جوية محتملة، في إطار همروجة دولية الأرجح أن تستمر خلال الشهور المقبلة.
أيام صعبة في الرياض
لم يخف على أحد أن تصريح أوباما عن «الدول السنية الحليفة» يعني السعودية في المقام الأول، التي سيكون عليها المشاركة ولو رمزياً في التحالف الذي تريد واشنطن خلقه ليتواجه مع «داعش» في حدود الرغبات والمصالح الأميركية. لكن هذه المشاركة ستختلف كثيراً عن مشاركتها العسكرية الرمزية والمالية الفعلية في حرب تحرير الكويت 1991، حيث كان الهدف واضحاً من البداية ومحدداً برقعة جغرافية معلومة هي حدود دولة الكويت، أما الآن فالهدف يبدو ضبابياً وغائماً ومعلقاً في رقبة تعبيرات مطاطة مثل «تفكيك» التنظيم. على مستوى آخر، تعي الرياض ـ على الأرجح – أن «داعش» تمثل بالمعنى الجيو-سياسي الأوسع المادة اللاصقة لتحالف متضارب المصالح والرغبات، والأداة الممتازة لتفجير تناقضات المنطقة بما يسمح في النهاية بإخراج الخرائط الجديدة للمشرق العربي التي ستؤثر عليها حكماً.
ويزداد المأزق السعودي صعوبة عند ملاحظة أن رفض المشاركة في التحالف الدولي سيؤدي إلى إخلاء الطريق كلية أمام منافستيها الإقليميتين إيران وتركيا، لمشاركة الغرب في تقرير مصير الخرائط الجديدة للمشرق العربي. وحتى إذا شاركت السعودية في التحالف الدولي المبتغى أميركياً، فلا تتوافر لها أي ضمانات لحدود أدوارها في العراق وسوريا بعد انتهاء العمليات العسكرية، ولا حتى مؤشرات طمأنة من واشنطن لحدود الأدوار الإيرانية والتركية في هذا التحالف الدولي، ناهيك عن الرقعة الفعلية للعمليات العسكرية المرتقبة. إنها حقاً أيام صعبة في الرياض الآن.