سعودية وعشقي سوريا مراقبة عامة
عدد المساهمات : 29420 تاريخ التسجيل : 17/05/2012
| موضوع: نهاية الأسرار المحرّمة (1) الخميس أغسطس 07, 2014 3:25 am | |
| [rtl] نهاية الأسرار المحرّمة (1)[/rtl] [rtl] وكالة أوقات الشام الإخبارية[/rtl] [rtl] اسد زيتون
أيّتها السيّدات أيّها السادة :
ألا ترونَ معي أنّه قد ولّى اليوم زمنُ الأسرار المحرّمة بمفهومها المتداول منذُ آلاف العصور وأصبحَ شيئاً من الماضي , وعبثاً الحديث حتّى عن الأمور الدينيّة أو الخفايا العرفانيّة كأسرارٍ محرّمة , وعبثاً تدّعي الطوائفُ والمذاهبُ أنّ لديها ما تخفيهِ أو تكتمهُ , وقد أُسقطَ ما في يدها أمام جبروت الربّة مايكروسوفت وخازنها هوتمل والقهرمان ياهو والجبّار غوغل وزبانيتهم وأعوانهم , وعبثاً اليوم التخاطب بالأبجديات واللسانيّات المعروفة في حضرة آلهة التكنولوجيا إذ أنّهم لا يقبلون خطاباً ولا شفاعةً إلاّ بلغة الفورتران والسي والسكريبت والجافا والبيزيك والدلفي وباقي الذريّة , فاليوم ليسَ لبعل ولا لعشتار ولا لتمّوز ولم تعد آلهة الحرب الإغريقيّة تخيفُ أحداً , ولم تعد لفينوس القدرة على الحبّ والإغراء , هذه الأمور أصبحت اليوم من اختصاص جلالة الشبكة العنكبوتيّة ورسولها المجانيّ الكريم Messengerوكتابها الإلكترونيّ فيسبوك وملائكتها تويتر ويوتيوب وباقي العائلة المعظّمة التي لا تحفظ الأسرار ولا تكتمها ولاتوفّرُ لحمَ أحد ما دامَ هناك من يدفع ولا يشفع ..
إنّه عصر النوافذ Windows لا عصر الأبواب , إنّه عصر اللصوص لا عصر النصوص , إنّهُ جحيم الانفجار والانسحاق العظيم , لا نعيم إشراق الفجر وحريّةِ الانعتاق قابَ قوسينِ أو أدنى من الأفقِ القديم ..
فأيّ غدٍ ذاك الذي لناظرهِ قريبُ ؟!
وحدَها اليوم أسرارُ الشؤون والخطط العسكرية والسياسية والاقتصادية والاستخبارات والجواسيس تعتبرُ أسراراً مُحرّمة تُصنّف تحت علامة (سرّي جدّاً) ويستحقّ مَن يفشيها جحيم العذاب الأبديّ الذي قد تنتهي لعنةُ إبليس ولا تنتهي لعنتهُ , ووحدها اليوم أسرار الصناعات والتقانات العلميّة المتطوّرة والأفكار المعرفيّة والأدبيّة والفنية الجديدة القابلة للاستثمار والاحتكار , تنحى منحى الأسرار المحرّمة , وينقسمُ بها الناس بينَ دائن ومديون ومالكٍ ومملوك , ويتأهّبُ اللصوصُ لاقتناصها عندَ كلّ شهقةِ حاسبٍ ونقرةِ ماوس ...
عزيزي القارئ أنت تمتلك حاسوباً شخصيّاً أو هاتفاً ذكيّاً موصولاً بهذهِ بالشبكة التي لا تفتأ تستحضرُ نوازعك وأفراحك وأشجانك وتصطادُ خفاياك وأفكارك ومواهبك وحتّى حماقاتك في الخلوات التي تحسبها كذلك , وربّما تظنّ أنّها لخدمتك !! صدّقني أنت لخدمتها أكثر ممّا هي لخدمتك ولهذا فقد استحقت اسمها الذكيّ ...
ربّما تحسب نفسكَ أذكى منها وقد لا أنكرُ عليك ذكاءك , وإنّما أراكَ تستهينُ بغفلتك , فأنتَ يا صديقي تدخل أرقامَك السريّة فتنبّهكَ بسرعةِ البرقِ الخاطف إذا أخطأت بأحدها بنفس السرعة التي تأخذُ بها بصمةَ يدك وصوتك وعينيك , وحتّى بصمةَ كتابتك التي أصبح لها برامج خاصّة تحلّلُ النصوص وتحدّد كاتبها المفترض , ولن تستطيع الاختباء منها مهما فعلت ومهما تنكّرت وتقمّصت وغيّرت من اسم أو رسم أو بطاقة أو جهاز أو مكان أو عنوان ...
أيّها الشاعر أو الأديب الذي تستحضر ذاتك ومواهبك على صفحات النت , وأنت تحسبُ أنّك تبني مجدك الأدبي , ويا أيّها الباحثُ أو المخترعُ الذي تجمعُ كنوزك وغراسَ أحلامك في حاسوب أو قرصٍ مُتنقّل , وتتجولُ بهِ من موقع لآخر وتبحث عن معلومة أو موضوع ما , ويا أيّها الطالب الممتلئ بالتفاؤل والعنفوان الذي ما ينفكّ يلقي بثمرات أفكارهِ ويناقش بها هنا وهناك من هذهِ الشبكة , ويتفاعلُ مع الآخرين بأعلى درجةٍ من الشجاعة والشفافية والصدق الذي يتيحه ريعان الصبا والشباب وانفعالاته الوجدانيّة النقيّة :
جميعكم أيها السادة سلعةٌ مجانيّة في هذه الشبكة , وجميع جهودكم تذهب للاستثمار توّاً في مكانٍ ما من هذا العالم , فالذين كانوا يحفرون المناجم لاستخراج الثروات والمعادن النفيسة , ويغوصون في أعماق البحار لاصطياد الكنوز والجواهر , تركوا هذا العمل لآلاتهم الحديثة والمتطوّرة ولمختبراتهم التي تصنع وتقلّد كلّ شيء , ووجدوا مناجمَ وبحاراً أكثر نفعاً وأقلّ تكلفةً , إنّها أنتم أيها السادة أنتم مناجم الذهب وبحار الجواهر واللآلئ ومغاور الكنوز , إنّها عقولكم وأفكاركم التي تمتصّها شبكات الحواسيب والهواتف النقّالة ساعةً بساعة ولحظةً بلحظة , وتذهبُ إلى حيثُ يتمّ التنقيب فيها عن المستقبل , وإذا كنتم تعتقدون أنكم تعرفون وتجيدون التعامل معها ومع برامجها وأنكم أنتم من تعطونها الأوامر والنواهي فصدّقوني إنّكم مخطئون وساذجون , لا بل ربّما تتفاجؤون يوماً بأن جميع التقانات التي تحيط بكم ولا تتصوّرون حياتكم دونها قد أصبحت جنوداً لصانعها الذي يعملُ ويُخطّط لاستعبادكم عن طيب خاطر وأنتم شاكرون ..
لقد أمست حواسيبكم وهواتفكم اليوم هي أنتم أكثر منكم أنتم , وربّما يكون فقدانها أو سرقتها من أكبر المصائب التي تخشونها , فلا تزالون تسألونها عن مواعيدكم واهتماماتكم وتستذكرونها خواطركم لأنّ النسيان ليس من طبعها وإنّما من طبعكم , والغفلة لا تعتريها كما تعتريكم , وإذا حدث لها مكروه فصانعها وملاّحها أدرى بمكنوناتها منكم وهو جاهزّ دوماً لاستخراجِ ما حسبتموه ضاعَ منكم ومستعدٌّ لتقديم الأفضل له بينَ أياديكم وما عليكم إلاّ أن تدفعوا ثمنه شاكرين وممتنّين ..
في الشارع الذي أسكنهُ في كلّ منزل خطّ هاتفي ثابت واحد على الأقلّ وهاتفين خليويين في الحدّ الأدنى , عدا عن خطوط السيرف والبوّابات الإلكترونية ADSL , وعندَ كلّ مفرق وفي كل شارع ومكتب وسيارة ومحلّ وحديقة ترى الوجوه والأيدي مغموسةً غمساً في تلك الشاشات الصغيرة التي تسرقُ الوجوه والملامح والعقول والمشاعر ولا تعفُّ عن شيءٍ أبداً ..
في بعض البيوت ترون الأب في جهة مع جهازه الخلويّ والأم وجهازها في جهةٍ أخرى , والأبناء هنا وهناك وكلّ مع جهازه يغنّي على ليلاه , فأيّ زمنٍ ننتظرهُ وينتظرنا يا ترى ؟! وهل سنكونُ لهُ أم سيكونُ لنا , وعلى أيّ معنى نريدُ أن نكون فيهِ والحالُ هذهِ منَ التشتّت والضياع ؟!..
نجحت شركة الاتصالات البريطانية هذا العام بالتعاون مع شركة "الكاتيل لوسنت" في بثّ إنترنت بسرعة 1,4 تيرا بايت في الثانية بينَ وسط لندن ومدينة أخرى على مسافة 410 كم , ويمكن لمستخدمي هذه السرعة إرسال /44/ فيلماً عالي الجودة وغير مضغوطة خلال ثانية واحدة فقط وباستخدام الكيابل البصريّة نفسها الموجودة في العالم , أي أنّ تعميم هذه التقنية لن يكون مُكلِفاً ولن يحتاج لتمديد كابلات جديدة , ولكن الخبر الأبرز والأخطر هو استحواذ شركة غوغل على شركة DeepMind البريطانية المتخصّصة ببحوث الذكاء الصنعي والتي أسّسها علماء أعصاب كبار , لتقوم بعد ذلك بتزويد الجيش الأمريكيّ ووكالة الناسا بروبوتات فائقة التقنية في أحدثِ ابتكاراتها غير المجانيّةِ طبعاً ..
غوغل اليوم أكبرُ عناكبِ الشبكة , وتحتوي قواعد بياناتها على أضخم بنكٍ للمعلومات بجميع الألسن واللغات وبمختلف ميادين الحياة مع أوسع وأشمل قواعد الترجمة بالاتجاهات كافّةً , وقد وصلت إلى ما وصلت إليه بواسطة خدماتها المجّانية في المقام الأوّل إذِ استثمرت جهود مستخدمي الشبكة وخبراتهم ومواهبهم وأوقاتهم في جميع أنحاء العالم , وهي تقوم بين حينٍ وآخر بفلترة مخزونها المتاح على النت , وحجب المواضيع والمعلومات التي لا تريد انتشارها أو ربّما بتزويرها أيضاً , بنفس الوقت الذي تسعى به مجسّاتها كالأفاعي بما يخطّط أربابها لنشره وتعميمهِ وتكريسه في العالم , وباجتماع طاقاتها مع طاقات شركة فيسبوك وهوتمل وياهو وشركات الاتصال العالمية وبرمجيّاتها المجانيّة كالواتسأب والفايبر ومثيلاتها بإرادة المالك الحقيقيّ لهذه الشركات ؛ فإنّ جميع المستخدمين سيكونون سلعةً مجّانية لهُ , وبنفس الوقت سوقاً يحتكرُها ويديرُها وفقَ إرادته ولخدمة مشاريعهِ التي لا أشكّ أنّها تخطّطُ لبيعنا حتّى الهواء الذي نتنفّسهُ , لا بل ربّما يُخطّطُ لوضع برامج تستنسخ كلّ مستخدمٍ لهذهِ الشبكة لاستثماره بعدَ موتهِ , وتكونُ تلكَ البرامج بمثابة عقولٍ إلكترونيّة لروبوتات مستقبليّة لكلٍّ منها مزاجٌ مختلف ومشاعر وبصمة خاصّة وسلوك مميّز في فضاء القفزة التي يسمّونها الذكاء الصنعيّ , ويمكنكم أن تتخيّلوا أحفادكم وهم يتوّجهون إلى متاجرهِ لشرائكم على شكلِ روبوتات لرعاية أبنائهم الصغار في البيت أثناء عملهم , أو ربّما يأخذهم في نزهةٍ إلى الحديقة ويروي لهم القصص والحكايات , ولا أريد أن أتخيّل الاحتمال الأسوأ كيلا أزعجكم بما لا تحبّون .
لا أعتقد أنّه علينا أن نندب حظّنا العاثر في زمنٍ أنكرناه فأنكرنا , ولن ينفعنا فيه نواحنا على ماضينا البعيد الذي علّمنا فيهِ الناسَ القراءةَ والكتابة , وما زالت تحفظه نقوش التاريخ وسطور الأيّام التي يسرقها ويخرّبها اليوم ثوّارُ العمّ صاموئيل صاحب الشبكات التي تصطادنا , فكلّ التفاتةٍ إلى الوراء تعني فقدان فرصةٍ جديدة في المستقبل , وإذا كانَ ثمّةَ انبعاثٍ جديد لذلك الماضي العريق فلا ريبَ أنّهُ سيكون من المستقبل الذي يطلُّ علينا من شرفة الياسمين المتكئة على سفوح الربوةِ اليمنى لقاسيون عوداً على بدء بعد اغترابٍ طويل ومخاض مؤلم , فهل نحن مستعدّين للقائه ؟! وهل أدركنا حقيقة ما يجري من حولنا ؟! وهل نمتلك الاستعداد لمواجهة الأخطار والتحديّات القادمة ؟! وهل سننجح باستعادة أبجديّتنا وألواحنا من متاحف روما ولندن وباريس وواشنطن وبرلين ؟! هل نستطيعُ اليوم التعرّف على وجوهنا وملامحنا التي نسجها اللصّ على وجهه ؟! أم ما زلنا نتلمّس الطريقَ إلى الهاوية ؟!..
عندما كنّا في عمر أبنائنا وأحفادنا كان العالم مختلفاً في كلّ شيء تقريباً , ولم نكن نتخيّلُ أن نصل إلى ما نحن فيه اليوم , وكذلك سيرى أبناؤنا وأحفادنا العالم مختلفاً عمّا هو عليه اليوم , فالتغيرات تتسارع وتيرتها باستمرار , وما كان هامشيّاً يصبحُ هامّاً وضروريّاً ثمّ أساسياً على حساب أساسيّاتٍ أخرى تُلقى في سلّة المهملات , وما كانَ يُعتبرُ ضرباً من الخيال والأحلام يتحوّل إلى واقعٍ لا ريبَ فيه بينَ ليلةٍ وضحاها إثرَ اكتشافٍ ما أو تجربةٍ علميّة ناجحة في مكانٍ ما من هذا العالم ..
أيّها السادة إذا كان هذا حال الأفراد فما بالكم بمؤسسات الدولة ونظمها المختلفة , ألا ترون أنّ الأمن الإلكترونيّ هو أمن المستقبل ؟! وقد قطعت روسيا والصين وإيران شوطاً لا بأس به في بناء وتطوير حصنها الإلكتروني ..
لنفترض أنّ جميع المشاكل العالقة اليوم في العالم سيتمّ حلّها في المستقبل غير البعيد , وليكن خلال العقدين أو الثلاثة عقود القادمة على سبيل المثال , فهل تظنّون أنّ الحدود الجغرافيّة المقدّسة بين الدول سيكونَ لها هذه الأهمية عندئذٍ ؟! أم أن رصاصةً واحدة لن تُطلق لحمايتها ..
أيّها السادة هل نستطيع أن نحجز مكاناً لائقاً في المستقبل القادم فنحفظ فيه وجودنا وكرامتنا ؟! وهل سيكون لنا لسانٌ نتكلّم به وشريحةً ننقشُ عليها أبجديّتنا أم أنّنا أمسينا منَ الماضي ولا قيامةَ لأحلامنا ؟!..
ألم يحن الوقت لنصنع آلاتنا وبرمجيّاتنا فنكونَ أربابها بدلَ أن نكون عبيداً لها ولمن يصنعها ويبيعها لنا ثمّ يبيعنا لها ويسرجُ أدمغتنا لقفاه ؟!..
إنّ هذهِ الحرب على ضراوتها لا تمنع أن ننطلق دونَ تأخير لرسم معالم المستقبل الذي نريدهُ ونطمح إليه , لا بل هي التي تفرض علينا اليوم أن نحثّ الخطا على هذا الطريق الوحيد لدخول المستقبل ..
لا أعتقدُ أنّهُ يُخفى عليكم إنّ اختراعَ الحاسوب ولغاتِ البرمجة هو الركن الأهمّ في الحضارة الإنسانيّة الحديثة , وأنّ الكثير من التجارب العلميّة التي أفضت إلى أهمّ الاختراعات والاكتشافات التي تهيمنُ اليوم على مشهد الحياة البشريّة ما كانت لتكون لولا تطوّر هذه التقنيّة , ولكنّها على الرغم من أهمّيتها وإنجازاتها العظيمة ما زالت تفتقدُ الاستقرار , وتعاني فجوات كبيرة وخطيرة جدّاً , وربّما قد يؤدّي والحالُ هذه خطأ ما أو اختراقٌ معلوماتيّ لإحدى الشبكات العسكريّة النوويّة في العالم ؛ إلى كارثة تهدّد الجنس البشريّ برمّته , وما دامت وكالة الاستخبارات الأمريكيّة نفسها قد تعرّضت لاختراقات من هذا النوع فإنّ هذا الاحتمال سيبقى وارداً مهما كانت إجراءات الأمان مُشدّدة ..
حتّى اليوم لم يبلغ العلم الحديث استقرارهُ وتناغمه , وما زالت حتّى هذه اللحظة إشكاليّاتٌ مُعقّدة ونظريّات تعاني خللاً في الحسابات وارتباكاً في الأداء , وظواهر لم يجد لها العلم تفسيراً بعد , وما زالت العقول تبحثُ عن حلولٍ ومخارجَ للعديدِ من المشكلات العالقة على تخوم المستقبل , وهذا يعني أنّنا لم نفقد الأمل بعد في حجز مكانٍ لنا في قادمات الأيّام ..
ذات يوم وضعت حاسوبي الجديد على الميزان وهو فارغ , وبعدَ أن حشوتهُ حتّى نافوخه بكلّ ما هبّ ودبّ وضعتهُ مرّةً أخرى على ذات الميزان فلم تتغيّر قراءة اللسان , فما هي هذه الأحجام التي يخبرنا الحاسوب عنها حينَ يمتلئ , وما هذهِ المتواليات من الصفر والواحد وتقاسيمها وتراتيلها في لغات البرمجة وكيفَ تخلق هذه العوالم على شاشة الحاسوب , وأيّةُ صورٍ وأشكالٍ من هيولى دون شكل , وأيّة كتلةٍ بلا كتلة وحجمٍ دونَ حجم , وأيّةُ عوالم تلكَ التي تتيحها جدائل الصفر والواحد بين حركةٍ ساكنة وسكونٍ متحرّك , بينَ ألف لام (ال) المعرفة ولام ألف (لا) النفي وأيّ مثالٍ عقدتهُ هاء الـ (هو) ليسبّح كلّ شيءٍ بحمدِ خالقهِ فتباركَ الله أحسن الخالقين ..
إنّ لهذا العالم المعلوماتيّ الخلاّق لغتهُ الخاصّة التي لن يكتملَ دونها , وعلى الرغم من الفضاءات الرحبة لروّادهِ الذين يفضّل كلّ منهم لغة برمجيّة ما على أخرى حسب مجال العمل والاختصاص , فإنّ لغتهُ الصالحة والمتناغمة مع جميع المجالات والاختصاصات ما زالت مجهولة , ولم تستكشف حتّى اليوم , ومع الأسف الشديد فإنّها اللغة التي لا يحاربها أعداؤها وحسب وإنّما أبناؤها أيضاً , إنّها اللغة الاستثنائيّة التي ينتظرها الأستاذ نارام سرجون ليهنّئ بها الرئيس الأسد ..
حالات الوجد تفتح آفاق الفلاسفة والأدباء لدخول حرم الوجود في لحظات أقرب إلى العجائبيّة , إنّها جلوةٌ صوفيّة تصل مابين الحواس في عالم الممكن وبين الحقائق اليقينيّة في عالم الوجوب , أو ربّما قفزةٌ رياضيّة فوقَ جدار الزمن إلى القانون الذي تجري به الدماء في عروق الوجود وبهِ يُحسبُ ويُحصى كلُّ شيء ولا شيء يحسبهُ أو يحصيه , ولستُ أدري إذا كان السيّد نارام قد أدركَ أيّة قفزة قفزها في مقالهِ " بانتظار هوميروس .. كلام استثنائيّ لزعيمٍ وصل في موعدهِ .."إذ يقول : ( .. سأطلبُ من تكنولوجيا اللغة أن تُصمّمَ لي كلاماً جديداً .. مصبوباً من ماء ونار وهواء وتراب .. كما الوجود ) كما لستُ أدري إن كانَ ثمّةَ عالمٍ من علماء هذا الكوكب يفتّشُ في تراث الأمم ويُنقّب في خواطر الفلاسفة والأدباء ليصرخَ في قفزةٍ مجنونةٍ : وجدتها .. وجدتها ..
إذا سألتم أساتذة البرمجة المعلوماتيّة عن لغات البرمجة التي يستخدمونها , فستختلف الإجابة بحسب الاختصاص والعمل الذي يقومون به , فهذا يستخدم تلك اللغة لأنّها جيّدة في معالجة الصور والفيديو , وآخر يحجم عنها لأنّها سيئة في المجال الهندسيّ الذي يعمل بهِ , وهكذا بالنسبة لجميع اللغات المعروفة اليوم , كما تقرؤون بين حين وآخر خبراً عن منح شركة مايكروسوفت مكافأة مالية كبيرة لهذا الهاكر أو ذاك لاكتشافة ثغرة أمان خطيرة في أحد أنظمتها أو برامجها , وهذا الواقع سيبقى قائماً ما لم يتقدّم هوميروس بلغتهِ إلى السيّد نارام ..
أذكر رجلاً عجوزاً في قريتي أمضى الثلث الأخير من القرن الذي عاشهُ مقعداً في سريرهِ , وكان الفلاحون يقصدونهُ لمعرفة الأيّام المناسبة للزراعة والغرس والحصاد والقطاف ومواسم الأمطار , وحتّى عن اتجاه باب المنزل والموضع المناسب لحفر البئر , ولكن الأمر الذي كان يثير دهشتي واستغرابي هو معرفتهُ بأهلّة الشهور وهو الذي لا يبارح سريره , ولمّا كنت صغير السنّ في تلكَ الأيّام فإنّني لم أكن أجد من يهتمّ جديّاً لسيل أسئلتي فيغلق أفواه دهشتي الفاغرة ملئ الفضاء , عدا ولده الذي أصبح صديقي على مقاعد الدراسة فأخبرني أنّ الأمر برمّته عبارة عن حسابات رياضيّة أبجديّة وفقَ جدولٍ فلكي بأحرفٍ وأرقام ورثه أبوه عن أجداده ويستطيع من خلالهِ أن يعرف في أيّ يوم تدخلُ السنة القمريّة وطبيعة أمطارها على سبيل المثال , وعلمتُ من كثيرين ممّن كانوا يسألونه بأنّهم لا يذكرون أنّ أجوبته أخطأت يوماً .
اليوم نحن ننتظر أخبار النشرة الجويّة التي تتنبّأ لنا لأيّام قادمة وفقاً لمعطيات حواسيب عملاقة في أوروبا وأمريكا , وكثيرون يرتدون ملابسهم ويقرّرون نزهتهم الأسبوعيّة بناءاً تلك الأخبار دونَ تردّد , على الرغم من أخطائها المُتكرّرة , وربّما سيتناول معظمهم حديثي عن ذلك الرجل العجوز باستهزاء أو لا مُبالاة ..
إنّها اللغة العربيّة يا قوم , إنّها اللغة التناظريّة الوحيدة بين لغات العالم , واللغة الوحيدة التي تمتلك ميزانا رياضيّاً متناهي الدقّة , وهي بالإضافة إلى كفّتيها الشمسيّة والقمريّة , فإنّ لها طيفاً للماء من سبعة أحرف وآخر للهواء وآخر للنار وآخر للتراب , وهي الوحيدة التي يعزف لسانها جميع أنغام الصوت وأطيافه الموجيّة ..
إنّها لغة العالم الكوانتيّ , إنّها لغة الميزان ولسانه القائم ولن تجدوا أحكم من أقفالها على الأسرار ولا أوضح منها في الشهود , وهي حينَ استقامها لسانها المبين بالقرآن حفظها وحفظتهُ , وهاهو اليوم ومنذ أكثر من ألفٍ وأربعمائة عام ما يزال على صورةٍ واحدة لا سبيل إلى تغييرها أو التلاعب بها , على الرغم من المحاولات المستميتة منذ قرونٍ طويلة , إنّها لغة القوم الذين هبطوا من جنّتهم في جبال السراة إلى سوريّا فكانوا السوريّين وبلادهم بلاد الشمس , ومنها أشرق نورهم في أصقاع الأرض فواحدهم يدعى (سري) في الشرق وفي الغرب يُدعى (سير) ..
قرأتُ منذُ أيّام في كتاب التوراة ترجمة ( صندوق الزاداكا ) على أنّها ( صندوق الصدقة , وقرأت نفس الترجمة لنفس العبارة بالاتجاهين في كتاب كنزا ربّا للصابئة المندائيين , ولست أدري كيف يستسيغ المؤرخون العرب تسمية اللهجات المختلفة لتلك اللغة العربيّة العظيمة باللغات السامية , وعلى أيّ مبدأ يتعصّب أحدهم للسريانيّة أو الآرامية وكيف يحوّل أسماء العائلات السوريّة من بابل ( باب إيل ) إلى ساحل فينيقيا إلى شعوب مختلفة , على الرغم من أنّي أجد في كتبهم أنّ الفرس اتخذوا لغتنا لغةً رسميّة لدولتهم , وأن اللغة اللاتينية التي هي أصل اللغات الأوروبيّة جميعها , قد ولدت من الفينيقيّة التي تعلّمها الإغريق ولاكوها بلسانهم لتكون لغةً لهم ؟! ويبقى العجب العجاب حين ينسبُ هؤلاء المؤرّخون تلك اللغة العظيمة إلى الأعراب الأغراب عنها وعن جوهرها حتّى اليوم في كلّ شأنٍ من شؤونهم !!..
أفما آنَ للناطقين بها أن يرتقوا ليصبحوا أهلاً لها ؟! أما آن لهم أن يستفيقوا للتكنولوجيا المكنونة فيها , فيسبرون أسرارها ويستخرجون دفائنها من لسانها الداني بكفّتيه إلى كنهورها المصبوب في السبع المثاني مجدولةً في كلّ عنصرٍ من عناصر الطبائع الأربعةٍ بقوى الصفر والواحد جذر كل حرفٍ من حروف شجرتها الباسقة فيقرؤون بها كتاب الوجود بلغتهِ ويستكشفون حقائقه ؟!
على الرغم من بساطتهِ وتواضعهِ أمام هذا الأمل المنشود وفي مثل هذهِ الظروف فقد أسعدني جدّاً خبر إحداث وكالة الفضاء السوريّة , وكذلك خبر عزم دول البريكس على إنشاء وكالةٍ للطاقة في فضاء تلك المنظومة العالمية الصاعدة , ويحدوني أملٌ كبير أن تتمكّن هذه الوكالة في المستقبل من تعميم الاستخدام السلميّ والآمن للتقانة النوويّة , وتطوير وسائل معالجة وتدوير نفايات الوقود النوويّ , وتكريس استخدام الطاقات النظيفة وتطوير أدواتها وتقنيّاتها ووسائلها , وتشجيع الاستثمار فيها لتأمين العبور الآمن للبشريّة من التلوّث البيئي والأخلاقي المرافق لعصر النفط والغاز ..
لا نستطيع أن نحكمَ بدقّة على العلماء الذين أنتجوا هذه الحضارة التي نراها اليوم على اتساع المدى والآفاق , بسبب طبيعة العقود التي يرتبط بها العلماء مع الشركات التي تتبنّى أفكارهم وعقولهم وأبحاثهم وأحلامهم وتضعُ حساباتها تحت تصرّفهم وتشرف على صحّتهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم وتحصي حتّى أنفاسهم , وبالمقابل لا نستطيع لومَهم فيما يرونَ بهِ قرّةَ أعينهم بحثاً واكتشافاً , فبعض المختبرات والتجارب العلميّة يتطلّب ثرواتٍ طائلة دونَ أن تكون النتيجة صالحةً للاستثمار , لذلك تعمدُ تلك الشركات الخاضعة للفكر الرأسمالي ومنظومته الدولية إلى تجزئة الاختراع أو المنتج إلى مراحل وأجيال تصلُ إلى المستهلك تباعاً , ويدفع أثماناً مضاعفة عندَ كلّ انتقال بينَ مرحلةٍ وأخرى وجيلٍ وآخر , وبالتالي عندما تنصّ العقود على حقّ الشركة في استثمار المنتج وتسويقهِ , فسيبقى العالم مُقيّداً مكّبلاً تجاهَ الاستخدامات الخاطئة للاختراعات التي يمكن أن تستخدم في المجال العسكري والتي قد تخرجُ حتّى عن يدِ الشركة الصانعة وإرادتها في عالمٍ كعالمنا يتمّ فيهِ اتخاذ قرار تدميرِ بلدٍ بأكمله كليبيا وقتل مئات الآلاف من أبنائه , وتهجير الملايين عبر القانون الدوليّ ومؤسّسته الضامنة للأمن كما هو المفترض من تكوينها وإحداثها , ولكن بالتأكيد فإنّ هؤلاء العلماء ظلموا أنفسهم وظلمونا معهم , فعلامةُ اليوم وصولجانهُ ليسَ للعلماء وابتكاراتهم , وإنّما للشركات التجارية ومنتجاتها ..
للأسف الشديد فنحن اليوم عندما نتحدّث مع الكثيرين من مُدّعي الثقافة والعلم في عالمنا العربيّ المنادين بالاتّباع الأعمى للحضارة الغربيّة لتخليص مجتمعاتنا من التخلّف والجهل , فإنّنا نجدهم ساخطين على كلّ موروثنا الحضاري لا بل يتّخذون الحديث فيه سخريّا , ومنهم مَن لا يتورّع عن كيل السباب والشتائم من طراز (فوك يو) , في حينَ أنّنا إذا تجوّلنا في بساتين علماء الغرب وفلاسفته الكبار فسنجد أنفسنا أمام أشجارنا وثمارنا ومفرداتنا التي يسخرُ منها أولئك المثقّفون الواهمون , ولنُعد على سبيل المثال إلى وثائق ندوة البندقية التي عقدت عام 1986م وجمعت نخبة علماء الكوكب من جميع الاختصاصات العلميّة والفكريّة وتمّ اعتبارها حدثاً تاريخيّاً هامّاً في تطوير الأفكار المعاصرة ويؤسّس لرؤية جديدة للعالم الذي نعيش فيه , ونقرأ فيها لعالم الفيزياء الإيطاليّ ديلاّ بورتا :
(( فالموجود الإنسانيّ وحدهُ بينَ موجودات هذا العالم , خُصَّ بموهبةٍ غنيّة وخطرة بالمسؤوليّات المرتبطة بها , أن يكون عالماً أصغر يعكسُ ويحتوي في ذاته العالَم الأكبر والأكمل .
أرجو أن تتكرّموا فتعذروني لكوني ارتفعتُ بنفسي إلى علوّ كبير في هرم الكيفيّات الذي يُشكّل اللحمة الداعمة لعالمنا , بَيدَ أنّ هذا الهرم لا يستطيعُ أن يكتسي كلّ معناه إلاّ بإكمالهِ من الأعلى , وهذا ما قد يكون منظراً كيفيّاً شموليّاً للعالم الفيزيائيّ , منظراً شمولياً لا يمكنهُ أن يعتمد إلاّ على التماثل , من جهة بينَ العالم الأكبر والعالم الأصغر الإنسانيّ الذي ألمحنا إليه للتوّ , ومن جهةٍ أخرى بينَ العالم الأكبر ومُنتجات النشاط البشريّ ؛ فكما يصنعُ حرفيّ إناءً , على سبيل المثال , وهو يجبل بيديه مادّة أوليّة فيرسم خطوطه الأولى في البداية , ثمّ يكسوه بالتتابع بالشكل والتزيينات , كالمقابض , والطلاء أو اللون , التي يستلهمها مباشرةً من المخطّط الذهنيّ الذي خطّطهُ لها , كذلك يمكنُ أن يُرى العالم في مجموعهِ على أنّهُ وعاءٌ كبير , يعكسُ في تفاصيلهِ وأشكالهِ وينمّ عنِ النوايا العقليّة والروحيّة لصانعه . ))
لنقرأ فيها أيضاً للعالم الباحث الفيزيائيّ هنري ستاب في مُختبر بيركلي وهو يشرح رؤيتهُ الكوانتيّة للعالم الفيزيائي مُنتقلاً من إطار الرؤية الفيزيائية التقليديّة والتصوّر الكلاسيكيّ للطبيعة بالحدس إلى فضاء الوعي الخلاّق وآفاقهِ الفكرية الرحبة في عالمٍ يسكنه الإنسان ويُحدّد مصيرهُ فيهِ بأعماله التي تنتج عن وعيهِ وطبيعة تفكيره :
( ويجب أن يكون لهذهِ الرؤية الجديدة لطبيعة الإنسان وقعٌ شديد , وحتّى حاسم على مصير الإنسان , وقد سبقَ أن منح العلمُ الإنسان القدرةَ على حلّ هذهِ المسائل الفيزيائية الكبرى , وتوجد المسائل الحرجة التي تنتظرُ حلاًّ في محيط القوّة العاقلة , فهنا يُمارس التأثير المهيمن بقوّة الأفكار , وانتقال التصوّر العلميّ للإنسان من ظاهرةٍ عارضة معزولة وطارئة نحو عاملٍ كونيّ للقدرة الخالقة في الكون ؛ يقتضي بالضرورة تقليل القيم الأنانيّة وتقوية الحسّ بتعاون متوافق مع الاخرين ومع الطبيعة)
رأينا في العصور الحديثة كيف ولدت الولايات المتحدة من أوروبا , ثمّ رأينا كيف هيمنت عليها وتحكّمت بها , وقرأنا في التاريخ كيف استولى الخدم والموالي على الخلافة الإسلامية , وكذلك كانَ الأمر قديماً حين ترتكبُ الأمم الأخطاء القاتلة وتميل عن صراط العدل فتجري عليها الأيّام بعواقب أعمالها جرياً على السنن الكونيّة , ولا شكّ أنّنا دفعنا أثماناً باهظةً جدّاً وما زلنا حتّى اليوم نؤدّي أقساطها المؤلمة جرّاءَ تفريطنا بحقّ أنفسنا أوّلاً وبحقّ أرضنا وقيمنا وأخلاقنا التي أضأنا بها جهات الأرض في القدم .
في هذا المشهد الواسع للصراع وعلى الرغم من جنون آلة القتل والتدمير الصهيونيّة تبدو الأحداث هذه الأيّام في زاويةٍ صغيرة على شاشة العرض في هجعة من مجلس الأمن والمنابر الأمميّة , ولكنّها الأبرز والأشدّ تعقيداً , والتي لا أشكّ أنّ قادة المنظومة الرأسماليّة العالميّة الكبار قد زجّوا فيها بأقصى ما لديهم من دهاء وخبث وحقد فارت به أحداقهم وأقداحهم وهم ينصتون لكلمات الرئيس الأسد في خطاب القسم لولايةٍ دستوريّة جديدة , ذلك الرئيس الذي اجتمعوا وتكاتفوا وفعلوا كلّ ما استطاعوا ليغيّروا سلوكهِ منذ أربعة عشر عاماً وخاضوا أشرسَ حروبهم ليجعلوا أيّامهُ معدودةً , فإذا بهِ هو مَن يغيّر سلوكهم ويلقّم عدّاداتِ أيّامهم واحداً تلو الآخر .
بالتأكيد لم يذع الرئيس الأسد سرّاً عندما أشار في خطابهِ إلى الوثيقة التي تنازل فيها الملك السعوديّ عبد الإنكليز عن فلسطين للمساكين اليهود , كما لا شكّ أنّ بريطانيا لم تأمر عبدها السعوديّ لحاجة منها إلى كرمه وجوده , وإنّما للتملّص من هذه الجريمة الكبرى بحقّ الأمم والشعوب وهي العارفة إلى أين تسير الأمور , غير أنّ اللافت في الأمر أنّها المرّة الأولى التي تُشهَرُ فيها هذه الوثيقة عبر منبرٍ رئاسيّ , وبالطبع ليسَ منبراً عاديّاً وإنّما المنبرُ الوصيّ شرعاً على تلك الأرض التي استفتحوا ببيعها أولئك الفجّار زمن الخسّةِ والذلّة والعار الذي ما زال يسوقُ العرب والمسلمين بأساطير التلمود الصهيونيّ , والتي يبدو أنّها نضبَت اليوم في مواجهة الأسد من رصاصها المصبوب ومن أعمدة النار ومن أعمدة السحاب , وأنّ هرمجدون الربّ قد مُسِخت إلى هرمجدون الغاز , وانتقلت آلهة التلمود من مملكة الربّ الأبديّة إلى الجرف الصامد على شواطئ غزّة لتدافع عن عرش يهوه , ويبدو الصهاينة اليوم ولأوّل مرّة منذُ إعلان ولادة كيانهم السرطانيّ يخوضُونَ حرباً للدفاع عن مبرّرات وجودهم وإطالة عقد استخدامهم لحماية المصالح والأطماع الاستعماريّة في المنطقة , بعد أن خاضَ جميع حروبه السابقة لتمكين هذا الوجود السرطاني والتوسّع بهِ على حجم ومقاس الخطط التي أوجدتهُ ووظّفتهُ ..
لا شكّ أنّ صهاينة حماس فشلوا في تنفيذ الأمر الموكل إليهم بترويض قادة الفصائل المسلّحة في الجناح العسكري لحماس تحتَ النّير الصهيووهابيّ على الرغم من هداياهم القاتلة , وقد أصبح قادة المقاومة الفلسطينيّة أكثر حذراً وتستّراً على أسلحتهم وخططهم واتصالاتهم بعد اغتيال الشهيد أحمد الجعبريّ , وهم بالإضافة إلى فصائل الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبيّة يشكّلون العماد الأساسي للنهج المقاوم داخل الأراضي المحتلة , وهم يعتبِرون القيادة السياسية لحماس شرٌّ لا بدّ منهُ ونافذة لا بديل عنها في الوقت الحالي رأفةً بالشعب الفلسطينيّ المحاصر في غزّة , فهي برغم خيانتها تُعتَبرُ بحكم الواقع الأليم القفازات المناسبة حالياً , وحتّى يتعافى الكيان العربيّ في مصر , للتعامل مع الأطراف الدوليّة التي تحاصر غزّة من كلّ اتجاه وتُقَتّرُ عليها كلّ شيء وخاصّةً أعراب الخليج الذين يسيطرون على الجامعة العربيّة ويمسكون بتلابيب مصر ويتحكّمون بالدمى البائسة في رام الله , إنّهُ أسلوبٌ مُخجل لحماية المقاومة , فرضهُ الواقع العربيّ المتخاذل المُتخم بالعمالة والخيانة والتآمر على فوّهة الحمم الطائفيّة اللعينة , وما من خيارٍ آخر حتّى إشعارٍ آخر ..
رجالات الدولة في مصر وجنرالاتها البارزون يدركون هذهِ الحقيقة المُرّة , وهم مضطرون أيضاً للتعامل مع هذه القفازات والنوافذ تحت نير كامب ديفيد وثقل الديون والعجز الاقتصادي , وهم حتّى ليسَ بمقدورهم وهذهِ الحال أن يبذلوا جهداً علنيّاً في إسكات الأبواق المصريّة العميلة الشامتة بأهل غزّة والمتذرّعة بدور حماس في أحداث مصر , التي يتعالى نعيقها باسمِ الوطنيّة والمحبّة لمصر تهليلاً للعدوان الصهيوني وآلته الإجراميّة التي تقصف الأطفال والمدنيين العزّل في واضحة النهار , فكيفَ للعرب أن يلوموا أوباما على تبرير هذا العدوان ؟!
وفي مثل هذه الظروف ستبقى أيّة مبادرة مصريّة عبارةً عن ثرثرة بين زواريب المتاهة الضبابيّة التي دخلها الصراع العالميّ في هذا الطور الحرج , ولا مناص أمام المصريّين والحالُ هذهِ من التعامل الحذر بفريقين يدير كلٌّ منهما ظهرهُ للآخر دونَ أن يلتفت إليهِ , وبينما يتقدّم الأول بدبلوماسيّة المبادرات على المستوى الدوليّ والدعوة إلى إلى التهدئة , يقوم الآخر بتأمين خطوط إمداد السلاح السوريّ الإيرانيّ إلى الفصائل الفلسطينيّة الثابتة على نهج المقاومة ..
على خلفيّة هذا المشهد يأتي الهدف الثاني على لائحة العدوان حسبَ ما أرى وهو اختبار النتائج التي حقّقها العملاء في حماس وفي مصر خلال الأعوام الماضية , بالإضافة إلى اختبار ما آلت إليه العلاقة بين الفصائل الفلسطينية والقيادتين السوريّة والإيرانيّة بعد إشهار الخيانة الحمساوية , ورصد مخزون الأسلحة ونوعيتها والتي من المفترض أن تكون قد آلت بمعظمها إلى العصابات الإرهابيّة في سوريّا , وهذا الهدف لا يبدو كافياً لشنّ العدوان في وقتٍ يقوم بهِ الصهاينة في دعم المشروع الإخواني في المنطقة وتقديم الدعم العسكريّ واللوجستي والرعاية الطبيّة والإسناد المباشر للإرهابيّين التكفيريين ومغازلة الحركات الإسلاميّة المنضوية تحتهُ على امتداد العالمين العربيّ والإسلامي , ولا يمكن فهم حقيقة المشهد إلاَ من خلال فهم الهدف الأوّل والمرتبط بتأخير ملفّ الرئاسة اللبنانيّة وتسعير جبهة درعا القنيطرة , وهجوم داعش على حقل الشاعر للغاز في حمص , وفورانها في الرقّة والحسكة , ليتّصل المشهد بهيجانها الدامي في العراق مع سيطرة قوات مسعود البرزاني على محافظة كركوك النفطيّة ..
فالهدف الرئيسيّ على لائحة العدوان هو تأمين الحدّ الأدنى من حقول الطاقة تحتَ سيطرتهِ , والذي يرفضُ المعسكر الرأسمالي التسليم بانتصار سوريّا وحلفائها دونهُ , لأنّه في حال فشله فسيضطرّ لترك المنطقة للمنظومة الدولية الجديدة التي لا بدّ وأن تخضع جميع القوى في مجالها لقوانين جاذبيّتها بشكلٍ طبيعيّ , أو أن تنبذَ إلى حيثُ تنتمي , وهنا يكمن سعير الجنون الرأسمالي ..
هذا الهدف يعيدنا بالذاكرة إلى عام 1949م حين استطاعت الولايات المتحدة إيصال عميلها حسني الزعيم إلى رئاسة الجمهورية العربية السورية في أوّل انقلابٍ من نوعهِ في سوريّا والمنطقة , للتوقيع على اتفاقيّة التابلاين التي أسقطها الشعب السوريّ ومجلسه النيابي , إذ هدفت لإيصال أنابيب النفط من الخليج إلى صيدا عبر سوريّا بما في ذلك حقوق الشركة الأمريكية بإنشاء مطارات ومنشآت مختلفة لا علاقة لها بأيّ طابع اقتصاديّ بالإضافة للامتيازات المالية والقضائية للشركة الأمريكيّة بما في ذلك حقّها بالقيام بخدمات مختصّة بالتعليم والصحّة والماء والكهرباء , ولكنّ الشعب السوريّ العظيم الذي أنجز أوّل استقلال وطنيّ في المنطقة العربيّة بعد معارك طويلة ضد الاستعمار ومشاريعهِ الجهنّمية وعلى الرغم من عمالة حكومات الاستقلال الأولى وتبعيتها وخيانتها المفضوحة فقد استطاع أن يسقط تلك الاتفاقيّة المشؤومة التي لم ولن يجد أولئك المستعمرون الطامعون فرصةً أفضل منها لفرض اتفاقياتٍ كهذهِ ..
فالأسد أدرك منذ ولايتهِ الأولى أن تغيير الواقع العربيّ الذي آلت إليه الأوضاع في المنطقة بسبب عمالة وخيانة الحكّام العرب المنافي لجميع الأعراف والقوانين والمبادئ والقيم , لا يمكن أن يتمّ إلا على خلفية نسيج مُتكامل ومتين من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية , وهو عندما طرحَ مشروعه للمّ شمل البحار الخمسة كان يدرك حجم الصعوبات والعراقيل والتحديّات , إلاّ أنّه استطاع بحزمهِ وعزمهِ وحكمته وشجاعته وجرأته على المشروع الأمريكيّ في العراق , أن يخلق تيّاراً جديداً ومناخاً استثنائيّاً أسّسَ لولادة منظومة دولية جديدة مُتكاملة ومنسجمة فيما بينها على مستوى الأهداف والتوجّهات التي تدعمها مبادئ القانون الدوليّ وقراراته , فهو بصمودِه وحكمتهِ وقوّة تحدّيه للعاصفة الأمريكيّة الأسوأ في التاريخ إثر أحداث أيلول , وقدرتهِ على تحييد بلده ومنظومة العمل المقاوم التي يقودها في لبنان وفلسطين , عن أشدّ الأخطار التي استهدفت بنيتها وكيانها بالتعاون مع الحليف الإيرانيّ الذي أثبت مصداقيته وشفافيته , وجسّد بسلوكهِ مثالاً يُحتذى في البعد عن الأمراض الطائفيّة والمذهبية البغيضة التي تسود المنطقة العربيّة , فقد رأت القوى العالمية المناوئة للنهج الأمريكيّ المتسلّط في الأسد الشاب جذوة الأمل الوحيدة لكسر هيمنة القطب الواحد واطمأنت لقدراته وحكمته وبعد نظرتهِ , فوضعت كامل ثقتها بهِ وبمشروعه , وتشجّعت لسلوك الطريق الوحيد الذي أفضى إلى إنشاء منظومة بريكس وتكوين فضائها الجيوسياسي وتشبيك علاقاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة على امتداد ساحة العالم بما يضمن تلاقي الخيوط والخطوات المنفصلة والمتباعدة التي خطّطت لها وعملت عليها خلال السنوات العشر الماضية لتتضافر وتتكامل في نسيجٍ واحد يبرز في المشهد النهائيّ للعالم الجديد والذي ستكون سوريّا أيقونته المجيدة وعلامته الخالدة .
واليوم وبعد فشل الربيع الصهيوني وانفضاح عورتهِ , تريد أمريكا أن تقول لسوريا , ولحلفائها من خلال الأوضاع الحاليّة التي تدير دفّتها لن أدعكم تنعمون بالأمن والسلام ولن أسمح لكم باستثمار ثرواتكم إلاّ إذا تركتم لي الاستثمار الآمن للنفط والغاز من كردستان إلى تركيَا ومن الخليج إلى الأردن إلى فلسطين , ويردّ الطرف الآخر نحن لا نقاتل من أجل النفط والغاز وإنما من أجل شعوبنا وأوطاننا وبلداننا وقضايانا العادلة , ولن نعطيكم حقّاً ليس لكم , ولن نترك لكم حقّاً اغتصبتموه منّا ولا شيء سيبقى كما كان مهما كانت التضحيات والتي لا شكّ أنّكم ستدفعون ثمناً كبيراً لن يتركَ لكم أصابع تعضّون عليها ..
المراقب الدقيق لأوضاع هذا الصراع وتقلّباتهِ منذ بدايته وحتّى لحظته الراهنة ورغم قتامة المشهد لا يجد أيّة عناصر قد تؤدّي إلى تغيير النتيجة , ولا يوجد أيّ أفق لبقاء الأنظمة العربيّة التي تدور في فلك المنظومة الرأسماليّة , ومع فشل أهداف العدوان على غزّة والذي تلوح أعلامهُ في الأفق على وقع الخطاب الأخير للسيّد حسن نصر الله في يوم القدس العالمي ونبرتهِ الموصولة بالصواريخ المنهمرة على تلّ أبيب ومطار بن غوريون , ذلك الخطاب الذي أخرج عقول الصهاينة من جميع الخطط الماكرة إلى صحراء التيه , ومع فقدان مشروع الخلافة الإسلامية الداعشيّة لأيّة مرجعيّة دوليّة يمكن أن تتبنّاها وتتولّى دعمها , ومع عدم وجود أيّة دولة في المنطقة تكون لداعش كباستان لطالبان , ولأنّ الحروب لا يمكن أن تستمرّ إلى الأبد دون تحقيق أهداف , ولأنّ المنظومة الرأسماليّة المستنزفة غير قادرة على تغزية الصراع الحالي دون تحقيق مردود , ولأنّ مخزون المقاومة أكبر بكثير من مخزون التكفيريّين صبراً ودعماً وتضحيةً وإمداداً , فإنّ المسار المستقبلي للصراع سيفرض تسويّة عالميّة تفضّ جميع النزاعات وتنهي حالة الحروب , وربّما يتمّ كفّ يد القطاع الرأسمالي الخاص عن تصنيع أسلحة القتل والتدمير والاتجار بهِا في اتفاقٍ عالميّ بنهاية هذه الحرب . قد يوحي كلامي أنّني متفائلٌ أكثرَ ممّا ينبغي , ولكنّ الحقيقة هي أنّني مُتهيّبٌ أكثر ممّا ينبغي , لأنّني أرى أنّ طبيعة الصراع المستقبليّ القادم بعد طيّ صفحة الحروب هي الأخطرُ والأبعدُ تأثيراً وتهديداً , لأنّهُ سينقل مسارحه وميادينه إلى الأبعاد الجوهريّة للحياة الإنسانية , ويمتدّ من ينابيع الفكر مُتصلاً بنسيج الوجود إلى آخر عمقٍ وامتدادٍ يستطيع الإنسان أن يصل إليه في هذا الكون ..
إنّه الصراع الجوهريّ بين أهل اليمين بحركتهم المُتّسقة مع حركة الكون من أصغر ذرّة وجسيم إلى أعظمِ فلكٍ في الوجود , وبينَ أهل الشمال الذين يُجَسّدون أفكارهم بأعمالهم المنافية لناموس الكون وقوانينهِ , وما بين هاتين الفئتين إمّا أن يستمرّ الاتساع في الكون ويشفّ النسيج الماديّ لعالمنا , أو أن ينقبض ويتكاثف ويختلّ الميزان ويتمزّق الأوزون ويحترق الكوكب بأعمال سكّانه ...[/rtl] | |
|