هولاند والجربا: الإهانة!نبيه البرجي – صحيفة الديار
ادرك جيداً لماذا شعرت بالاهانة، الاهانة الشخصية، عندما شاهدت الصورة التي التقطتها وكالة الصحافة الفرنسية لفرنسوا هولاند واحمد الجربا في الاليزيه.
اعترف بأنني مفتون بالثقافة الفرنسية الى «آخر ازقة القلب»، كما قال جان كوكتو لاديث بياف، وان كانت بريجيت باردو التي كادت ان تجعلني مجنوناً وانا اشاهد في مدينة زحلة فيلمها» وخلق الله المرأة حين كنت مراهقاً، وحالماً، وربما ساذجاً ايضاً، قد صدمتني حين التقيتها عام 1986 وكانت منكسرة، ومترهلة، وقد تبعثر النمش الذي طالما كان آسراً في يوم من الايام عشوائياً على وجهها الذي بدا وكأنه لم يحاول، ولو للحظة واحدة، ان يلعب ضد الزمن.
انه العشق الفرنسي يا صاحبي. لا ادري وانا آت من قرية لا علاقة لها باللغة الفرنسية كيف انني لم اكن «ارتكب» غلطة واحدة في مادة الاملاء الفرنسي التي كانت مادة استراتيجية في شهادة السرتيفيكا، وكنت اثير ذهول الاستاذ لانني آت من حضارة اخرى، ومن زمن آخر، وكنت اقرأ الفرنسية بشراهة بدوي وجد نفسه فجأة في غرفة نوم… مارلين مونرو ( بكل تواضع طبعاً).
اجل انه العشق الفرنسي الذي جعلني اشعر بالاهانة حقاً. لم اكن اتصور ان فرنسوا هولاند يمكن ان يصبح رئيساً لفرنسا. وها ان نسبة المؤيدين له تتدنى الى 18 في المئة. نسبة قاتلة، لكن الرجل لم يتزحزح، ولو كان يصل الى خاصرة شارل ديغول هل كان يقبل بان يظل لثانية واحدة في الاليزيه؟
لنفترض ان استفتاء جرى في سوريا حول «رئيس الائتلاف الوطني السوري»، وهنا الرجل افتراضي مثلما هو الائتلاف افتراضي، فما هي النسبة التي كان يمكن ان يحصل عليها؟ نحن نعلم ما هي النسبة التي لا تتعدى 0,18 في المئة، فهل نستعيد ما قاله لؤي المقداد ( وقد ضرب) من «ان الاخوان اتوا الينا برئيس ليسوقنا مثل الابل»؟
نعلم ان هشاشة الرئيس الفرنسي جعلت هندسة السياسة الخارجية تنتقل من الاليزيه الى الكي دورسيه. هكذا فان لوران فابيوس الذي ندرك مدى علاقته الايديولوجية (والفلسفية) مع برنار- هنري ليفي، هو الذي يتولى صياغة المواقف من سوريا التي يكرهها، ويجاهر بكراهيتها، وسواء كان بشار الاسد في قصر المهاجرين ام اي شخص آخر.
نتكلم فرنسياً، وحين قابلت الرئيس السابق فاليري جيسكار-ديستان وكان رئيساً للجنة صياغة الدستور الاوروبي، قال لي «لقد حولنا الضمير السياسي الى مؤسسة» حين كان الضمير السياسي في العالم العربي تائهاً في خزائن الف ليلة وليلة، فأين هو الضمير السياسي هنا حين يصف هولاند الجربا، بكل مواصفاته المرئية واللامرئية بـ «الممثل الشرعي المخوّل الحديث باسم الشعب السوري»؟
نسأل ، وبالمنهجية الديكارتية اياها، ما هي الحجج وما هي القواعد، وما هي الارقام التي استند اليها الرئيس الفرنسي لاطلاق هذا الوصف، وهو الذي يعلم كيف تمت «فبركة» الجربا، وكيف تم تنصيبه بالعصا( العصا اياها التي تسوق الابل) رئيساً للائتلاف الذي يتخذ من عاصمة السلطة العثمانية، وليس من عاصمة اي دولة عربية مقراً له؟
نسأل هنا بعيداً عن بشار الاسد، ونظام بشار الاسد، وبعدما بلغنا ما بلغنا عن الدور الذي يضطلع به لوران فابيوس لاقامة قنوات اتصال بين الائتلاف السوري وحكومة بنيامين نتنياهو، ربما عبر النشاطات المكوكية التي يقوم بها ليفي، من اجل ابرام صفقة تجعل من دمشق، وهي طالما اختزلت الوجه البهي للعروبة، مجرد ضاحية لاورشليم.
ثم بأي حق يسلم السفارة السورية في باريس للجربا؟ لا احد يعترض على اقفالها، ولكن ليقل لنا هولاند ماذا يعرف عن الجربا، وعن ماضيه السياسي او الثوري. اجل انه يعرف انه دمية وان ثمة من اخرجه من تحت عباءته ودفعه الى الضوء (انظروا كيف تزوغ عيناه وهو ينظر حوله) ولاغراض قبلية او جيو سياسية معينة دون اي اعتبار لسوريا التي تسقط حجراً بعد حجر، ودون ان نبرىء احداً من تبعة الكارثة.
هل نسي هولاند ان الثورة الفرنسية ارست القيم الكبرى للاخلاقية السياسية، ودون ان نعترض على صرخة الوجوه العارية والصدور العارية، في سوريا والتي تتوق الى العدالة.
ولكن هل ان السوريين اطلقوا صرختهم من اجل ان تحكمهم بانظمة القرون الوسطى؟
ندرك ان فرنسا تغيرت. وثمة كتاب صدر بعنوان «هل انتهت فرنسا؟». لم يعد يعني جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند سوى لغة الاسواق التي هي ليست لغة روسو، ولا لغة فولتير، ولا لغة مونتسكيواو ريجيس دوبريه او روجيه غارودي.
لكننا لا نستطيع ان نتخلى عن العشق الفرنسي، العشق الثقافي والفلسفي لا عشق الذين احلوا الزبائنية محل المناقبية، كما احلوا الغباء محل الابداع. اي ابداع في السياسات الفرنسيةمنذ الغروب الديغولي؟ نسال الآن: اين القامات الشاهقة في فرنسا بل في القارة كلها؟
وكنا نأمل ( هل هي الحماقة حقاً؟) ان تضطلع باريس التي نعرفها بالدور الآخر، ولكن الا يساهم ما فعله فرنسوا هولاند في تحطيم سوريا، ونحن الذي نعلم ان فلسفة الصفقة، وحيث التسول على ابواب البلاط، اي بلاط، حلت محل اي فلسفة اخرى. من زمان اقفل الحي اللاتيني ابوابه. لم يبق هناك سوى رائحة التبغ العتيق، فهل من قرأ للفيلسوف الآن فينكيلكروت افكاره التي لا تختلف البتة عن افكار الثعابين؟
ذات يوم احب صمويل بيكيت فرنسا وكتب بلغتها التي يعشقها، ولكن في نهاية المطاف قال «عدت اجر ذيلي بين قدمي»!