حلب… (رح مِنْعيد الزمن الأول) !علاء حلبي – صحيفة السفير
قد تعتقد لبرهة أن مشاعرك تبلّدت، وأن الحرب قد قتلت فيك الإنسان، وأنك بت بلا ذاكرة، بلا حاضر، تعيش مستقبلاً مبهماً، تراقب شاشات التلفزيون يومياً، تحصي عدد الشهداء، تتصل بأقربائك وأصدقائك للاطمئنان عليهم من باب “الواجب” ليس إلا.
قد تعتقد أن ثلاث سنوات من الحرب كانت كافية لتجعل قلبك يلتزم وظيفته الأساس بضخ الدم، وأنك تحولت إلى “كائن” على هامش هذا الموت المستشري وبعض الناجين منه، يعتريك اكتئاب فتجمح نحو اللاجدوى، اللاشعور، اللاانتماء.
صورة صغيرة كفيلة بإيقاد حرارة الحياة في موتك البارد، صورة معتّقة للحياة، قبل ثلاث سنوات، تقع عليها في الملفات وصور الحرب المكدّسة في حاسوبك، قادرة على أن تعيد لدموعك ملوحتها، ولنفَسك اضطرابه، هذا الذي اعتاد الانتظام أو على الأقل كنت قد اعتقدت ذلك.
صورة لشجرة تتوسط ساحة الحطب الأثرية في حلب تعيدك طفلاً، فتسأل نفسك ساخراً “كم لبثنا؟”، فيجيبك “غوغل” بصورة حديثة للمكان ذاته “لبثت حرباً وبعض موت”.
تبحث في جهازك عن صور أخرى، تقلّبها بسرعة على وقع ابتسامات “هذا مستشفى الكندي قبل أن تدمّره الحرب، كان البعض يشكو وجود كلاب شاردة تحوم في محيطه، وهو الجاثم على تلة منزوية في خاصرة حلب الشمالية، يتعبك الوصول إليه، ترى من طوابقه المرتفعة حلب”. وتسألك الصورة “ماذا حدث؟”… تتابع بإلحاح “لم تعد الكلاب الشاردة مشكلة، فقد تحولتُ إلى حطام كما ترى”، تجيبها بعتب “هو السعار ذاته”.
يسرقك الشرود. تحلّق بين شوارع حلب. مساء صيفي، وازدحام شديد في منطقة المحلق. حفلات شواء. أمّ تصرخ بابنها أن عد فهذا الطريق خطير، يمسك كرته ويعود أدراجه بين الأشجار.
تتابع رحلتك نحو جامع العباس، الازدحام ذاته، بالقرب من الجامع يشدّك ازدحام حول محل “العطار” لبيع المثلجات، تنظر إلى قميصك بحثاً عن تلك البقعة الحمراء التي خلّفتها “بوظة” الكرز، لا تجدها “كنت حينها أرتدي قميصاً آخر”، تتابع من بعيد شاباً وصبية يسيران في الأحياء الراقية، يغيبان خلف أغصان شجرة علّق عليها إعلانٌ لعمل مسرحي في “دار الكتب الوطنية” في منطقة باب الفرج.
أعمال مسرحية كثيرة تقتحم ذاكرتك، بعضها سطحي، تبحث أكثر في ذاكرتك، تقلّب المشاهد وفصول المسرحيات وخبطة أقدام الممثلين وانسدال الستائر، فتسرقك أدراج دار الكتب الوطنية، وعقدة البحث عن كتاب يبدأ بحرف الواو، فحرف الواو مفقود في هذه المكتبة، أو هذا ما تظن أن تتذكره.
أمام “دار الكتب الوطنية” تراقب ساعة باب الفرج “هنا كانوا ينصبون المشانق”، يا للذاكرة اللعينة، “أكان هذا التفصيل مهماً؟”، تكرر السؤال عند كل ارتطام مع تلك التفاصيل المبعثرة. تحاول تجاوز ذكرى المشانق والمجرمين الأربعة الذين كانوا آخر من شنق أمام هذه الساعة، قبل خمس سنوات، أو ست.. ليس مهماً.. تقف أمام أبواب حلب القديمة، تسير في شوارعها، لسعة برد تلفحك، بابٌ خشبي عتيق يفتح عن يمينك، وتخرج ثلاث نساء منقبات يتعثرن بمجموعة من السائحات الشقراوات، تتابع المشهد المتناقض حتى يختفي الجميع في ظلام الشارع، وتعلّق: “بعض الشوارع تحتاج إلى إنارة، لماذا لا يهتمون بهذه التفاصيل؟”.
تبحث عن حلب القديمة في ذاكرتك، مجموعة صور متناثرة، في أوقات مختلفة، أبو عبدو الفوّال (بائع الفول)، الكنائس المتناثرة، الجامع الأموي، منطقة السويقة وبائعو الألعاب النارية، تتذكر أنهم كانوا يخبئونها في مستودعات سرية فيما الجميع يعلم أن هذه الألعاب الممنوعة تباع هنا، والجميع يرتاد هذا السوق لشرائها، ممنوعة ولكن الجميع قادر على الحصول عليها. تبتسم حين تتذكر “الفتيشة” التي أشعلتها في الصف ورميتها خلف باب غرفة الإدارة، تشعر بالنصر لان “المدير لم يعرف حتى الآن من رماها”.
من زاوية الشارع، تطل قلعة حلب، يحيط بها ازدحام شديد. بائعو الذرة و”غزل البنات”، طفل يحمل بالوناً يحلق عالياً (تفكّر بشقاء) “كم بالوناً نفخت من دون أن يحلق عالياً كهذا قبل أن تعرف أن البالون بحاجة إلى غاز خاص كي يحلق بالرغم من احمرار وجنتيك وانقطاع نفسك”، ثم تضحك.
سلسلة من المقاهي التي تضج بالحياة، القصر العدلي مغلق فرحلتك في الذاكرة، زيارتك لهذا المكان كانت مساء، تحاول تذكر هذه المنطقة صباحاً، مئات الأشخاص يدخلون ويخرجون إلى هذا المبنى، شرطة المرور المحتارة في تنظيم السير، تارة يسمح لك بالمرور، وأحيانا أخرى تطل إشارة حمراء برأسها “تغير مخطط السير في هذه المنطقة”، تشعر بالغيظ وأنت تعود أدراجك، على صوت “زمامير” يصم الأذنين.
تعود إلى محيط القلعة من جديد، صورة القلعة في مساء ممطر راسخة في مخيلتك، لتستعيد تساؤلاً سابقاً أمام أشجار النخيل التي زرعت خلال عملية ترميم وتطوير، “متى كان النخيل من أشجار حلب، يا لغباء القائمين على هذا المشروع، وأين اختفت الحجارة القديمة، وكيف استبدلوها بهذا الرخام الحديث؟”. تهاجمك الأسئلة وتتزاحم، فتهرب منها إلى القلعة، تصعد درجاتها وتراقب الباب الضخم، وتلك الفتحات فوقه وتقول: “هناك كان يقف رماة الأسهم، ومن هذه الفتحة كان يصب الزيت الحار على من كان يحاول اقتحام القلعة”، تقف أمام البوابة، تراقب مجموعة سياح يلتقطون صوراً بجانبك، تفرد يديك وتصرخ “هذه القلعة لي”.
كثيرة هي التفاصيل المرتبطة بالقلعة، حمامها الأثري، المسجد، الكافتيريا التي وددت لو أنك شربت قهوة فيها قبل أن تندلع الحرب. تقف طويلاً عند مسرح القلعة، سهرات وحفلات عديدة كانت تقام هنا، آخر حفلة حضرتها هنا كانت لمي نصر، عندما نظم الهلال الأحمر حفلة لها، وفوجئ الحاضرون بأن من يغني ليست الفنانة اللبنانية مايا نصري”، تقهقه وأنت تتذكر الإحباط على وجه بعض الشبان. يغيظك صديقك الأكبر منك سناً “ميادة الحناوي وصباح فخري كانا يلهبان هذا المسرح”، ترمقه بغضب “ليتني أكبر سناً”.
تدندن بعض الكلمات من أغاني صباح فخري “يا مال الشام يالله يا مالي، طال المطال يا حلوة تعالي”، تنفجر ضاحكاً عندما تصل إلى كلمة “مشتقلك” في هذه الأغنية، فهذه الكلمة وباللهجة الحلبية تبدو مضحكة لغير الحلبي، تكررها من جديد “مشتقلك يا نور عيوني.. مشتقلك يا نور عيوني”، تنخفض نبرة صوتك، يختنق، تكمل في سرك “حتى نعيد الزمن الأول”.
الحديقة العامة هي الأخرى تحتل في ذاكرتك مساحة كبيرة، بأشجارها، وحديقة الحيوانات المصغرة التي كانت فيها، وذلك “القرد” الذي يعرفه الحلبيون جيداً، ويطلقون عليه اسم “السعدان سعيد”، كم آلمك خبر نفوقه قبل أربعة أعوام.
تسير بذاكرتك بين الأحياء القريبة من الحديقة، شارع الشلال ونهر قويق بعد إعادته للحياة، تزعجك مرة أخرى أشجار النخيل التي زُرعت على طرفي النهر “فالنخيل ليس من أشجار حلب”. تسير في شوارع العزيزية، تراقب المراهقين في شوارع الحي، تقف طويلاً أمام شرطي المرور الشهير “ابو محمد”، تشعر بأنه بحماسته وروحه المرحة قد تحول إلى أحد معالم المدينة “كل من سكن حلب، أو حتى زارها لا بد أنه يذكره”.
يوم رمضاني في حلب، يعود إلى ذاكرتك، تتذكر الازدحام الشديد في منطقة المنشية حيث تنطلق باصات النقل الداخلي نحو أحياء حلب الشرقية، تعود بذاكرتك لما قبل الباصات، الميكروباصات، ازدحام شديد قرب جامع التوحيد، وفي منطقة ميسلون، حشود تحاول الصعود في السيارات، سيدة تحمل أكياس الخضار تحجز مقعدين، تنهرها سيدة مسنة “ضعي هذه الأكياس في حضنك”، وتجلس.
تسير بين أحياء حلب، الصاخور، الشعار، الميسر، الحيدرية، مساكن هنانو… أطفال يلعبون في الشوارع، مجموعة شبان يقفون عند مداخل الحارات يوزعون التمر واللبن للصائمين، بائعو الفلافل، والسوس، والمعجنات، ليطول شرودك، ويتلاشى المشهد تدريجياً، لتعود صور الحرب والشهداء والدمار، تحاول جاهداً العودة إلى ما قبل الحرب دون جدوى. يتملكك صوت صباح فخري، تتنفّس، تشمخ وتصرخ “مشتقلك يا نور عيوني… حتى نعيد الزمن الأول”.