عامٌ على «الفتنة الجهادية» في سوريا: الظواهري ينقلب على بن لادن.. ونفسه!عبدالله سليمان علي – صحيفة السفير
مضى عام على بدء ما يمكن تسميته بـ«الفتنة الجهادية» بين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») من جهة، وكلٍّ من تنظيم «القاعدة» العالمي بزعامة أيمن الظواهري وفرعه في الشام «جبهة النصرة» بزعامة أبي محمد الجولاني من جهة أخرى.
وخلال هذا العام تطورت أحداث «الفتنة» من التظاهر بأنها مجرد اختلاف في الرأي حول السياسة الشرعية، لتتفاقم مع مرور الأيام، وتمر بمراحل متصاعدة من العداء، إلى أن اتخذت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة طابع الصراع المسلح، الذي سقط بسببه حوالي ألفي مسلح من عناصر التنظيمات «الجهادية» في سوريا، نسبة كبيرة منهم من «المقاتلين الأجانب» بحسب مصادر قيادية من داخل هذه التنظيمات.
دماء ألفي مسلح سقطوا، خلال فترة وجيزة لا تتعدى ثلاثة أشهر، لم تكن ثمناً لـ«إقامة الخلافة الإسلامية» أو «تطبيق الشريعة» أو «إعلاء كلمة الله»، أو غيرها من المصطلحات التي يحفل بها الخطاب «الجهادي»، بل كانت عربون أحقاد شخصية ومصالح مادية وتنافس على الزعامة وحب الظهور، كما أثبتت مجريات الأحداث حتى الآن.
وفي مثل هذا اليوم من العام الماضي، أعلن أبو بكر البغدادي تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) بعدما كشف للمرة الأولى عن أن الجولاني ما هو إلا جندي من جنوده، وأنه هو من انتدبه وأرسله إلى الشام مانحاً إياه شطر ماله ورجاله، معلناً الدمج بين «جبهة النصرة» و«دولة العراق الإسلامية» ليصار إلى تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
ولكن الجميع، بمن في ذلك أنصار التيار السلفي «الجهادي» في كل مكان، فوجئوا بخروج زعيم «النصرة» أبي محمد الجولاني، بعد ساعات من إعلان البغدادي، ليرمي القنبلة التي أحدثت أكبر «فتنة جهادية» في تاريخ التيارات السلفية «الجهادية»، عندما أعلن رفضه الاندماج مع «دولة العراق الإسلامية»، محتفظاً لتنظيمه بمسمّى «جبهة النصرة»، ومجدداً البيعة لزعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، رغم أنه أقرّ بما قاله البغدادي حول انتدابه ومقاسمته له المال والرجال، بل ان الجولاني بالغ في الامتنان للبغدادي، حتى قال إن «في عنقي دينا له لا فكاك منه» وهو ما تنصل منه لاحقاً.
ومع مرور الأيام تكشفت الكثير من الحقائق والتفاصيل حول مجريات هذه «الفتنة الجهادية»، وظهرت حيثيات تتعلق بالحساسيات الشخصية وحب الإمارة والتنافس الدنيوي لعبت دوراً في تأجيج هذه الفتنة، من بينها، على سبيل المثال، الحساسية والغيرة بين الجولاني والمتحدث باسم «الدولة الإسلامية» أبي محمد العدناني.
ومن المعروف أن الجولاني كان مرشحاً، قبل الأزمة السورية، الى منصب المتحدث الرسمي، وأوغر صدره آنذاك أن يحظى العدناني بهذا المنصب المهم. ثم وجد الجولاني الفرصة لإهانة العدناني والنيل منه، حيث كان العدناني «أمير جبهة النصرة» في إدلب ونائباً للجولاني باسم «حجي ابراهيم»، فعزله الجولاني وأمره بالعودة إلى العراق.
ويمكن الحديث كذلك عن الخصومة بين ميسر الجبوري (أبو ماريا القحطاني) والكثير من قيادات «الدولة الإسلامية»، والتي استدعت خروجه من العراق إلى سوريا بذريعة العلاج له ولزوجته ليبقى فيها، إلى أن استعان به الجولاني وعيّنه «المسؤول الشرعي في جبهة النصرة».
موقف الظواهري مربط الفرس
ولكن أيّاً كانت أهمية الأسباب السابقة في تأجيج «الفتنة الجهادية»، يبقى أمر واحد هو مربط الفرس والسبب الحقيقي في تسعير نار «الفتنة» وتطاول لهبها، وهو في الحقيقة موقف زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري. ولنا أن نتخيّل لو أن الظواهري رفض مبايعة الجولاني له، لا سيما أنه انتقده علناً لتسرّعه في إعلان البيعة من دون مشاورته، فهل كان من الممكن أن تقوم قائمة للجولاني أو لجبهته بعد ذلك؟
لكنّ الظواهري على العكس وجد في خروج الجولاني على «أميره» البغدادي، وخلع بيعته له وكسر قراره بتأسيس «الدولة الإسلامية» فرصة سانحة تمكّنه من استكمال الانقلاب الذي شرع بتنفيذه ضد أميره السابق أسامة بن لادن. وهنا لا بد من ملاحظة أن مقتل بن لادن في توقيت مريب هو بدء ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي» يثير الكثير من التساؤلات في هذا السياق، خصوصاً على ضوء الانقلاب الذي أحدثه الظواهري في «القاعدة» بعد مقتل رفيق دربه السابق.
ولا تسمح هذه العجالة بالخوض مفصلاً في الأسباب والضرورات والخلفيات التي دفعت الظواهري إلى التفكير بالانقلاب، فهي معقدة ومتشابكة وتحتاج إلى تفنيدها بدقة على نحو لا يسمح به المجال هنا. ولذلك سنكتفي بالحديث عن مظاهر هذا الانقلاب، بخصوص علاقة «القاعدة» مع «الدولة الإسلامية» ورجالها، وتأثير ذلك على أحداث «الفتنة الجهادية» في الشام ومآلاتها.
ومع ذلك ينبغي التنبيه إلى أن الانقلاب الذي يقوم به الظواهري ليس سوى محاولة منه لمواكبة التطورات التي حدثت بعد «الربيع العربي»، وحجز مكان لنفسه ولتنظيمه على خريطة النفوذ والتأثير، وهو بالتالي ليس انقلاباً حقيقياً في المنهج والعقيدة والسلوك.
وفي هذا السياق، من المفيد أن نحيل إلى ما سربته الصحف المصرية حول مضمون خمس مكالمات هاتفية بين الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي والظواهري تتعلق بالتعاون والتنسيق بين الطرفين. كما أنه من المفيد أن نقارن بين ادّعاءات «القاعدة» في سوريا بأنها لا تستهدف الطوائف الأخرى، وخصوصاً العلويين والمسيحيين، بينما تقوم بتفجيرات عشوائية في شوارع بيروت متعمدةً استهداف من تسميهم «الروافض والمجوس».
صحيح أن وثائق آبوت آباد في باكستان التي سربتها الاستخبارات الأميركية، بعد حصولها عليها من مقر أسامة بن لادن خلال عملية اغتياله، تشير إلى وجود ملاحظات وانتقادات لدى قيادة خراسان على «دولة العراق الإسلامية»، وتصرفاتها التي تميل إلى الغلو في التطرف ومعاداة الطوائف الأخرى، إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال سحب هذه القيادة، وعلى رأسها بن لادن، تزكيتها لـ«الدولة» وشرعيتها.
فقد أيّد بن لادن قيام «دولة العراق»، بقوله «لقد سر المسلمين تسابق عدد من الجماعات المقاتلة في سبيل الله، مع عدد من شيوخ العشائر المرابطة المجاهدة، لتوحيد الكلمة حول كلمة التوحيد، فبايعوا الشيخ الفاضل أبا عمر البغدادي أميراً على دولة العراق الإسلامية». كما بارك قيامها أبو يحيى الليبي، الذي كان يتولى منصب «المفتي العام للقاعدة» قبل مقتله هو الآخر في العام 2012، حيث قال إن «دولتكم، بل دولتنا، ودولة كل المسلمين مولود جديد طالما انتظره العالم بشغف المحب ولهف المكبوت، فما أحوجه إلى العناية الجادة والرعاية الصادقة».
بل كان الظواهري نفسه على قائمة كبار المؤيدين لقيام «دولة العراق»، قائلا «تحياتي لإخواننا المجاهدين في العراق، وأهنئهم على قيام دولة العراق الإسلامية، كما أحيي الأمة الإسلامية جمعاء على دعم هذه الدولة الفتية الناشئة، فإنها بإذن الله البوابة لتحرير فلسطين ولإحياء دولة الخلافة الإسلامية. كما أحرض جميع إخواني من المجاهدين في العراق للحاق بهذا الركب المبارك، كي ينقذوا عراق الخلافة من كيد الصليبيين وتجار الحرب الخائنين».
فكيف تحولت «الدولة» من بوابة لتحرير فلسطين وإحياء دولة الخلافة إلى مجموعة من البغاة «أحفاد الخوارج» كما وصفهم الظواهري نفسه قبل أيام، في خطاب مسجل يرثي به أبي خالد السوري الذي يُتهم «داعش» بقتله؟ وكيف انتقل الظواهري من دعوة «المجاهدين في العراق» لمبايعة تنظيم «الدولة»، إلى الحض على قتاله واجتثاثه في سوريا؟ وليس هذا وحسب، بل ينبغي أن نلاحظ أن الظواهري بدأ ينسج علاقات قوية مع بعض عناصر «القاعدة» وقياداتها من التيار الذي طالما عُرف بمعارضته لسياسة بن لادن، وأهم هؤلاء أبي مصعب السوري ورفيق دربه أبي خالد السوري الذي عينه الظواهري مندوباً له لحل الخلاف في الشام. كذلك تركيز الظواهري على «الشورى» وعدم جواز البيعة قبل «التمكين»، رغم أن «القاعدة» بايعت الملا عمر «أميراً للمؤمنين» من دون شورى ولا اختيار ولا تمكين، بل في ظل معارك طاحنة بين حركة «طالبان» والكثير من الفصائل الأفغانية، علاوة على حربها مع القوى الغربية وأميركا.
إنه، بلا شك، انقلاب هائل وجذري جرى خلال أعوام قليلة، ولكن هذا الانقلاب ينبئ في الوقت ذاته بأن موازين القوى داخل «القاعدة» تغيرت بدورها لمصلحة قيادات غير قياداتها التقليدية، هذا إن لم نكن أمام صراع بين جيلين من «القاعدة»: «قاعدة الظواهري» و«قاعدة البغدادي» على خلفية الاحتفاظ بالإمارة ومواكبة الأحداث الساخنة التي سرقت الأضواء من أفغانستان، معقل «القاعدة» التاريخي، إلى الشرق الأوسط، وتحديداً بلاد الشام التي يتمتع فيها البغدادي بنفوذ لا يضاهيه نفوذ أي تنظيم آخر.
ربما كان إدراك الظواهري لهذه الحقيقة، ووعيه أن قيادة خراسان تخسر يوماً بعد يوم من رصيدها، وتتسرب خيوط التحكم من بين أصابعها، لا سيما أن عاصمة الحدث أصبحت أرض الشام وليس كابول أو قندهار، هو ما دفعه إلى مجاراة الخطوة التي قام بها الجولاني برفضه الاندماج، وبالتالي لم يجد الظواهري سوى قبول مبايعة الجولاني له، بل ربما احتفى بهذه البيعة بينه وبين نفسه، لأنها ورقة القوة الوحيدة التي تمكنه من أداء دور على ساحة الشام، ولو تجلّى هذا الدور بإدارة أكبر فتنة «جهادية» حدثت حتى الآن.
ويبدو أن هذه الفتنة لن تبقى ضمن إطار الساحة الشامية، بل من المتوقع أن تتجاوزها إلى ساحات أخرى، هذا إن لم يكن قد حدث ذلك بالفعل، لا سيما بعد مبايعة أبي الهدى السوداني، أحد أقدم قيادات خراسان، وأيضاً مبايعة الشيخ مأمون حاتم، عضو «اللجنة الشرعية في أنصار الشريعة في اليمن»، لأبي بكر البغدادي، بل شهدنا خلال الأيام السابقة انشقاقاً إعلامياً قد يكون مؤشراً على حجم الانشقاق الذي سيضرب تنظيم «القاعدة» فيما لو استمرت هذه «الفتنة»، حيث أعلنت «شبكة شموخ الإسلام» تأييدها ودعمها لـ«الدولة الإسلامية»، بينما أصدرت «جبهة النصرة» بياناً تعلن فيه توقفها عن نشر بياناتها على هذه الشبكة، في الوقت الذي أطلّ فيه آدم غدن أبو عزام الأميركي ليشن حملة شعواء على «الدولة»، علماً أنه المشرف العام على «مؤسسة السحاب» الذراع الإعلامية لتنظيم «القاعدة».
كل ذلك، ألا يستدعي طرح السؤال: «القاعدة» إلى أين؟