سوريا: القصة من اولهانبيه البرجي – صحيفة الديار
القصة من اولها…
حين اسدل الستار على مؤتمر يالطا في شباط1945، وحيث التقى فرنكلين روزفلت وجوزف ستالين وونستون تشرشل، لاقامة معمارية استراتيجية جديدة للعالم، قطع الرئيس الاميركي نصف الكرة الارضية تقريبا، وهو الذي يحمل 7كيلوغرامات من الحديد في ساقيه بسبب الشلل، من اجل ان يلتقي العاهل السعودي الملك عبد العزيز ال سعود على البارجة كوينسي في قناة السويس.
في تلك اللحظة ولد ما وصفه افريل هاريمان، الديبلوماسي الفذ الذي رافق روزفلت في كل خطواته، بـ «الحلف الابدي» او «الحلف المقدس» بين واشنطن والرياض، ليضيف «بطبيعة الحال لم نكن نرغب في ان نرفع العلم الاميركي فوق الكعبة، ولكن بلغة الشرق، قد تكون لحظة الله التي تقاطع فيها الاسلام مع البروتستانتية ضد الشيوعية».
في وقت لاحق، قال هاريمان «لقد جعلنا النفط، بطريقة ما، حالة ايديولوجية وحالة استراتيجية في آن». الجميع اخذوا علماً، وعشية هيروشيما، بأن احدا لا يجرؤ على الدنو من المقدسات الاميركية..
كانت البداية. كل ايقاع مختلف، كل صرخة مختلفة يفترض ان تتحطم في الحال، ليقول سايروس سالزبرغر بعد ذلك انه، وبالرغم من التعهدات الحديدية التي ابداها ستالين على ضفاف البحر الاسود، كانت هناك خشية هائلة من تمدد الشيوعية، وهي على تخوم ايران بل و في قلبها، الى الضفة الاخرى من الخليج حيث البنى السوسيولوجية الهشة، ودون اي اعتبار بأن الثقافة الدينية هناك، ورغم ضحالتها، كانت اشد تجذراً من ان تزعزعها افكار تصلح لعمال المصانع لا لرعاة النوق..
هكذا تحطم جمال عبد الناصر. هزيمة عام 1967 بدأت في اليمن، الممنوعة من ان تبارح ازمنة الغبار. كان الامام يشبه فعلا تمثالا من الغبار تبعا لما وصفه جورج ويلز، وكان افراد القبائل يقطعون آذان المصريين و يضعونها في اكياس ليقبضوا ثمنها. كيف يمكن للجنود الذين لم يعرفوا سوى الصحراء ان يقاتلوا في تلك التضاريس الطبيعية و البشرية التي طالما تجنبتها الامبراطوريات الكبرى…؟
دائما المملكة العربية السعودية هي «اللاعب المقدس» في المنطقة. لا احد يمكنه ان يلعب الا بالتنسيق معها. وقيل انه المال الذي يشتري حتى العالم الاخر، فإذا ما حاول الرئيس صدام حسين ان يقيم امبراطورية، وحتى اذا ما بدأت صيحات آية الله خميني تعبر الحدود، كان لا بد من تدمير الاثنين معا. هذا الذي حصل. وقال مرشد الثورة في ايران… انها الكأس المرّة!
وحين عقد الرئيس جورج دبليوبوش العزم على احتلال العراق، وبتلك الذريعة البلهاء، كان شرط الرياض انه اذا تم تقويض نظام صدام حسين لتحكم الغالبية الشيعية، يقتضي تقويض نظام بشار الاسد لتحكم الغالبية السنية. لكن الرئيس الاميركي الذي لم يكن على دراية لا بالتعقيدات المذهبية والآتنية في بلاد الرافدين و لا بموقعه الجيوسياسي، وقع بين الفكين الايراني والسوري، ولم تتمكن دبابات كولن باول من الوصول الى دمشق..
كان بوش الاب اكثر حنكة، فحين قرر خوض «عاصفة الصحراء»، وكان في يده قرار مجلس الامن، وكانت هناك دولة محتلة هي الكويت، بعث بوزير خارجيته جيمس بيكر اكثر من مرة الى الرئيس حافظ الاسد لاقناعه بالمشاركة الرمزية في الحرب. هذا ما حصل، ودخل بوش، بصورة خاطفة، الى بعض مناطق العراق دون البقاء هناك..
ثمة معطيات كثيرة حول السبب الذي حمل الرئيس الفرنسي جاك شيراك على اقناع جورج دبليو بوش في لقاء النورماندي الشهير في حزيران 2004 باستصدار قرار مجلس الامن الدولي رقم 1559 الذي قضى بخروج القوات السورية من لبنان وحل الميليشيات (تحديدا ميليشيا «حزب الله») وتسليم سلاحها، ودون اي اعتبار لحساسية المعادلات الاقليمية ودقتها وخطورتها، فيما كان على الكاتب( والفيلسوف؟) الفرنسي الكسندر آدلر، وهو الذي يرى الامور بعين عرجاء، ان يتوقع، وفي اللحظة، التي يعود فيها الجيش السوري الى ارضه بأن يحصل انقلاب عسكري في دمشق و ينتهي نظام البعث. قال انه سمع ذلك من شيراك شخصيا.
… ودخل لبنان في المجهول، ولا يزال. و المثير ان يقرّ آدلر وبعدما اندلعت الاحداث في سوريا بأن ما حصل انما كان نتاج عملية «تحديث» للسيناريو القديم، ساخرا من الشعارات الفضفاضة التي رفعت، فلا شيء يحكم السياسات الدولية، والاقليمية، سوى ثقافة المصالح حتى ولو دمرت الدول ودمرت المجتمعات..
اذاً، لماذا كل ذلك الغباء في مقاربة المشهد السوري. الآن ثلاث سنوات على الانفجار. لم يسقط النظام الذي تم اختزاله ، وبالغباء إياه، برجل واحد. هنا لعبة الامم التي تقابلها لعبة الشظايا، والنتيجة ان سوريا التي لا تمتلك الثروة النفطية ، كما ليبيا او كما العراق، فيما مواردها الطبيعية محدودة، تدمر حجرا حجرا. كل هذا ليس من اجل تلك الكليشهات البائسة(الحرية والديمقراطية والعدالة) التي هي اكثر من ضرورية لمجتمعاتنا التي تعامل من قبل الامبراطوريات كما من قبل الانظمة على انها « مزارع بشرية» لا تختلف، في اي حال، عن…مزارع الدجاج.
لم يكتف العرب، ومعهم الاتراك، ومعهم الاسرائيليون، بـ «هيروشيما السورية». حقا ، ما هذا الشبق الهائل الى الدمار والى الموت؟ واي نظام بديل يبغون اقامته في سوريا وامامنا ذلك الطراز من مصاصي الدماء، كما لو ان الذين عملوا، ومنذ البداية، على افغنة سوريا، لم يستشعروا ان تلك الحالات الهيستيرية التي انتشرت في الاصقاع السورية يمكن ان تبقى مكانها ولا تلبي «صرخة الله» بـ «احقاق الحق» في كل ديار المسلمين، لا وبل رفع راية الاسلام فوق البيت الابيض كما فوق قصر بكنغهام وقصر الاليزيه وصولا الى الفاتيكان بطبيعة الحال. انظروا الى راهبات معلولا، وتصوروا اي مصير ينتظرنا..
بالرغم من ذلك، انهم مصرون على المضي في لعبة القتل في سوريا، وبعدما بات جليا ألا مجال البتة للتسوية السياسية. لا بد من ان يطول، ويطول، طريق الجلجلة. ذلك الصليب الخشبي في انتظارنا جميعا. باعة الامل تواروا عن الانظار رغم كل هذا الظلام العظيم، نسأل:ومتى تدق ساعة العقل؟!