إكسير أميركا المستدام وحصاد المواسم

إكسير أميركا المستدام وحصاد المواسم

حسين شقير
ليست أميركا بدعاً من الدول وليست امبراطورية من جنس مختلف ولا يمكن اعتبار سيرورة مسارها منفصلاً عن واقع أقرانها إلاّ أننا – ومن باب الإنصاف مع خصومنا أو حتى مع أعدائنا يمكننا أن نعتبر تلك الامبراطورية تصارع في سكرات موتها وأفول نجمها بطريقة تجعل الكثيرين إزاءها يتهمون أعينهم بخداعهم عما يحدث على أرض الواقع حيناً وأحياناً أخرى تظهر هذه الامبراطورية المعتلّة عند هؤلاء بأنها لا تزال في عزّ عمرها الزمني وأنها أبعد ما تكون عن الكهولة السياسية التي تعصف بها إلى درجة أن أحد الكتّاب العرب المرموقين كان يردّد دائماً مقولةً يتعجّب فيها من أمر أميركا كيف أنها كلما ازدادت ضعفاً ووهناً.. يزداد حضورها وتأثيرها ومكانتها في العالم العربي وتحديداً الخليجي منه!!
في البحث عن سرّ تلك المعادلة الأميركية لا يوجد في علاقات أميركا الديمقراطية أو الجمهورية سوى مفردةً واحدة تحكمها سواء بالدول أو بالأحزاب والحركات والتيارات والجماعات وحتى مع الأفراد في شتى أنحاء المعمورة باستثناء الكيان الصهيوني – ألا وهي مفردة: التدليس.
فإذا كان التدليس لغةً ينطلق من تعاقد اثنين يمكر أحدهما بالآخر ويوقع به في مكيدةٍ ينصبها له.. فإنني لم أجد مصطلحاً أفضل من هذه العبارة توصيفاً لعلاقات أميركا مع من تسمّيهم حلفاءها وخصوصاً مع الخليجيّين منهم!
أميركا والتدليس السياسي
تتموضع دول الخليج سياسياً منذ زمن بعيد في الحضن الأميركي متخذةً – وبحكم موقعها الجغرافي ومكانتها الحيوية عند أميركا بفعل مخزونها الهائل من الذهب الأسود ـ سياسةً تحاكي بأدقّ تفاصيلها تلك السياسة الأميركية.. ولكن ولئن تركنا الماضي وما فيه وحدّقنا قليلاً بالأمس القريب وذلك منذ عهد الرئيس الأميركي السابق بوش الابن وتصنيفه للعالم بكليته بُعيد أحداث الحادي عشر من أيلول من العام 2001 بأنه قد انقسم إلى محورين لا ثالث لهما! وهما «محور الخير» المتمثل بأميركا ومَن معها! و»محور الشر» الذي يضمّ بين جنباته كلّ أولئك الذين يقفون إما على الحياد! أو في المحور المقابل لها.. فكان قرار هذه الدول ان تلتحق بمحور «الخير».. ولكن. بُعيْد الفشل الأميركي الذريع في تعويم مشروع الشرق الأوسط الجديد والفشل أيضاً في تحقيق أهداف «الفوضى الخلاقة» التي نشرتها في المنطقة.. وحيث أنه من الطبيعي أن يكون هناك من سيدفع ثمن هذا الفشل – ولكن ليس من الجيب الأميركي بالتأكيد لأنها لم تعتدْ على ذلك مطلقاً – فكان لا بدّ لحلفائها من العرب أن يدفعوا ثمن ذلك.. فكانت الساحة العراقية من أولى الأثمان التي دفعتها دول الخليج وخصوصاً السعودية منها.. وذلك بعدما كان المتوقع هو عكس ذلك.. من تاريخ غزو أميركا للعراق إلى حين خروجها المذلّ منه في نهاية العام 2011..
يُضاف إلى هذا الثمن الكبير أيضاً ثمناً آخر لا يقلّ أهميةً عن سابقه فبُعيْد الفشل الصهيوني والأميركي في تغيير خارطة الشرق الأوسط لمصلحتهما بُعيْد حربيهما الفاشلتين على لبنان في العام 2006 وعلى قطاع غزة في العام 2008-2009 وبما أنّ السياق هو ذاته كان لا بدّ لأحدٍ ما أيضاً أن يدفع الثمن.. فكما كانت دول الخليج تُخاصم بشراسة دول محور الممانعة والمقاومة في عهد بوش الابن وكانت تدفع ثمن هذا الخصام مادياً ومعنوياً.. وبعد ذاك الفشل الصهيو ـ أميركي عادت هذه الدول لتصالح هذا المحور في العهد الأول للرئيس الأميركي أوباما عندما أدار سياسة الانخراط والاحتواء البنّاء مع دول هذا المحور.. فعادت هذه الدول الخليجية مجدّداً لتدفع من رصيدها السياسي في محاباة للسياسة الأميركية الجديدة حينها وبعد أن أصيبت بهلعٍ كبير نتيجة التقارب السوري التركي الإيراني في حينه..!
لم تدم تلك السياسة الأميركية في الاحتواء البنّاء طويلاً وخصوصاً بعدما فشلت في تشتيت وبثّ الفرقة بين أطراف ودول محور الممانعة والمقاومة.. فارتدّت سريعاً إلى سياسة العصا الغليظة ولكن المُقنّعة هذه المرّة وذلك عندما ركبت موجات ما سُمّيَ بالربيع العربي التي اجتاحت المنطقة العربية.. فالتفّت تلك الدول الخليجية مجدداً مع تلك الاستدارة الأميركية في معاداتها وحربها على دول محور الممانعة والمقاومة!
اليوم وبعد حصول ما هو غير مُتوقع خليجياً أي بعد الصمود الأسطوري لمحور الممانعة ودوله وقواه في مواجهة الهجمة الشرسة التي تقودها أميركا ضده.. وخصوصاً في كلّ من سورية الدولة وإيران الثورة ولبنان المقاومة.. وبُعيْد وصول الأزمات في المنطقة إلى عنق الزجاجة حيث أنّ إيجاد الحلول لها ربما لا يكون إلاّ من خلال طريق من إثنين فإما أن يتمّ ذلك من خلال حرب كبرى تُطيح بالهيكل فيسقط فوق رؤوس الجميع.. وأولها على رؤوس الدول الخليجية وإما يتمّ ذلك عن طريق صفقاتٍ سياسية كبرى تُنجز بين الطبقات السياسية العليا في العالم.. حيث سيتوجّب حينها على دول الخليج دفع الثمن السياسي والمادي هذه المرّة أيضاً وأيضاً..! وكما جرت العادة على الدوام.
إذان في كلتا الحالتين لقد علقت وعُلِّقت دول الخليج بتموضعها السياسي ذاك بين خيارين أحلاهما مرّ يرتكز على الخسارة الحتمية في جنباته!
أميركا والتدليس العسكري
لقد فرض الواقع السياسي على دول الخليج انتهاج سياسة عسكرية تتناسب معه وبما أنّ هذه الدول قد بُنيَت اقتصاداتها لتكون اقتصاداتٍ مستهلِكة وليست منتجة على الإطلاق بالرغم من التخمة المالية التي أصابتها فلا تكاد هذه الدول تنتهي من إبرام صفقة شراء لمعدات عسكرية ضخمة جداً من أميركا حتى تبدأ من جديد ما يُسمّى بمراسم الاتفاق على شراء صفقات جديدة منها!
لقد ذكرت العديد من التقارير التي ترصد حركة شراء وبيع الأسلحة في العالم أنّ هذه البلدان الخليجية قد أبرمت في الماضي وتُبرم في الحاضر أضخم عقودٍ لشراء الأسلحة الباهضة الثمن في العالم والتي فاقت أرقامها العشرات من مليارات الدولارات في الفترة الأخيرة فقط وبشكلٍ تصاعدي دائماً!
لقد أنعشت تلك الصفقات الضخمة وبلا شك مصانع الأسلحة في أميركا مما جعلها تتفلّتُ من شبح الإفلاس الذي كان يطاردها بُعيْد وقبيْل الأزمات المالية والاقتصادية التي عصفت بأميركا وبالغرب عموماً.
لقد أوقعت هذه الدول نفسها ضحية سياسة أميركية خبيثة قائمة على تحريك الملفات الساخنة من حولها تارةً واستحداث ملفات وهميةٍ تارةً أخرى في حديث أميركا عن «مساعدة الدول للدفاع عن نفسها» فلقد دلّست أميركا مع الدول الخليجية منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية ثمّ حرب الكويت وبقاء صدام حسين في السلطة برضى ومباركة أميركية! وذلك بُعيْد إخراجه منها نتيجة حرب «عاصفة الصحراء» التي شُنت عليه ! وبُعيْد تحريكه أي صدام حسين بين الفينة والأخرى لبعض من قواته المنهارة أصلاً في حينها مع حدوده المشتركة مع كلّ من السعودية والكويت.. وصولاً إلى تلك البروباغندا الإعلامية التي رافقت قدراته العسكرية قبيل غزو أميركا للعراق في العام 2003.. وإلى حين خلعه من السلطة بعد أن استنفدت أميركا ردحاً طويلاً من الزمن في اللعب بورقته.. وحتى خلق أميركا فزاعة جديدة في أذهان دول الخليج لتحلّ محل فزاعة العراق وهي إيران وقدراتها النووية والعسكرية ومخاطر ذلك عليهم! وصولاً أيضاً إلى الزرع في أذهانهم مخاطر محدقةٍ بهم من جرّاء المدّ الإسلامي الذي بات يقرع أبواب دولهم في ما سُمّيَ بقطار الربيع العربي واستعداده لعبور جغرافيات بلادهم..!
كلّ ذلك وأكثر جعل السياسة العسكرية لهذه الدول تُصاب بنوعٍ من الهستيريا.. لتقبع وبلا أدنى رحمةٍ تحت نير الولايات المتحدة الأميركية.. التي لا تنفكّ تُخرج من خرجها الكثير الكثير من الأحداث التي تخدم استراتيجياتها وسياساتها العسكرية في المنطقة.
لا يتسع المقام هنا لعرض تدليسات أميركا مع آخرين فأين هي قطر وتركيا وحركة الإخوان المسلمين في مصر ومتفرّعاتها في المنطقة؟ وكلّ أولئك من إرهابيّي القاعدة وفروعها في أيام «الجهاد الأفغاني وحتى السوري» فضلاً عما يُسمّى اليوم بالمعارضة السورية بُعيْد التوافق الروسي ـ الأميركي الأخير بشأن الكيميائي السوري؟ سؤالٌ برسم المُدلَّس عليهم فهل من إجابة؟
باحث وكاتب سياسي
البناء

» إكسير الموت
» سلاح الموت في سوريا يفضح أميركا.. كيف يُنتهك القانون الدولي من أميركا وتوابعها؟
» أميركا خائفة من حزب الله
» السعودية ـ أميركا: غضب ووهن!
» قطر ــ أميركا... والإسلاميون ثالثهما