وفي محاولة تقييم تلك الأفكار، يجب علينا بداية تصنيف المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لمعرفة مدى انتفاء هذه المصالح أو استمرارها، من هنا يمكن أن نذكر أنه - تقليدياً - كان للولايات المتحدة الأميركية مصالح استراتيجية أساسية في منطقة الشرق الأوسط ككل، وهي تتلخص بما يلي:
أولاً: مصادر الطاقة، فمنذ دخولها إلى الساحة الدولية كقوة عظمى، أرادت أميركا أن تضمن تحكمها بتدفق الموارد النفطية، وأن يكون تصدير الطاقة إلى الأسواق العالمية تحت إشرافها، كما حرصت على عدم السماح لأي قوة إقليمية أوعالمية من التحكّم بهذا التدفق أو السيطرة على ممرات الطاقة ومنابعها.
وفي الحديث عن "الهجرة الأميركية" للمنطقة، يشير هؤلاء إلى ما تمّ اكتشافه والحديث عنه بقوة في الآونة الأخيرة، وهو اعتماد تقنية التكسير الهيدروليكي للطاقة في الولايات المتحدة الأميركية، والذي سيسمح لها - بحسب "وكالة الطاقة الدولية" - بأن تصبح أكبر منتج للنفط في العالم بحلول العام 2020، متجاوزة بذلك السعودية وروسيا، وفي هذا المجال يتحدث بعض خبراء الطاقة المتفائلين عن عصر "نهضة الطاقة الأميركية"، التي ستسمح لها بأن تعود كأهم قوة اقتصادية عالمياً بفضل هذه النهضة.
ثانياً: أمن "إسرائيل" التي التزمت الولايات المتحدة منذ زمن الدفاع عنها ودعمها سياسياً وعسكرياً ومادياً، وفي هذا أيضاً يعتبر هؤلاء أن السعي الحثيث لجون كيري لاستئناف المفاوضات بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" هو محاولة جدية لدفع عملية السلام قدماً، وتمهيداً لانسحاب تدريجي من الالتزامات تجاه "إسرائيل" بإظهارها قادرة على الدفاع عن نفسها، وهو ما قد يكون الأميركيون قد سعوا إليه من خلال تسريب خبر الغارة "الإسرائيلية" على اللاذقية في منتصف تموز الحالي.
ثالثاً: الإرهاب الذي لطالما اعتبرت الولايات المتحدة أنه يشكّل خطراً على أمنها القومي، ويعتبر مؤيدو فكرة "الهجرة الأميركية" أن الولايات المتحدة لا تكترث لغرق المنطقة بفوضى أصولية تكفيرية عارمة، ما دامت تقوّض البلدان التي لا تدخل في فلكها، ولا تؤثر تأثيراً مباشراً على "إسرائيل"، ويؤكد هذا الأمر أن الولايات المتحدة لا تجد حرجاً في دعم بعض المجموعات الأصولية في سورية، باعتبارها قادرة على التحكم بمسار عملها وتحركها.
بعد تفنيد هذه الأقوال، نعود إلى السؤال المركزي: فعلياً، هل يمكن لأميركا أن تتخلى عن المنطقة وتهجرها؟
لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية، ومهما كانت الأسباب، أن "تتخلى" عن المنطقة بهذه السهولة، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: في موضوع استخراج النفط الأميركي، وعلى الرغم من الأخبار المتفائلة حول تحوّل أميركا تدريجياً من دولة تعتمد على النفط الخارجي إلى دولة مكتفية ذاتياً، إلى مصدّرة للنفط خلال العقدين القادمين، فإن الخبراء يشيرون إلى أن ارتفاع كلفة استخراج هذا النفط قد لا تسمح بهذا التفاؤل المفرط.
ثانياً: بالنظر إلى حجم ونفوذ اللوبي اليهودي في أميركا، لا يمكن للأميركيين التخلي عن هدف حماية أمن "إسرائيل" ودعمها.
ثالثاً: طبيعة التهديدات الإرهابية المتنقلة وغير المتوقعة لا تسمح للأميركيين بالتخلي عن سياسة مكافحة الإرهاب وذلك لأسباب داخلية وخارجية عدّة، لذا، إن مكافحة الإرهاب تفترض استمرار الدعم السياسي والعسكري الأميركي للعديد من الدول في العالمين العربي والإسلامي، بالإضافة إلى استمرار التعاون الاستخباري والأمني مع القوى الأمنية والعسكرية في تلك الدول.
رابعاً: والأهم، أن الفراغ الاستراتيجي الذي سيتركه الأميركيون في المنطقة، سيغري حتماً قوى دولية وإقليمية لملء هذا الفراغ، ولعل أكثر دولتين مرشحتين لهذا هما روسيا وإيران.
من هنا، ستجد الولايات المتحدة صعوبة بالغة في الحدّ بشكل ملحوظ من انخراطها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، وتجاهل تعاظم الدور الروسي في المنطقة، خصوصاً بعد الأزمة السورية، لذا، حتى لو أراد الأميركيون أن يهجروا المنطقة، كما يعتقد البعض، فإنهم لن يسمحوا للروس بالسيطرة عليها بسهولة، مما يؤمن لهم قوة اقتصادية واستراتيجية هائلة، تسمح لهم بمنافسة الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الاقصى، حيث يقوم الأميركيون بمحاولة احتواء للنفوذ الصيني فيها، وقد تكون المناورات التي أقامها الروس في تلك المنطقة - والتي وصفت بأنها مناورات منقطعة النظير، لم تر روسيا مثلها من قبل - مؤشراً على أن سباق النفوذ بين الاثنين لن يقتصر فقط على مناطق الشرق الأوسط والبلقان أو أوروبا الشرقية، بل سيتعداه إلى المكان الذي تتطلع أميركا لفرض نفسها قوة كبرى فيها وهي منطقة المحيط الهادئ.