في زيارة سريعة، ولكنها بالغة الدلالة، إلى القاهرة، حسم الملك عبدالله الثاني نقاشا داخليا شهدته أوساط النخب السياسية الأردنية، ويدور حول السؤال التالي: هل نستفيد من هزيمة الإخوان المسلمين في مصر، لاستيعاب إخوان الأردن الذين يعانون الانكماش،
و«حماس» التي تعاني العزلة، أم نواصل المواجهة مع الإسلام السياسي، بتياراته المختلفة، حتى النهاية. الزيارة التي اعتبرها البعض في عمّان «مغامرة «، عنت أن الحوار الداخلي حُسم لمصلحة خيار المواجهة، لا على صعيد الداخل فقط، وإنما على الصعيد الإقليمي؛ خيار يفتح الباب أمام أطروحة تتعلق بالمصالحة بين الرياض ودمشق، وإعادة إعمار «النظام العربي» بما يتجاوز هزات «الربيع الإخواني».
يخوض الجيش المصري، في سيناء، الحرب نفسها التي يخوضها الجيش السوري في ريف دمشق وسواها من المحافظات السورية، وضد العدو نفسه، أي الجماعات التكفيرية الإرهابية التي تحظى بالغطاء السياسي من المصدر نفسه، أي جماعة الإخوان المسلمين. سيناء بعيدة عن القاهرة، لكن عوامل انتقال حرب الشوارع مع الإرهابيين، إليها وإلى سائر الأراضي المصرية، متوفرة بصورة مقلقة؛ فالمعارضة الإخوانية ــ وحلفاؤها من جماعات الإسلام السياسي ــ مصممة على شق صفوف المجتمع المصري، وعلى عدم الاعتراف بشرعية السلطات.
وهي تصعّد خطابها المعادي للقوات المسلحة، وتشحن جمهورها بالغضب الديني المقدس إزاء «الكفرة» الذين أطاحوا حكم «الخليفة». وهذه السيكولوجيا الجمعيّة التي وصلت حد تكفير الخصوم السياسيين، هي مهاد خصب لامتشاق السلاح. والسلاح متوافر من المخازن الليبية، كذلك، تتوافر كوادر تنظيم القتال، سواء من إرهابيي الجماعات الإسلامية السابقين أو من التنظيم الخاص في الإخوان المسلمين أو من الجماعات الإرهابية التي بدأت العمل فعلا.
فرصة وضع حدّ لهذا السيناريو المرعب، ليس أمامها وقت طويل، ربما بضعة أشهر لا غير. وهذه الفرصة ليست موجودة في مصر، بل في سوريا. وهذا ما يدركه الجيش والنظام الجديد في مصر، جيدا جدا. ويشكّل هذا الإدراك، الأساس في السياسة المصرية التي انتقلت إلى الرفض الصريح للحل العسكري للأزمة السورية. وربما تنتقل، عما قليل، إلى السعي إلى القيام بدور فاعل لإنهاء الظاهرة الإرهابية في سوريا.
عمّان ــ التي توصلت إلى قناعة أكثر رسوخا بضرورة إنهاء الحرب السورية ــ تأمل في تطور سريع للموقف المصري للعمل في هذا الاتجاه؛ أولا، لخفض الضغوط السعودية عليها بشأن توريد السلاح إلى الجماعات المسلحة السورية، وثانيا، لتكوين ضغوط معاكسة لإقناع الرياض باتباع سياسة جديدة نحو السلام في سوريا.
وفي الواقع، يبدو إصرار السعوديين، اليوم، على خوض الحرب حتى النهاية ضد الرئيس بشار الأسد، بلا أفق سياسي؛ فمن غير المنطقي أن تدعم السعودية الجيش المصري ضد الإخوان والإرهابيين، وتقوم، في الوقت نفسه، بعمل معاكس في سوريا، خصوصا أن سيناريو إعادة تكوين «جيش سوري حر» يحظى بالاستقلالية عن، والتفوّق على الفصائل الإخوانية والتكفيرية والإرهابية، يظهر، في الممارسة، أنه سيناريو خيالي؛ فالعديد من شحنات الأسلحة السعودية التي جرى توريدها بالفعل، وقع في أيدي المتطرفين، وأحيانا في أيدي الأمن السوري. لكن النقاش مع السعوديين يذهب إلى أبعد من ذلك؛ فحتى إذا نجح السيناريو الخيالي ذاك، فإن المرشحين لحصد ثماره السياسية، هم أولئك أنفسهم الذين تدعم السعودية إسقاطهم في مصر.
لن يمر وقت طويل قبل أن يدرك السعوديون أن وراثة الدور القَطري ــ التركي في سوريا، تتطلب معاكسته، سياسيا، وليس السير على خطاه؛ فإسقاط النظام السوري بالقوّة، كان، بالنسبة للدوحة وأنقرة، جزءا من مشروع إقليمي لتمكين الإسلام السياسي ــ وعماده الإخوان المسلمون ــ من السيطرة على الحكم في البلدان العربية ــ باستثناء الخليجية ــ، وكان هذا المشروع ــ الذي حظي بمباركة غربية وإسرائيلية ــ مرشحا للنجاح لولا اصطدامه الغبي بالصخرة السورية، وحتى إصراره اللاعقلاني على إحداث انقلاب مذهبي في العراق، وديموغرافي سياسي في الأردن، كانا سيكونان طموحين قابلين للمحاولة، لولا التورّط في سوريا.
هذا المشروع انتهى في 30 يونيو، لكن مفاعيله الارتكاسية أسوأ، وستظل ماثلة وتهدد المنطقة بسلسلة من الحروب الأهلية المدمّرة التي لن تتوقف عند حدود السعودية والبلدان الخليجية، بل ستطاول الشواطئ الأوروبية للمتوسط، أيضا.
بالمقابل، تتبلور، منذ 30 يونيو، أطروحة أردنية، تنتظر أن تتبناها مصر لكي يكون لها وزن، تتمحور حول إمكانية «إعادة إعمار» النظام العربي من خلال مصالحة سعودية ــ سورية، وسعودية ــ عراقية، تسمح ليس فقط باستعادة ثلاثيّ ذلك النظام، أي الرياض والقاهرة ودمشق، وإنما توسيعه إلى سداسيّ يشمل الأردن والعراق والإمارات، ويستطيع، بالتالي، التحكّم بالإيقاع السياسي في العالم العربي الذي ترى الأطروحة أن شعوبه سترحّب بمرحلة من الاستقرار، بعد هزات «الربيع العربي»، مما يولّد الفرصة لمجابهة ناجحة مع الإسلام السياسي، الإخواني والإرهابي معا. وشرط قبول القاهرة لهذه الاطروحة يعتبر حيويا لتبلورها على أرض الواقع نظراً لثقل مصر الذاتي والجيوسياسي.
هناك ثلاثة عوامل تدعم هذه الأطروحة، وثلاثة تعرقلها: ما يدعمها (1) أن السياسة الأميركية معوّمة إزاء النهج الأفضل لها في المنطقة العربية، مما يجعل القرار، في الواقع، إقليميا. (2) وأن هذه الأطروحة تتوافق مع روح وآفاق التفاهمات الأميركية ــ الروسية، القائمة والممكنة، (3) أن فرصة التصعيد العسكري والسياسي ضد النظام السوري، قد تلاشت واقعيا. وما يعرقلها (1) أن المصالحة مع سوريا تعزز الموقع الإيراني في المنطقة. وهو ما يصطدم بأولوية العداء السعودي الخليجي للإيرانيين، والذي تحفزه الضغوط الإسرائيلية على الأميركيين، وبالتالي على السعوديين. (2) وأن المجابهة الشاملة مع قوى الإسلام السياسي التكفيرية الإرهابية، ستقود إلى مواجهات في الداخل السعودي ــ المصدر الأكبر للفكر والممارسة التكفيرية في العالم ــ ويُفقد السعوديين أحد أهم أسلحتهم في السياسة الخارجية، (3) وأنه لا يمكن ــ بالنسبة للمسؤولين السعوديين ــ تجاهل البعد الشخصي المتمثل في حجم العداء المتراكم ضد الرئيس بشار الأسد.
يردّ أصحاب الأطروحة بالقول إن (1) سوريا الخارجة من حرب طاحنة، ستكون مشغولة بإعادة الإعمار وتضميد جراحها، ما يجمّد دورها الإقليمي بين خمسة وعشرة أعوام. وهو ما سيفرض إيقاعه الواقعي على الإيرانيين وعلى حزب الله معا، ويؤدي إلى تراجع مشاريع المواجهة مع إسرائيل والمقاومة في الجولان الخ. وما سيترك آثاره على لبنان من خلال امكانية واقعية للمصالحة الداخلية، خصوصا أنه سيرافق إعادة الإعمار مشروع ضخم لاستثمار الغاز في الشواطئ السورية ــ اللبنانية، سيفرض، بحد ذاته، هدنة إجبارية في المنطقة. (2) وأن إعادة إعمار النظام العربي لم تعد ممكنة من دون تغييرات داخلية في السعودية لجهة تحجيم الأصولية والتطرف الديني الخ. وإجراء مصالحات داخلية وترتيبات سلمية مع حوثيي اليمن والبحرين. (3) وأن تجسير الفجوة الشخصية بين الأسد وحكام السعودية، يظل ضرورياً ــ وممكناً ــ لأنه ليس في الأفق إمكانية واقعية للتخلّص من الرئيس المتوقع، حتى بالنسبة لرئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، أن يستمر في الحكم طويلا.
هواجس أمنية وضبط حدود
عزز 30 يونيو، واقعيا، قدرة الأردن على التعاطي المرن مع الضغوط السعودية، لتوريد السلاح إلى الجماعات المسلحة إلى سوريا؛ فالآمال الموضوعية التي تعلقها عمان على استعادة الاستظلال التقليدي بـ«الشقيقة الكبرى»، لتمنحها فرصا أكبر للمناورة لتجنّب المزيد من تورّط لا تريده في سوريا، وتعتبره ضارا بالمصالح الأردنية. يمرّر الأردنيون أقل ما يمكن من شحنات السلاح السعودية عبر حدودهم مع الجيران السوريين، ويتشددون أكثر حيال حركة المسلحين، مما حدا برئيس «الائتلاف» المعارض الجديد، أحمد الجربا، على تقديم شكوى للمسؤولين السعوديين حول الدور الأردني السلبي في عملية تسليح «الجيش الحر».
للأردنيين هواجس أمنية تنبع من عدم اليقين إزاء وجهة السلاح الأخيرة، خصوصا أن المعطيات الأمنية المتوافرة لديهم عن الجماعات السورية المسلحة، غير مشجعة، لجهة تشتتها التنظيمي وتداخلها الميداني وسيطرة التكفيريين الارهابيين على حركتها العامة. هناك، أيضا، الإدراك السياسي المتبلور في عمان حول عدم جدوى القتال في سوريا وافتقاره إلى رؤية استراتيجية قابلة للتحقق أو حتى منسجمة مع المصالح الأردنية والعربية. ورغم أن إدارة العمليات في سوريا، قد أنيطت، مؤخرا، بغرفة عمليات ثلاثية (سعودية ــ إماراتية ــ أردنية) مركزها عمان، فإن عيون الأردنيين تتجه صوب العاصمة المصرية، لبلورة مقاربة جديدة إزاء سوريا. مصادر أردنية وثيقة الاطلاع كشفت، الأسبوع الماضي، عن وقوع مجموعة مسلحة سورية بين نيران الجيشين الأردني والسوري.
وقد لا تكون هذه الكماشة، تعبيرا عن سياسة، ولكنها، بالتأكيد، تعبير عن مناخ عام من إدراك وصول التمرد السوري إلى جدار مسدود.
الاخبار