أكثر من أي وقت مضى، يظلل الهاجس الكردي سماء تركيا. منذ نشأته في السبعينيات وتحوله إلى حركة مسلحة بقيادة عبدالله اوجلان، شكّل حزب العمال الكردستاني، بهدفه المتمثل إنشاء دولة كردستان المستقلة، احدى المشاكل الأساسية التي تواجه أنقرة.
حتى الآن، لا زال الداخل التركي يعيش تبعات الصراع الكردي-التركي الطويل القائم على الهدوء تارة والحرب تارة أخرى، لكن يبدو أن هذا الصراع الذي أضفى عليه الزمن طابعاً روتينياً بدأ يتخذ بعداً جديداً مع تطور الأحداث المشتعلة في البلد المجاور لتركيا جنوباً: سورية.
استيقاظ الذاكرة منذ بداية الأزمة السورية في 15 آذار مارس 2011، لم تقف تركيا على الحياد مما يجري، بل إن مواقفها وتصريحات كبار مسؤوليها وعلى رأسهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، اتخذت طابعاً حاداً يقوم على تدخل مباشر بالأحداث. الموقف التركي تجاه الأزمة لم يقف عند حدود المطالبة بتنحي الرئيس السوري بشار الأسد بل تخطاه إلى دعم عسكري للجماعات المسلحة التي تقاتل النظام وجعل اسطنبول حاضنة لمؤتمرات المعارضة السورية. شكّل ذلك تحوّلاً ملحوظاً في العلاقات السورية-التركية التي سبق أن اتخذت طابعاً ايجابياً يقوم على التعاون الأمني والسياسي والإقتصادي تحديداً منذ زيارة الرئيس بشار الأسد تركيا عام 2004 والتي كانت الأولى من نوعها عقب أزمة كان وقودها حزب العمال الكردستاني.
فقد حمل عام 1998 أزمة بين دمشق وأنقرة بلغت ذروتها مع تهديد القادة الأتراك باجتياح الأراضي السورية بحجة وقف هجمات حزب العمال الكردستاني وايواء سورية قائد الحزب عبدالله اوجلان. لكن خروج اوجلان من سورية وتهديد ليبيا بإغلاق الشركات التركية على أراضيها كان كفيلاً بالحؤول دون تطور الأزمة.
حالياً، تستعيد الذاكرة تلك الأزمة بعد ظهور أزمة من نوع آخر بين الجانبين بدأت بمساهمة تركيا مباشرة بالإخلال بالأمن السوري من خلال دعم الجماعات المسلحة، فهل تنتهي بتدخل تركي مباشر بعد ما قيل عن سيطرة حزب العمال على المنطقة الكردية السورية شمالاً بضوء أخضر من النظام لإزعاج تركيا وإحراجها؟
أكراد سورية: الورقة التي تذبح الأتراك.. ولكن يطرح تهديد أردوغان مؤخراً بالتدخل في حال تحويل شمال شرق سورية إلى نقطة انطلاق لعناصر حزب العمال ضد بلاده السؤال التالي: هل بدأت تركيا بدفع ثمن كونها طرفاً خارجياً أساسياً في الأزمة السورية؟ وهل بدأ النظام باستخدام أوراق القوة التي يمتلكها لتوجيه رسالة إلى تركيا، كجزء من سياسة جديدة قرر المضي بها عقب تفجير مبنى الأمن القومي والتي بدأت بالحسم العسكري في دمشق وبعدها في حلب؟
لكن الجدير ذكره، هو أن الواقع الكردي يتسم بكثير من التعقيد، ويحمل كماً من التناقضات في ما يخص الموقف من الأحداث السورية خصوصاً بين أكراد العراق وأكراد سورية. في التفاصيل، فإن تركيا تحاول التعاون مع أكراد العراق، بالرغم من المعارك الدائرة بينهما، من أجل السيطرة على سلوك أكراد سورية ومنع توقيع أي اتفاق ضمني بينهم وبين الدولة السورية وجعل الشمال السوري منطقة نفوذ لحزب العمال. وقد برز ذلك في كلام أردوغان الذي أعلن، في حديث لإحدى المحطات التلفزيونية، إرسال وزير الخارجية أحمد داود اوغلو إلى شمال العراق لبحث آخر التطورات في المنطقة الكردية السورية.
ويقوم هذا التعاون المستجد على الموقف المشترك بين الطرفين تجاه الأزمة السورية، بحيث أن أكراد العراق يميلون باتجاه دعم ما يسمى المعارضة السورية من خلال تدريب أكراد سوريين في مخيمات اقليم كردستان، بحسب ما أعلن هيمن هورامي، مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني.
في المقابل، يسير أكراد سورية في طريق مختلف أقرب منه إلى الحياد، بحيث صرّح رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية صالح مسلم أن التدريبات التي تلقاها الأكراد في كردستان العراق هي بهدف الحماية متحفظاً على فكرة السماح لهم بدخول سورية مجدداً.
يوضح الخبير في الشؤون التركية محمد نورالدين أن "انتقال أولويات الإهتمام السوري إلى مناطق معينة كدمشق وحلب، أحدث ما يمكن أن يسمى مناطق فراغ كشمال سورية التي تعيش فيها غالبية كردية. ونظراً لأن حزب العمال الكردستاني وفرعه حزب الإتحاد الديمقراطي يحظون بالتأييد الأكبر وسط المجموعة الكردية، فمن الطبيعي أن يكونوا هم المسيطرين على تلك المنطقة".
ويرجّح نورالدين، في اتصال مع موقع المنار، استخدام النظام للورقة الكردية كجزء من معركته ضد المعارضة ومن يدعمها، قائلاً إنه "وسط الفوضى والإضطراب الذي تشهده سورية وتكاتف قوى اقليمية ودولية في محاولة لإسقاط النظام في سورية من خلال تنظيم المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وفي مقدمة هذه الدول تركيا، يمكن أن نجد أن كل الأمور أو المحظورات أصبحت مباحة وكل طرف يسعى لتجميع أكبر قدر من أوراق القوة، وفي هذا الإطار، من الطبيعي أن يكون هناك توافق وتفاهم ضمني بين دمشق وحزب العمال الكردستاني وإن كان ذلك لا ينطلق من ثوابت مشتركة بين الطرفين بقدر ما تقتضي مصلحة كل منهما القيام بمثل هذا العمل".
كما يرى نورالدين أنه من الممكن أن ينخرط أكراد العراق في هذا الإتفاق، على خلاف ما يظهر حتى الآن من اختلاف بينهم وبين أكراد سورية، مفسراً ذلك بأنه في حال "منح الأكراد في شمال سورية حقوقهم الثقافية واللغوية، وصولاً إلى الحكم الذاتي كما هم بدأوا يطالبون على لسان رئيس حزب الإتحاد الديمقراطي صالح مسلم، وهذه المطالب لا تقتصر على اكراد سورية وحدهم، بمعنى أنه إذا كان يمكن أن يكون هناك تفاهم ضمني مع النظام يعطي الأكراد هذه الإمتيازات، فأعتقد أن أكراد شمال العراق وفي مقدمتهم مسعود البرزاني ليسوا بعيدين عن دعم هذا الواقع الكردي الجديد في شمال سورية".
ويشرح الخبير في الشؤون التركية تبعات هكذا اتفاق على أنقرة، قائلاً إن "دعم أكراد العراق لأكراد سورية، وايضاً الدعم الكردي التركي لأكراد سورية سيشكل بلا شك ضربة كبيرة لمحاولات تركيا التخلص من مشكلتها الكردية في الداخل ومن أكراد حزب العمال الكردستاني في العراق، إذ سيمتد الطوق الكردي من شمال العراق إلى شمال سورية وهذا بالتأكيد ستكون له آثار على الداخل التركي وإن في مراحل لاحقة. هذا الوضع الكردي المستجد في شمال سورية هو من أكثر النتائج سلبية لما تشهده سورية على واقع تركيا ودور تركيا في المنطقة".
تكلفة الصراع: بحيرة من الدم وفي معرض حديثه، يطرح نورالدين الأسئلة التالية: "إذا تشكلت هذه البنية في شمال سورية، هل ستتدخل تركيا فعلاً؟ وإذا تدخلت تركيا في شمال سورية عسكرياً، ماذا بعد هذا التدخل؟"، مجيباً أن "هذا الأمر ليس سهلاً، أي يمكن أن تقوم تركيا بما تقوم به في شمال العراق(تقصف بالطائرات من وقت لآخر وتدخل أحياناً في عمليات نوعية معينة)، لكن في شمال سورية أعتقد أن هذا دونه عقبات كثيرة، منها معارضة الرأي العام الداخلي في تركيا، إضافة إلى وحدة الصف الكردي حيث أن رئيس حزب الإتحاد الديمقراطي صالح مسلم هو أحد أعضاء المجلس الوطني الكردي الذي أسسه محيي الدين الشيخلي في اربيل منذ مدة برعاية مسعود البرزاني الذي حذر من أن تركيا إذا دخلت إلى شمال سورية ستتحول المنطقة إلى بحيرة من الدم".
ويختم الخبير في الشؤون التركية "لم يكن في ذهن الأتراك يوماً أن فوضى قد تنشأ في سورية وينتج عن هذه الفوضى كيان كردي في شمال سورية سواء كان دولة مستقلة أو فيدرالية أو حكم ذاتي، لذلك إمكانية تحقق نشوء هذا الأمر الآن شكل مفاجأة وصدمة للأتراك، بحيث أن وزير الخارجية التركي يحاول ليل نهار أن يطمئن الرأي العام التركي ويظهر أن سياسة حكومته تجاه سورية لم تكن خاطئة".
المنار