إنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير، تذكّر بإنهاء ظواهر سياسية - عسكرية عدة عرفها لبنان في زمنه الحديث. كل تلك الظواهر، لم تنته إلا بضوء أخضر سبقته تسويات.
قد يكون من السذاجة التفكير اليوم بأن الأسير حالة معزولة عن المحيط، وفي هذا المحيط، ثمة قرار دولي قد اتخذ بتطويق التطرف السلفي الجهادي، وربما ايضا تخفيض طموحات التيار الإسلامي عامة.
لنختصر ما حصل في الشهرين الماضيين:
تدهور الوضع في تركيا، فانهارت صورة رجب طيب أردوغان ومهندس سياسته الخارجية أحمد داوود اوغلو. مهندس «صفر مشاكل» صار منظّر كل المشاكل. انكسر الحاجز النفسي بين الأتراك ورئيس وزرائهم ووزير خارجيتهم. تحول أردوغان من «الباب العالي» الى شبه «الرجل المريض». قد تتحسن صحته ولكن التظاهرات مرشحة للتجدد عند أول مشكلة. الجيش المقموع حاليا مرشح للغضب اذا ما مرر «حزب العدالة والتنمية» مشروع قرار تعديل دور المؤسسة العسكرية وحصرها بحماية الحدود. فكيف اذا ما انهار الاتفاق مع «حزب العمال الكردستاني» لاحقا؟ في جميع الأحوال، ما عاد رئيس الوزراء التركي قادرا على المغامرة بالملف السوري. بات «حزب العدالة»، أي حزب «الاخوان المسلمين» التركي، في وضع المدافع عن نفسه لا المهاجم ولا المنتشر والمنتشي في المحيط.
تدهور الوضع في مصر، فانزلقت البلاد نحو حرب التظاهرات. تقهقرت صورة «الإخوان المسلمين» والرئيس محمد مرسي. زاد في التدهور خطاب مرسي الذي أعلن فيه القطيعة مع سوريا. المصريون حساسون جدا حيال العلاقة مع سوريا. عبّر الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل عن هذه الخطيئة فوجه لوماً قاسياً لمرسي، معتبراً أنه لا يحق له التصرف بالعلاقة مع دمشق. قيل إن مرسي هاجم سوريا لجذب السلفيين الى جانب «إخوانه». الجيش ينتظر، ولكن قد لا ينتظر كثيرا.
حصلت عملية توريث «سلمية» وهادئة في قطر. قد لا يكون التغيير مهماً بالمعنى الديموقراطي، ذلك ان الأمير ورّث السلطة لابنه وليس لأي شخص آخر. ولكن الأهم هو إبعاد رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم عن السلطة.
صحيح أن الأمير السابق قال لمقربين منه إنه أبعد رئيس وزرائه لكي «لا يأكل» الأمير تميم، لكن الصحيح أيضا ان إبعاد رجل بوزن الشيخ حمد ليس بالأمر السهل. بعده لن تكون قطر قادرة على السير بالمغامرات نفسها في سوريا ومالي وافريقيا وليبيا ولا حتى مصر.
حصل التغيير بسبب الوضع الصحي للأمير حمد، ولكنه حصل ايضا في ظل ارتفاع الضغط العالمي ضد الإرهاب والتطرف. تم اتهام قطر بدعم متطرفين في مالي وسوريا وليبيا وربما دول اخرى. بدأت عملية تشويه صورة قطر في كتب ومقالات عدة صدرت في أوروبا وأميركا. كان لا بد للتغيير أن يحصل. فليكن اذاً بسبب صحة الأمير، وماذا يمنع أن يتكرر السيناريو القطري في البحرين؟
[ دخلت السعودية على خط مصر بقوة. واجهت التغلغل القطري المستند الى «الإخوان المسلمين». شن الإعلام السعودي هجوماً كاسحاً على مرسي و«الإخوان» ولم ينتقد كثيرا الحركة السلفية. مصر مهمة للسعودية. سبق الهجوم السعودي هجوم أقسى وأوضح من قائد عام شرطة دبي الفريق ضاحي الخلفان على «الإخوان» واعتقالات لمصريين متهمين بالانتماء الى هذا التيار الإسلامي والإعداد لعمليات ضد الإمارات. في الخليج، ثمة نبرة تعلو كثيرا ضد «الإخوان»، وفي الخليج، ثمة من يعمل لإسقاطهم لأنهم باتوا خطراً في دولهم. الكويت مثال صارخ.
[ حصلت انتخابات إيران. خرج من الصناديق اسم الشيخ حسن روحاني. رئيس يجمع في شخصه قدرة الحفاظ على الخط الاستراتيجي الجامع بين الانفتاح والحزم (وهذا ما أكده في خطابه الأخير)، وعلى مخاطبة الغرب وربما تعزيز فكرة التفاوض المثمر معه من مبدأ الند للند. ليس بالصدفة أن يحمل خطابه الاول بذور الانفراج مع الخليج، وليس بالصدفة مطلقا أن يكون وزير خارجية ايران علي أكبر صالحي في طليعة القادمين الى قطر لتهنئة الأمير تميم بتوليه السلطة. كان الملف السوري حاضرا بقوة في زيارة التهنئة. وثمة معلومات عن مناخ إيجابي.
[ حصل رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي (القريب من ايران وسوريا) على هدية دولية ممتازة عبر رفع العراق من قيود البند السابع في مجلس الأمن. أليس غريبا أن يُمنح المالكي ذلك وهو الذي كان حتى الأمس القريب متهماً بدعم السلطة السورية وتنفيذ «أجندة» ايرانية؟
[ تكثفت حملة الاعتقالات في أوروبا ضد متطرفين بتهمتي الإرهاب وإرسال متطرفين الى سوريا، وهذه هي النقطة اللافتة للانتباه. في المعلومات أن جزءاً من هذه الاعتقالات تم في أعقاب تسلم الأوروبيين والأميركيين لوائح من سوريا عبر الروس أو عبر مسؤولين أمنيين من لبنان والاردن والعراق تؤكد أن من يقاتل في سوريا قاتل أو سيقاتل على الاراضي الغربية. حصل تنسيق دقيق، وربما أكثر من دقيق بين أجهزة سورية وأوروبية في الفترة الأخيرة وفي مقارّ الأمن السوري في دمشق نفسها.
[ لم يهتز العالم لسقوط القصير برغم أن ثمة من أسماها «قصيرغراد» تيمناً بستالينغراد ولينينغراد في الحرب العالمية الثانية. تماما كما حصل قبل ذلك مع بابا عمرو وحماه وغيرهما. تسقط المدن والقرى واحدة تلو اخرى، بعضها علانية وبعضها الآخر دون ضجة كما يحصل حاليا في الريف الدمشقي وفي ريف حلب. يكتفي العالم بالوعود والقول للمعارضة: «سنسلحكم لكي نقيم توازنا على الأرض مع النظام». ماذا يعني مثل هذا الكلام الساذج؟ يعني ببساطة حفظ ماء وجه المعارضة (المعارضات) والمسلحين في مؤتمر جنيف المقبل لكي لا يأتي موفدو الرئيس بشار الأسد من موقع القوة.
[ سبق ذلك بفترة ما وصفت بـ«مجزرة الاستخبارات»، مع اغتيال اللواء وسام الحسن ووفاة أو تغيير عدد من قادة الاستخبارات من مصر الى تركيا فالأردن والسعودية. قيل ان الامر لم يكن بالصدفة وانما تزامن مع بداية جس النبض الاميركي الروسي.
[ عزز ملك الاردن عبدالله الثاني موقعه على حساب الإسلاميين عنده. جاء العالم بأسره ينفذ على أرض الأردن مناورات «الأسد المتأهب». على الأرجح أن هذا «الأسد الدولي» سيبقى متأهبا في الاردن، ولن يواجه «الأسد الآخر» في الجوار، لان الروس رفعوا منسوب التهديد الى حد القول للأطلسي «ان اقتربت طائرة اطلسية الى الاجواء السورية فسيتم إسقاطها بصاروخ روسي الصنع».
في هذه الأجواء بالضبط، تم إنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير. لعل التطرف والجهاد والارهاب كانت أمورا مطلوبة لإسقاط النظام السوري. تبين أن الجيش السوري لا يزال عصيا وحاميا للسلطة. وبعد أن صار الإرهاب منتشرا من سيناء المصرية الى حدود الجولان الى الاردن والعراق ولبنان وسوريا، صار لا بد من تغيير المعادلة. في أحوال كهذه، يجب أن يبقى الجيشان السوري والمصري قويين. لا بأس من الانفتاح على ايران، ولا ضير بإعادة النظر بتجربة «الإخوان» في المنطقة.
قال محمد حسنين هيكل مرة لزواره «إما يمر مشروع التقسيم في سوريا فينهي المنطقة، أو ينهار في سوريا فتتغير المعادلة». يبدو ان المعادلة قد بدأت تتغير. لم يعد البحث حاليا في كيفية إسقاط الأسد، وانما في كيفية تجميل الوضع بحيث لا يبدو المنتصر منتصرا كبيرا ولا المهزوم مهزوما كثيرا. هذا جوهر «جنيف 2» ان حصل.
القطار الاميركي الروسي يسير باتجاهه الصحيح برغم المطبات. الطريق لا شك طويلة ودماء كثيرة مطلوبة بعد في سوريا وغيرها، والفتنة المذهبية هدية ممتازة لأعداء العرب. لكن التطرف بات أخطر من أن يمكن تحمل استمراره. هذا محور الاتفاق الحالي بين فلاديمير بوتين وباراك أوباما ومعهما بعض أوروبا غير القلقة من أن يتركها القطار الروسي الاميركي على قارعة الطريق.
السفير