لقد فشل المشروع الأميركي لتدمير سورية وصناعة الشرق الأوسط الجديد، فبدأت أميركا بتأديب أدواتها التي فشلت في تنفيذ تعهدادتها بإسقاط النظام في سورية،
وتفكيك الدولة السورية كما فعلوا في ليبيا وتونس ومصر. ولأن أميركا لا تتعامل مع حلفاء بل مع أدوات، ولا تتحمل الخسارة، فبدأت بعقاب هؤلاء، وبأضعفهم، وهي قطر، حيث سيتم
استبدال “الحمدَيْن” بالأمير الصغير، ما يشابه الانقلاب الأبيض الذي نفذته أميركا عبر الأمير حمد ضد أبيه، وهو الآن يتجرّع الكأس المرة بانقلاب ولده عليه، في مسرحية ظاهرها التنازل، ومضمونها تنفيذ الأوامر الأميركية ثمناً للفشل في سورية، ولم يُسعفه كل الجهد الذي بذله والمال الذي أنفقه والنجاحات في بلاد ما يسمى “الربيع العربي”، ونجاحه الباهر في شراء قرار “حماس” الخارج.
من يتعامل مع أميركا عليه أن يعرف لعبة القمار السياسي، وأن أميركا ستتركه على قارعة الطريق إذا تهددت مصالحها، أو وجدت خادماً أفضل منه، ومع النفي السياسي “للحمديْن”، سيتم فرط “ائتلاف الدوحة” السوري، وإعادة تشكيل هيئة معارضة جديدة تواكب مرحلة التقهقر الميداني والسياسي لأميركا وحلفائها على الأرض، لكي تستطيع أميركا سوقهم إلى “جنيف” لإجراء المفاوضات التي ستقبل بها أميركا وفق منهجية تحديد الخسائر، لأن إطالة المعركة في سورية سيهدد المصالح الأميركية و”الإسرائيلية” بشكل جدي.
إن العقاب الأميركي لتركيا والثنائي أردوغان – غول سيؤدي إلى نفس النتيجة بالعزل كما حصل مع الثنائي حمد بن خليفة – وبن جاسم، لكن وفق النظام السياسي لكل بلد، ففي قطر وفق نظام الوراثة وولاية العهد، وفي تركيا عبر الحراك الديمقراطي والاعتصامات، حيث كانت الإدارة الأميركية تحمي أردوغان، وتغطي قمعه للحريات واعتقال الصحافيين، ومنع أي تحرك احتجاجي، وتضغط على الجيش لعدم التحرك لحماية نفسه من إهانات أردوغان، مقابل ما يقدمه أردوغان من خدمات لأميركا على مستوى “المقاولات السياسية”، بتدجين حركة “الإخوان” في العالم العربي، وتسهيل وصول التكفيريين والعصابات المسلحة إلى سورية، وإبقاء التحالف الاستراتيجي مع “إسرائيل”، وكل ذلك بغلاف “الإسلام التركي” الحديث، الذي يجيز بيع الكحول والمشروبات الروحية حتى العاشرة مساء، وكأن الالتزام بأحكام الإسلام يكون ضمن الدوام الرسمي الذي تحدده الحكومة التركية، وليس القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة!
بدأ العقاب الأميركي لأردوغان، وتم السماح للمعارضة التركية بالتحرك للمطالبة بحقوقها المشروعة، سواء على المستوى المعيشي أو السياسي، أو منع الفتنة المذهبية التي أشعلها أردوغان عبر التدخل التركي في سورية والعراق، وبدأ أردوغان يهتز ويضطر لحشد مؤيديه وأنصاره، والرد بالغاز والرصاص على معارضيه.
العقاب الأميركي لن يتوقف عند قطر وتركيا، بل سيتمدد إلى بعض قادة المعارضة السورية في الخارج، وكذلك المعارضة المسلحة في الداخل، الذين وفّرت لهم أميركا والاستخبارات كل مقومات النجاح، وبقي شيء واحد هو “شرف الثائر”، حيث لم تجد فيهم سوى لصوص مال ومصانع ومقاولين “ثوريين”، وآكلي الأكباد ومجرمين وقاطعي رؤوس، ولم تستطع توحيد كتائبهم وألويتهم ومعارضتهم المتعددة وجيوشهم الحرة.. لقد ملأوا الفنادق بسهراتهم، وأفرغوا المحال من أغلى البدلات وربطات العنق، لكنهم لم يطأوا الأرض السورية لقيادة “الثورة المفترَضة”، والتي بدأت بالانهزام والتصحّر في القصير وريف دمشق وريف حلب وحماة، وستتوج باستعادة حلب وقطع “حبل الصرّة” مع تركيا.
العقاب الأميركي سيصل إلى السعودية على أبواب أزمة ولاية العهد والعائلة المالكة، التي تعيش لحظات مفصلية وحرجة لم تعتد عليها في الماضي، فزمن الملوك الكبار انتهى، وآخرهم الملك عبد الله، الذي يعاني من مرض أرهقه منذ أكثر من عامين، وولادة العهد يتوفون الواحد بعد الآخر، وولي العهد الأخير الأمير سلمان نُقل للعلاج في أميركا، وبالتالي ستعيش العائلة المالكة بداية التنافس الحاد والعنيف بين حقوق الجيل الثاني من الأبناء والأحفاد، ويتصدر المشهد بندر بن سلطان، الذي يراهن على الانتصار في سورية، ليكون جسر العبور لتولّي العرش في السعودية، وينافسه الأمير محمد بن نايف، الذي يمسك بالداخل السعودي ويلاحق “القاعدة”؛ في مشهد متناقض، فالاثنان تحت الرعاية الأميركية، لكن كلاهما يرى في عمله جسراً للعبور إلى العرش! والسؤال: من ستعيّن أميركا ملكاً على عرش السعودية بعد الفشل في سورية؟
العقاب الأميركي لن يتوقف، وسيدفع “الإخوان” ثمناً باهظاً لعدم نجاحهم في فرصة إعطائهم الحكم في مصر وتونس وليبيا، لكن لن يعاقََبوا بالإبعاد إلا في حالة واحدة: إذا التزموا بالضغط على “حماس” بأن تعلن جهاراً بأنها مع المفاوضات السياسية مع “إسرائيل”، وتعترف بها، وتعلن تخلّيها عن المقاومة، وتضع إمكانياتها العسكرية في خدمة الفتنة المذهبية في العالم العربي وتهدئة قطاع غزة، ما سيمنح “الإخوان” شراكة في السلطة في سورية، أما في ليبيا فلن تكون دولة أو كيان، بل قبائل وكتائب تتقاتل، ليبقى النفط بيد أميركا والغرب، وهو أصل المشكلة وليس الديمقراطية وتداول السلطة.
الثبات