ماذا سيفعل دون كيشوت العرب و طواحين الثورة السورية قد ماتت؟
السبت، 18 أيار، 2013
أوقات الشام
بلال فوراني
لم يعد الطحين القطري يجدي نفعاً في استنساخ الخبز الشامي , ولم يعد فحمّ السعودية منتجاً مرغوباً في أسواق الوطنية , وحتى الأفران التركية بدأت تلفظّ جمرها على نعشها , وبدأ المستهلكون يبحثون عن طريق آمن كي يهضموا سنتين من المرار والانتظار أمام هذه الطواحين الخرافية . فبعد كل هذه الشهور المضنية والمليئة بالأحداث التراجيدية وبعد كل هذا الانتظار المرير أمام سقوط امبراطورية الفينيق , لم يعد أحد يملك قراءة واضحة لما يحدث تماماً في هذه المعركة التي نطلق عليها كونية والتي صارت بفعل الاجواء السياسية تسونامي تغيير خرائط العرب من جغرافيا التاريخ الذي نشهده اليوم . لم يعد أحد يملك الادوات المناسبة التي تساعده على اكتشاف جزيرة الكنز الموعودة , ولم يعد أحد يملك رصيدا فائضا من الاحلام التي يفيض بها على متسولي ما يدعى الثورة السورية وخاصة بعد انكشاف حساباتهم الرخيصة وعمليات التزوير الوطني التي نقلتهم من خانة " من أين لك هذا " الى خانة " كيف حدث كل هذا ..؟؟ " .
والمتابعين لهذا الفيلم المأساوي قد أصابهم القرف والملل في آن واحد , القرف مما وصل اليه حال المزارع السعيدة التي كان الجميع يأمل بحصادها , والملل من وفرة الانتاج الاعلامي الذي ساهم في توفير كذبة كبيرة بحجم أهدافهم والتي انطلت على كثير من الناس فضاعوا ما بين ثقافة الثورات وسخافة الحوارات , ولم يعد هذا الفيلم مقتصراً على أبطال وهمية بل على العكس تماما فقد صار لدينا أبطال اعلانات درجة أولى وهم الذين يعلنون كل يوم عن انتصار جديد في أحلامهم التي يمارسون معها الرذيلة في أقبية قناة الجزيرة , ثم تأتي قافلة من الابطال الثانويين والتي تضم جوقة عريضة من المحللين السياسيين الى المحللين العسكريين الى محللين الدم والنكاح وكل هؤلاء تجمعهم سيمفونية عريضة يعزفونها ليل نهار بأصابعهم المغموسة في النفط القطرائيلي , ثم يأتيك أبطال من نوع " تيك أوي " أو بالأصح "للاستخدام مرة واحدة فقط" وهؤلاء لديهم مهمة معينة يقومون بها "كالشقلبة" على قنوات الاعلام مثل قرود الشمبانزي أو البكاء بدموع التماسيح أو الصراخ والسب والشتم , وكل هؤلاء يستخدمونهم مرة واحدة مثل فئران التجارب ثم يرمونهم في أقرب حاوية زبالة أو سلة مهملات , أما الأبطال المهمشينّ في ادوارهم وأبخسّ الناس أجراً هم الكومبارس المعروفون لدى شريحة كبيرة من الناس والذين هم منهم تقريباً دون ان يعرفوا هذا , وهؤلاء برغم ضآلة حجمهم الاستراتيجي على ساحة الاحداث إلا أنهم الأساس المهم جداً في استمرار الفيلم لأنه من دونهم لن يكون لدينا ديكور ولن يكون لدينا مستحضرات تجميل وتشويه مثل هيثم مناع , ولن يكون لدينا من يحضر الشاي للمخرج العبقري مثل معاذ الخطيب , ولا من يقلم أظافر القرضاوي مثل المعتوه هنية , ولا من ينادي على المشهد وعدد مرات تصويره مثل المفصوم جورج صبرا , ولا من يتدلس في تقبيل الممثلين مثل خالد مشعل , ولا من يجاهر بميزانية الانتاج الضخمة التي تكفل بها مثل حمد بن أبيه , ولن تجد في النهاية عنوان لهذا الفيلم سوى سقوط دون كيشوت بالجلطة السورية .
مشكلة هذا الفيلم الذي طال انتاجه وتمثيله لمدة سنتين ويزيد , أن بطل القصة حتى الان غير معروف , رغم أن الاشاعات تقول أن أمريكا هي بطلة الرواية , وهناك اشاعات اخرى تقول أن اسرائيل هي من تجهز البطل بعد أن كتبت السيناريو والحوار , ويتردد على ألسنة بعض أنصاف المغفلين وأنصاف النعاج أن البطل هو أردوغان العثماني , ولكن يخالفهم البعض الآخر في هذه الرؤية ويقولون أن البطل هو المعارضة التي لم تعترض يوما على دمار سوريا, بينما يوشوشني أحد الباعة الجوالة في الشارع أن البطل سيكون مفاجأة مثل "بيض كندري" , لكن يخالفه في الرأي مصلحّ العجلات الذي يصرّ على أن البطل "منفسّ حالياً ويحتاج الى نفخ " , هذا و مازال الدب الروسي يشددّ على شروطه في عقد الاخراج على ظهور البطل كحلقات صغيرة مثل قصص انطون تشيخوف دون الاعلان عن بطل رسمي آخر حلقة , ويشاركه في هذا الرأي تنين الصين الذي ينفث دخان صمته دون أي جلبة في كواليس البهرجة الاعلامية بينما نيرانه الكورية تلذع من فترة لأخرى ديكور الاستديو الذي يجلس فيه العم سام وهو على حصانه الأبيض وبيده سيجارة مارلبورو , وتكثر الاشاعات ويكثر الهمس وتكثر التساؤلات وأشعر بنفسي مثل عبد الحليم حافظ أغوص في أغنيته المشهورة التي تقطر اشارات استفهام في آخرها دوما " الرفاق يتساءلون يتهامسون حبيبتي من تكون .. ؟؟
والسؤال هنا البطل يا ترى من يكون؟ وأنا أعرف مسبقاً أن الكثير منكم سيقفز بسرعة ويمدّ أصبعه كي يجيب على هذا السؤال بطفولة
بريئة وبحميّة وطنية مشهود عليها ليقول: "إن الشعب السوري هو البطل في هذا الفيلم". وأنا لا أختلف معه أبدا على هذا الأمر ولن أختلف يوما على هذا الشعب العظيم الذي تكلمت عنه في مقالاتي سابقاً وأعطيته أقل مما يستحق ولكن عذري أن شعباً عظيما مثل هذا الشعب يحتاج الى كاتبٍ من التاريخ كي يقدر على كتابته بالشكل الصحيح . فحتى هذا الشعب لا يصحّ أن يكون بطلاً في فيلم لأن الأفلام لا تليق بشعبّ دوخّ العالم بقومتيه و وطنيته وانتمائه العروبي, لذا لا يصح أن يكون بطلا في مسلسل لا ينتهي من حلقات المؤامرة والمداهنة والكذب والتزييف والتشويه , ولا يصح أن يكون بطلاً إلا في ملحمة سيذكرها التاريخ بين صفحاته و ستقرأها الاجيال القادمة في مقرراتها المدرسية وسيعرفون حينها لأي شعب ينتمون وعلى أي وطن يعيشون وبأي دمّ يؤمنون .
وبرأيي المتواضع أن بطل كل ما حدث في هذه الفانتازيا الدموية للفيلم كان بكل بساطة الجيش العربي السوري , فهو الذي استطاع أن يحصد اعجاب الغرب قبل العرب ويحصد رؤوس التكفيريين قبل المجرمين , وهو الذي استطاع أن يعلق اسمه في رأس كل مواجهة على الارض في الوقت الذي كان الابطال الافتراضيين يتناحروا على من يكون اسمه اليوم في مانشيت الفيلم , انه الجيش السوري بكل بساطة هو البطل الذي حاز على أفضل تمثيل صادق للشعب السوري , وحاز على أكبر رصيد من الوجع الذي طال سوريا , وهو الذي كسر القيد ولم يعطي ثوار النكاح ودعاة الاجرام حريتهم , انه الجيش السوري بطل هذا الفيلم الامريكي الطويل , وهو بطل في عيون الصغار قبل الكبار , وهو بطل قبل أن يكون هناك أفلام مدبلجة , وهو بطل كل الاوقات وكل الاماكن وكل الازمان , انه البطل الخارق الذي يشبه "أبو الحروف" إن كنتم تذكرونه في برنامج "المناهل" :أحدّ من السين , أهدأ من السكون و أسرع من لمح العين .انه يا سادتي الكرام الجيش العربي السوري . إنه البطل الذي جعل كاميرات العالم كلها تتوجه اليه رغماً عن محاولتها اليائسة في إظهاره باللون الابيض والاسود , إنه البطل الذي ركعت لإرادته الحرة كل مرتزقة العالم وكل عصابات المافيا وحتى حثالة العرب , انه البطل الذي زلزل أركان مدينة الانتاج القطري وارتجفت منه ناقات بني سعود وكسر الخازوق العثماني وداس على خريطة الطريق المرسومة وهزّ جدران البيت الأبيض , انه البطل الذي يستحق عن جدارة اوسكار الصمود والتحدي والصبر , يستحق حذاؤه أن يتصدر عناوين الاخبار وترفع له القبعات وتنحني له الهامات , انه البطل الذي كسر طواحين الثورة الخرافية المزعومة , وترك دون كيشوت العرب مذهولاً من الحقيقة المرة التي رآها لأول مرة ولم يقرأها في كتاب ولم يطالعها بخبر عاجل في قناة الجزيرة او العربية , تركه ضائعاً مصدوماً لا يعرف حقيقة نفسه بعد أن رأى في المرأة أن لباس الفرسان لا يليق به , تركه هائماً يسرح مع حماره العربي باحثاً عن وهم جديد وربما عن طواحين جديدة تبللّ فاجعة فشله في غرفة تغيير الملابس .
على حافة سوريا
في قراءتي الاخيرة أجدّ أن ما يسمى الثورة السورية قد دخلت ماراثون طويل من الأنفاق المظلمة ولكن بأقدام مشلولة , وبرئتين تتنازعان على لملمة أكبر كمية من الشهيق دون أن تدفع ضريبة الزفير , وما زال لهاثها عنوان الفشل الرسمي الذي تتناقله وسائل الاعلام تحت مسمى " تكتيكي " , وقد دخلت في مرحلة التنفس الاصطناعي بإصرار غربي عربي شديد على انقاذها ولو بعلب اوكسجين تساعدها لفترة مؤقتة على الحياة , ولم يعد هناك أي شك عند أي شخص يملك ذرة عقل أن كل هذه المحاولات الفاشلة لانعاش هذه الجثة لن تمنع الجيش السوري من اقرار الفصل الاخيرة في منهج قراءة الخيانات العربية , وبأن حذاءه العسكري فقط هو المختصر المفيد لكل هذه القراءة العقيمة .