يشكل الغاز فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الـ 21 سواء من حيث البديل الطاقي لتراجع احتياطي النفط عالمياً أو من حيث الطاقة النظيفة
النفوذ الأميركي وصل إلى حدّ ضعيف جداً في مواجهة قوى صاعدة كالصين والهند والبرازيل .. وبات واضحاً أنّّّ البحث عن مكمن القوة لم يعد في الترسانات العسكرية تلمّس الروس بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أنّ الصراع على التسلّح أنهكهم وسط غياب عن عوالم الطاقة الضرورية لأيّ دولة صناعية
سورية هي بؤرة منطقة التجميع والإنتاج بالتضافر مع الاحتياطي اللبناني وهو فضاء استراتيجي ــ طاقي يُفتح لأول مرة جغرافياً من إيران إلى المتوسّط
يحتاج الحدث في المنطقة إلى عقول تتجاوز التحليلات الآنية التي تغص بها إحداثيات العمل الإعلامي الذي يُعنى (بالماكرو) سياسة على حساب (الميكرو) سياسة، إلا أنه لم يكن استهداف الشرق الأوسط بهذا الحجم من الصراع الدولي، ببعيد من الصراع على الغاز في العالم والشرق الأوسط.
ففي وقت بدا فيه أن ثمة تداعياً في دول اليورو وسط أزمة اقتصادية أميركية بالغة الدقة أوصلت أميركا إلى حجم دين عام مقداره 14.94 تريليون دولار، أي بنسبة 99.6% من الناتج الإجمالي، في وقت وصل فيه النفوذ الأميركي إلى حد ضعيف جداً في مواجهة قوى صاعدة كالصين والهند والبرازيل بات واضحاً أن البحث عن مكمن القوة لم يعد في الترسانات العسكرية النووية وغير النووية، إنما هناك ... حيث توجد الطاقة. وهنا بدأ الصراع الروسي – الأميركي يتجلى في أبرز عناصره.
لقد تلمس الروس بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن الصراع على التسلح قد أنهكهم وسط غياب عن عوالم الطاقة الضرورية لأي دولة صناعية، فيما كان الأميركيون يتحركون في مناطق النفط عبر عقود عدة مكنتهم من النمو ومن السيطرة على القرار السياسي الدولي بلا منازعات كبيرة. ولهذا تحرك الروس باتجاه مكامن الطاقة (النفط والغاز). وعلى اعتبار أن القسمة الدولية لا تحتمل المنافسة في قطاعات النفط كثيراً، عملت موسكو على السعي إلى ما يشبه (احتكار) الغاز في مناطق إنتاجها أو نقلها وتسويقها على نطاق واسع.
كانت البداية عام 1995 حين رسم بوتين استراتيجية شركة غاز بروم لتتحرك في نطاق وجود الغاز من روسيا فأذربيجان فتركمانستان فإيران (للتسويق) وصولاً إلى منطقة الشرق الأوسط (أخيراً)، وكان من المؤكد أن مشروعي السيل الشمالي والسيل الجنوبي سيكونان وسام الاستحقاق التاريخي على صدر فلاديمير بوتين من أجل عودة روسيا إلى المسرح العالمي ومن أجل إحكام السيطرة على الاقتصاد الأوروبي الذي سيعتمد لعقود على الغاز بديلاً من النفط أو بالتوازي معه، ولكن بأولوية أكبر لصالح الأول. وهنا كان على واشنطن أن تسارع إلى تصميم مشروعها الموازي (نابوكو) لينافس المشروع الروسي على قسمة دولية، على أساسها ستتحدد آفاق القرن المقبل سياسياً واستراتيجياً.
يشكل الغاز فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين سواء من حيث البديل الطاقي لتراجع احتياطي النفط عالمياً أم من حيث الطاقة النظيفة. ولهذا، فإن السيطرة على مناطق الاحتياطي (الغازي) في العالم تعتبر بالنسبة للقوى القديمة والحديثة أساس الصراع الدولي في تجلياته الإقليمية.
واضح أن روسيا قد قرأت الخارطة وتعلمت الدرس جيداً، فسقوط الاتحاد السوفياتي كان بسبب غياب موارد الطاقة العالمية عن سيطرته، لتضخ إلى البنى الصناعية المال والطاقة، وبالتالي البقاء. ولذلك تعلمت أن لغة الطاقة الآتية إلى القرن الواحد والعشرين على الأقل هي لغة الغاز.
بقراءة أولية لخارطة الغاز نراها تتموضع في المناطق التالية من حيث الكم والقدرة على الوصول إلى مناطق الاستهلاك:
1. روسيا، انطلاقاً من فيبورغ (Vyborg) وبيري غوفيا (Beregovya).
2. الملحق الروسي: تركمانستان.
3. المحيط الروسي القريب والأبعد: أذربيجان وإيران.
4. المقنوص من روسيا: جورجيا.
5. منطقة شرق المتوسط (سورية ولبنان).
6. قطر ومصر.
على هذا سارعت موسكو للعمل على خطين استراتيجيين: الأول، التأسيس لقرن روسي – صيني (شنغهايي) يقوم على أساس النمو الاقتصادي لكتلة شنغهاي من ناحية، والسيطرة على منابع الغاز من ناحية أخرى.
وبناء عليه، فقد أسست لمشروعين أولهما هو مشروع السيل الجنوبي، وثانيهما هو مشروع السيل الشمالي، وذلك في مواجهة مشروع أمريكي لاقتناص غاز البحر الأسود وغاز أذربيجان؛ وهو مشروع نابوكو.
سباق استراتيجي بين مشروعين للسيطرة على أوروبا من ناحية وعلى مصادر الغاز من ناحية أخرى:
•المشروع الأميركي نابوكو: ومركزه آسيا الوسطى والبحر الأسود ومحيطه، فيما موقعه المخزِّن هو (تركيا) ومساره منها إلى بلغاريا فرومانيا ثم هنغاريا فالتشيك وكرواتيا وسلوفينيا فإيطاليا. وكان من المقرر أن يمر باليونان، إلا أنه تم غض الطرف عن هذا كرمى لتركيا.
•المشروع الروسي في شقيه الشمالي والجنوبي والذي يقطع الطريق عبر التالي:
أ- السيل الشمالي: وينتقل من روسيا إلى ألمانيا مباشرة، ومن فاينبرغ إلى ساسنيتز عبر بحر البلطيق دون المرور ببيلاروسيا، وهو ما خفف الضغط الأميركي عليها.
ب- السيل الجنوبي: ويمر من روسيا إلى البحر الأسود فبلغاريا ويتفرع إلى اليونان فجنوب إيطاليا وإلى هنغاريا فالنمسا.
المفروض أن مشروع نابوكو كان من المقرر أن يسابق المشروعين الروسيين، إلا أن الأوضاع التقنية قد أخرت المشروع إلى عام 2017 بعد أن كان مقرراً عام 2014، ما جعل السباق محسوماً لصالح روسيا، في هذه المرحلة بالذات،ما يستدعي البحث عن مناطق دعم رديفة لكل من المشروعين وتتمثل في:
1) الغاز الإيراني الذي تصر الولايات المتحدة على أن يكون رديفاً لغاز نابوكو ليمر في خط مواز لغاز جورجيا (وإن أمكن أذربيجان) إلى نقطة التجمع في أرضروم (Erzurum) في تركيا.
2) غاز منطقة شرق المتوسط (سورية ولبنان و»إسرائيل»).
3) خط الغاز المقبل من الربع الخالي السعودي الذي لا طريق له إلا سورية.
4) خط الغاز القطري الذي لا طريق له نحو أوروبا إلا سورية أيضاً والذي يجب منع مروره لأنه عتلة المنافسة الأميركية لسيطرة روسيا على عصر الغاز.
وبالقرار الذي اتخذته إيران ووقعت اتفاقياته لنقل الغازعبر العراق إلى سورية في شهر تموز/يوليو 2011 تصبح سورية هي بؤرة منطقة التجميع والإنتاج بالتضافر مع الاحتياطي اللبناني، وهو فضاء استراتيجي – طاقي يُفتح لأول مرة جغرافياً من إيران إلى العراق إلى سورية فلبنان. وهو ما كان من الممنوعات غيرالمسموح بها لسنين طويلة خلت؛ الأمر الذي يفسر حجم الصراع على سورية ولبنان في هذه المرحلة وبروز دور لفرنسا التي تعتبر منطقة شرق المتوسط منطقة نفوذ تاريخية ومصالح لا تموت، وهو دور ينسجم مع طبيعة الغياب الفرنسي منذ الحرب العالمية الثانية ما يعني أن فرنسا تريد أن يكون لها دور في عالم (الغاز) حيث اقتطعت لنفسها بوليصة تأمين صحي بخصوصه في ليبيا وتريد بوليصة تأمين على الحياة به في كل من سورية ولبنان.
في هذا الوقت، تشعر تركيا انها ستضيع في بحر صراع الغاز طالما أن مشروع نابوكو متأخر، ومشروعا السيل الشمالي والسيل الجنوبي يستبعدانها، فيما غاز شرق المتوسط قد بات بعيداً من نفوذ نابوكو وبالتالي تركيا.
تاريخ اللعبة
من أجل مشروع السيل الشمالي والسيل الجنوبي أسست موسكو شركة غاز بروم في أوائل النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين. واللافت أن ألمانيا التي تريد أن تخلع عنها أسوار ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد هيأت نفسها لتكون طرفاً وشريكاً لهذا المشروع، إن من حيث التأسيس أو من حيث مآل الأنبوب الشمالي أو من حيث مخازن السيل الجنوبي التي تقع في المحيط الجرماني وتحديداً النمسا.
غاز بروم
تأسست شركة غاز بروم بالتعاون مع صديق ألماني لموسكو يدعى (هانز جوشيم غوينغ) الذي شغل منصب نائب رئيس سابق لشركة صناعة الغاز والنفط الألماني وهو الذي أشرف على بناء شبكة خطوط الأنابيب التابعة لشركة (GDR). وقد ترأس غاز بروم (حتى شهر تشرين الأول/أوكتوبر 2011) فلاديمير كوتينيف (وهو سفير روسي سابق في ألمانيا).
وقد وقعت الشركة صفقات نوعية ومريحة جداً مع شركات ألمانية وعلى رأسها الشركات المتعاونة مع السيل الشمالي كشركة (E.ON)العملاقة للطاقة وشركة (BASF)العملاقة للكيميائيات، حيث تأخذ شركة (E.ON) تفضيلات لشراء كمية من الغاز على حساب شركة غاز بروم عندما ترتفع أسعار الغاز، ما يعتبر بمثابة دعم (سياسي) لشركات الطاقة الألمانية.
وقد استفادت موسكو من تحرر أسواق الغاز الأوروبية من الاحتكار لإرغام تلك الأسواق على فك الارتباط بين شبكات التوزيع ومنشآت الإنتاج. هذا الاشتباك بين روسيا وبرلين يطوي صفحة من العداء التاريخي ليرسم صفحة أخرى من التعاون على أساس الاقتصاد، والتنصل من ثقل تنوء به ألمانيا وهو ثقل أوروبا المتخمة بالديون والتابعة للولايات المتحدة، فيما ترى ألمانيا أن المجموعة الجرمانية (ألمانيا والنمسا والتشيك وسويسرا) هي الأولى بأن تشكل نواة أوروبة لا أن تتحمل النتائج المترتبة على قارة عجوز وعملاق آخر يتهاوى.
وتشمل مشاريع غاز بروم المشتركة مع ألمانيا مشروع وين غاز المشترك مع وينترشال أحد فروع (BASF) وهي أكبر منتج للنفط والغاز في ألمانيا وتسيطر على 18% من سوق الغاز، حيث نالت ألمانيا حصصاً غير مسبوقة في الأصول الروسية؛ إذ تسيطر شركتا (BASF) و (E.ON) على ربع حقول غاز يوزنو –روسكويا التي ستقدم معظم الإمدادات لمشروع السيل الشمالي في وقت ليس من قبيل الصدفة أو مجرد المحاكاة أن تكون نظيرة غاز بروم الروسية في ألمانيا تدعى غاز بروم الجرمانية التي توسع مجالها لتمتلك 40% من شركة (Centrex) النمساوية المخصصة لخزن الغاز والتي لها في قبرص امتداد نوعي، حيث لا يبدو أن تركيا ستكون راضية عنه. وهي تفتقد متحرقة لدور متأخر في شركة غاز نابوكو حيث يفترض أن تبدأ بتخزين وتسويق وتمرير (31) مليار متر مكعب من الغاز وصولاً إلى (40) مليار متر مكعب – لاحقاً – في مشروع يرهن أنقرة أكثر فأكثر لقرارات واشنطن والناتو دون أن يكون لها الحق في أن تصر على الدخول إلى الاتحاد الأوروبي الذي لفظها مرات عدة!
وواقع الحال أن الصلات الاستراتيجية عبر الغاز تجعل الصلات أكثر استراتيجية في قطاعات السياسة حيث يمتد تأثير موسكو على الحزب الاجتماعي الديموقراطي الألماني في ويستفاليا شمالي نهر الراين حيث توجد القاعدة الصناعية الرئيسة لفرعي شركتي (RWE) للكهرباء المرتبطة مع روسيا بوثاقة (E.ON).
وهذا التأثير يعترف به الجميع في ألمانيا، إذ إن رئيس قسم سياسات الطاقة في حزب الخضر هانس جوزيف فيل قد أكد أن أربع شركات ألمانية على صلة بروسيا تلعب دوراً في صوغ سياسة الطاقة الألمانية عبر شبكة معقدة جداً تقوم بالضغط على الوزراء وتحتكر الرأي العام، وذلك عبر هيئة العلاقات الاقتصادية الشرق أوروبية التي تمثل الشركات الألمانية والتي على اتصال وثيق بأعمال تجارية في روسيا ودول كتلة الاتحاد السوفياتي السابق.
هنا، فإن ما يجعل ثمة صمتاً (لا بد منه) تتبعه ألمانيا إزاء ما يجري من نفوذ روسي متسارع. أساس هذا الصمت الاعتراف بأن ثمة ضرورة لتحسين ما يسمى (أمن الطاقة) في أوروبة.
اللافت أن ألمانيا باتت تعتبر أن سياسة (التمرير) المقترحة من الاتحاد الأوروبي لتغطية أزمة اليورو ستعيق الاستثمارات (الألمانية –الروسية) بشكل طويل الأمد. وهذا هو السبب – يقف مع غيره من الذرائع – وراء التمهل الألماني في إنقاذ اليورو المثقل بديون الأوروبيين ... بخلاف ألمانيا وكتلتها الجرمانية التي تستطيع تحملها وحدها دون غيرها.
وفي كل مرة يعاند فيها الأوروبيون ألمانيا وسياستها مع روسيا (الطاقية) تؤكد برلين على أن خطط أوروبة (يوتوبية) غير قابلة للتنفيذ وقد تدفع روسيا لبيع غازها في آسيا. وهذا سيطيح الأمن الطاقي في أوروبة.
وواقع الحال أن هذا الاشتباك الروسي – الألماني لم يكن من النوع الساذج عندما استثمر (بوتين) تراث الحرب الباردة من وجود روسي للناطقين بالروسية في ألمانيا والبالغ عددهم ثلاثة ملايين وهم يشكلون ثاني أكبر جماعة بعد الأتراك، إضافة إلى شبكة من المسؤولين الألمان الشرقيين الذين تم توظيفهم لرعاية الشركات الروسية في ألمانيا ومصالحها، فضلاً عن عدد من عملاء جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي السابق ومنهم على سبيل المثال مدير جرمانيا غاز بروم لشؤون الموظفين وشؤون التمويل، ومدير اتحاد (السيل) المالي هاينس وورينغ، وهو ضابط سابق في جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي الذي نقلت صحيفة وول ستريت جورنال أنه قدم لبوتين حين كان في جهاز الأمن الروسي (KGB) المساعدة لتوظيف جواسيس في مدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية.
ولكن للإنصاف، فإن واقع الحال يقول: إن استثمار روسيا للعلاقات السابقة لم يكن فجاً بل كان لمصلحة ألمانيا ككل، الأمر الذي لم يجعل الصدام ممكناً باعتبار أن المصلحة بين الطرفين متحققة دون هيمنة.
السيل الشمالي
يشكل مشروع السيل الشمالي عنصر الربط الرئيس بين روسيا وألمانيا. وتبلغ تكلفة خط الأنابيب 4.7 مليارات يورو وقد تم تدشينه أخيراً. وعلى الرغم من أنه يصل روسيا بألمانيا إلا أن إدراك الأوروبيين أن هذا المشروع سيكون جزءاً من الأمن الطاقي قد جعل هولندا وفرنسا تسارعان لإعلانه مشروعاً أوروبياً، حتى أن (ليندر) في لجنة العلاقات الاقتصادية لأوروبة الشرقية سرعان ما أعلن دون أي خجل أو تردد: «إن هذا مشروع أوروبي لا ألماني، ولن نسمح لألمانيا أن تعتمد اعتماداً كبيراً على روسيا». وهو تصريح يدلل على الخشية من النفوذ الروسي المتنامي في ألمانيا، إلا أنه ليس أكثر من هذا، إذ إن مشروع السيل الشمالي يعكس هيكلياً خطة موسكو وليس خطة الاتحاد الأوروبي.
سيتمكن الروس من إيقاف إيصال الطاقة إلى بولندة ودول أخرى حسبما يشاؤون وسيتمكنون من بيع الغاز لمن يدفع أكثر. لكن أهمية ألمانيا بالنسبة لروسيا تكمن عملياً في أنها تشكل نقطة لانطلاق استراتيجيتها عبر القارة حيث تمتلك جرمانيا غاز بروم أسهماً في ما لا يقل عن خمسة وعشرين مشروعاً مشتركاً في بريطانيا وإيطاليا وتركيا وهنغاريا وغيرها. وهو ما يهيئ فعلياً للقول إن غاز بروم ستصبح (بعد قليل) من أكبر شركات العالم إن لم تصبح أكبرها إطلاقاً.
لم يكتف قادة غاز بروم ببناء مشروعهم هذا، إلا أنهم تداخلوا مع مشروع غاز نابوكو الذي سيتأخر – كما قلنا – حتى عام 2017، معتبرين أنه مشروع يشكل تحدياً كبيراً إذا قامت الشركة غاز بروم التي تمتلك 30% من مشروع لبناء خط أنابيب رئيس ثان يصل إلى أوروبة على خط نابوكو (نفسه) وهو مشروع تعلن فيه غاز بروم عن تشابك سياسي، أو لنقل بصراحة، مزاودة سياسية بهدف إظهار عضلاتها من خلال إيقاف العمل بخط نابوكو أو تعطيله.
والحقيقة أن موسكو لم تكتف بذلك، فقد سارعت لشراء غاز آسيا الوسطى وبحر قزوين عبر مناقصة لإبعاده عن العمل بخط أنابيب نابوكو مستخدمة كل أنواع السخرية السياسية – الاقتصادية – الاستراتيجية في آن من واشنطن.
رسم خارطة أوروبة .. ومن ثم العالم
في سياق كل ما سبق، تشغّل غاز بروم منشآت للغاز في النمسا وذلك في المحيط الاستراتيجي الجرماني، كما انها تؤجر منشآت في بريطانيا وفرنسا. إلا أن منشآت التخزين المتزايدة في النمسا ستكون محوراً لرسم الخارطة الطاقية لأوروبا في جزء هام إذ إنها ستزود الأسواق السلوفينية والسلوفاكية والكرواتية والهنغارية والإيطالية وبعضاً من الألمانية بالتضافر مع مخزن أُعِدَّ حديثاً يدعى (كاترينا) تقوم شركة غاز بروم ببنائه بالشراكة مع ألمانيا لتوريد الغاز إلى مراكز أوروبا الغربية.
وقد أقامت شركة غاز بروم مشروع منشأة تخزين مشتركاً مع صربيا لتصدير الغاز إلى البوسنة والهرسك وجزء من النمسا فضلاً عن صربيا نفسها. وقد أجريت دراسات لجدوى اقتصادية لعدد من مشاريع التخزين المماثلة في جمهورية التشيك ورومانيا وبلجيكا وبريطانيا وسلوفاكيا وتركيا واليونان وحتى فرنسا. وبهذا ستحصن موسكو موقعها كمزود لـ 41% من احتياجات أوروبا للغاز، ما يعني تغييراً جوهراياً في علاقات الشرق بالغرب على المديين القريب والمتوسط أولاً، ثم البعيد ثانياً. وهو ما يعني تراجعاً للنفوذ الأميركي أو صداماً يُهيَّأ له في أحد جوانبه بالتضافر مع اعتبارات الدرع الصاروخية لتأسيس نظام عالمي جديد سيكون (الغاز) في صلب عوامل تشكيله. وهذا ما يفسر حجم الصراع في منطقة شرق المتوسط على الغاز الجديد في شرقي حوض البحر الأبيض المتوسط.
نابوكو في مأزق
صممت نابوكو لنقل الغاز من تركيا إلى النمسا عبر 3900 كم، ولتمرير 31 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً من منطقة (الشرق الأوسط) وقزوين إلى الأسواق في أوروبة. ولعل اللهاث الأميركي – الفرنسي (الناتوي) وراء حسم الأمور في منطقة شرق المتوسط وتحديداً سورية ولبنان يكمن في ضرورة تأمين أوضاع هادئة وموالية لاستثمار ونقل الغاز اللبناني والسوري الذي هو محور الصراع من أجل إما إلحاق هذا الاحتياطي بغاز نابوكو أو بغاز بروم وبالتالي السيل الجنوبي، وهو ما ردت عليه سورية بتوقيع عقد لتمرير الغاز من إيران إلى سورية عبر العراق.
يتألف اتحاد شركة غاز نابوكو من شركة (RWE)الألمانية وشركة (OMV) النمساوية وشركة بوتكس التركية وشركة بلغاريا القابضة للطاقة البلغارية وشركة ترانزغاز الرومانية.
التكاليف الأولية لهذا المشروع المنافس لغاز بروم، والتي قدرت قبل خمس سنوات بـ 11.2 مليار دولار وستحقق أسعار غاز أقل من المشروع الروسي،سترتفع بسبب التأخير حتى عام 2017 إلى 21.4 مليار دولار مما يطرح تساؤلات حول مدى نجاح هذا المشروع الاقتصادي خصوصاً مع استنفاد شركة غاز بروم عقد الصفقات في أكثر من مكان لتطويق نابوكو التي ستقتات على القدرة الفائضة للغاز من تركمانستان، خصوصاً وأن اللهاث الرئيس الضائع الأثر وراء غاز إيران يُبعد حلم نابوكو عن أن يكون ذا قيمة واقعية. وهذا أحد أسرار الصراع على إيران التي زادت في التحدي عبر اختيار العراق وسورية مساراً لغازها أو لجزء أساسي منه على الأقل.
و هكذا، لا يعود لنابوكو من خيار إلا إمدادات حقل شاهدنيز الأذربيجاني لن تكون إلا المصدر شبه اليتيم لمشروع يبدو أنه متعثر منذ البداية من خلال تسارع صفقات ونجاحات موسكو في شراء مصادر نابوكو من ناحية،والصعوبة في إحراز تغيرات جيوسياسية في كل من إيران وشرق المتوسط (سورية ولبنان)في وقت تسارع فيه تركيا لحجز حصتها في مشروع نابوكو سواء لجهة توقيعها عقداً مع أذربيجان لشراء ستة مليارات متر مكعب من الغاز عام 2017 أو لجهة السعي لوضع اليد على سورية ولبنان إما لعرقلة مرور النفط الإيراني أو لنيل حصة في الثروة الغازية اللبنانية أو السورية أو لكليهما معاً.فيما يبدو السباق ضارياً على حجز مقعد في النظام الدولي الجديد ... عبر الغاز وأشياء أخرى تمتد من الخدمات العسكرية الصغيرة إلى القبب الاستراتيجية للدرع الصاروخية.
ولعل أكثر ما يشكل خطراً على نابوكو هو أن تقوم روسيا بقتل ودفن الأخير من خلال التفاوض على عقود أكثر أفضلية وتنافسية لإمدادات الغاز لتصب في غاز بروم بسيليها الشمالي والجنوبي وقطع الطرق عن أي نفوذ (طاقي) وسياسي لأميركا أو أوروبة في كل من إيران وشرق المتوسط، فضلاً عن أن تكون غازبورم من أهم مستثمري أو مشغلي حقول الغاز الحديثة العهد في كل من سورية ولبنان، إذ لم يكن اختيارالتوقيت في 16/8/2011 عابراً كي تعلن وزارة النفط السورية عن اكتشاف بئر غاز في منطقة قارة وسط سورية وقرب حمص بما يحقق إنتاجية بقدرة 400 ألف متر مكعب يومياً أي ما يعادل 146 مليون متر مكعب سنوياً دون أي حديث عن غاز البحر الأبيض المتوسط.
لقد خفف مشروعا السيل الشمالي والجنوبي من أهمية السياسة الأميركية التي بدا أنها تتراجع إلى الخلف فيما تراجعت آثار الكُره الكامنة بين دول اوروبة الوسطى وروسيا، إلا أن بولندة لا يبدو أنها ستخرج من اللعبة سريعاً.ولا يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية مستعدة للتراجع، إذ أنها أعلنت في أواخرتشرين الأول 2011 عن التحول المتمثل في سياسات الطاقة بسبب اكتشاف مناجم الغازالحجري في أوروبة لتقليل الاعتماد على روسيا ... والشرق الأوسط. ولكن يبدو أن هذا أملاً بعيد المنال أو المدى إذ ثمة العديد من الإجراءات قبل الوصول إلى الإنتاج التجاري من مصادر غير تقليدية كمناجم الغاز الحجري الموجود في الصخور على عمق آلاف الأقدام تحت الأرض ويمكن الحصول عليه بكسر الصخور واستخدام مياه عالية الضغط بالتكسير الهيدروليكي بضخ عالي الضغط للسوائل والرمال في بئر لإطلاق الغاز. ولكن السؤال يطرح نفسه بالمخاوف البيئية من تأثير تقنيات التكسير على المخزون الجو في ذاته.
الصين على الخط
يشكل التعاون الروسي – الصيني في مجال الطاقة القوة الموجهة للشراكة الاستراتيجية الصينية – الروسية، وهو ما يراه الخبراء رائزاً يقف وراء الفيتو المشترك لصالح سورية في مجلس الأمن.
إن التعاون في مجال الطاقة هو (شحم) تسريع الشراكة بين العملاقين والأمر يتعدى إمداد الغاز بأفضليات للصين إلى المشاركة في توزيعه عبر (بيع الأصول والمنشآت الجديدة) ومحاولات السيطرة المشتركة على الإدارات التنفيذية لشبكات توزيع الغاز حيث تقدم موسكو حالياً عرضاً بالمرونة في أسعار إمدادات الغاز شريطة أن يسمح لها بالدخول إلى الأسواق الصينية المحلية لأن الأرباح تكمن في الداخل الصيني. ولهذا تم الاتفاق على أن الخبراء الروس والصينيين يستطيعون العمل سوية في الاتجاهات التالية:
«تنسيق استراتيجيات الطاقة في البلدين والتنبؤ ورسم السيناريوهات المستقبلية وتنميةالبنية التحتية للسوق وفعالية الطاقة ومصادر الطاقة البديلة».
وهنالك فضلاً عن التعاون في الطاقة مصالح استراتيجية أخرى تتمثل في التصور المشترك الروسي – الصيني في مخاطر المشروع الأميركي المسمى بالدرع الصاروخية ذلك أن واشنطن تشرك اليابان وكوريا الجنوبية في ذلك المشروع. ولا تكتفي بذلك بل إنها وجهت دعوة إلى الهند في أوائل شهر أيلول/سبتمبر 2011 من أجل أن تصبح الهند شريكاً في البرنامج نفسه. كما تتقاطع مخاوف موسكو وبكين من تحرك واشنطن لإعادة إحياء استراتيجية آسيا الوسطى المدعو (طريق الحرير) وهو نفس توجه مشروع آسيا الوسطى الكبير الذي طرحه جورج بوش الأب لدحر النفوذ الروسي والصيني في آسيا الوسطى بالتعاون مع تركيا لحسم الموقف في أفغانستان عام 2014 وترتيب النفوذ(الناتوي) هناك والإشارات المتزايدة لرغبة أوزبكستان للقيام بدور المضيف لناتو في هذا المشروع. وهنا يقدر بوتين بأن ما يمكن أن يحبط غزو الغرب بشكل أساسي للرواق الخلفي الروسي لآسيا الوسطى هو اتساع الفضاء الاقتصادي الروسي المشترك مع كازاخستان وبيلاروسيا بالتعاون مع بكين بالنسبة لكازاخستان.
هذه الصورة لآليات الصراع الدولي تفسح في المجال أمام رؤية جانب من عملية تشكيل النظام العالمي الجديد على أرضية الصراع على النفوذ العسكري وعلى أرضية (القبض) على روح العصر: الطاقة وعلى رأسها الغاز.
الغاز السوري
مع بدء «اسرائيل» عام 2009 استخراج النفط والغاز بات واضحاً أن حوض المتوسط قد أصبح داخل اللعبة وأن سورية إما إلى هجوم عليها أو إلى سلام في المنطقة لأن عصر الطاقة النظيفة هو القرن الواحد والعشرين.
المعلومات المتوافرة تقول إن هذا الحوض هو الأثرى في العالم بالغاز حيث يؤكد معهد واشنطن أن سورية ستكون الدولة الأغنى وأن الصراع بين تركيا وقبرص سيستعر نظراً لعدم قدرة أنقرة على تحمل خسارتها لغاز نابوكو (رغم أن موسكو وقعت عقداً في 28/12/2011 مع أنقرة اتفقاً لتمرير جزء من السيل الجنوبي عبر أراضيها).
إن معرفة السر الكامن في الغاز السوري سيفهم الجميع حجم اللعبة على الغاز لأن من يملك سورية يملك الشرق الأوسط وبوابة آسيا ومفتاح بيتروسيا (حسب كاترين الثانية) وأول طريق الحرير (حسب الصين)، والأهم من يملك الدخول عبرها إلى الغاز يملك العالم خصوصاً أن القرن المقبل هو قرن الغاز. وبتوقيع دمشق اتفاق لتمرير الغاز الإيراني عبر العراق إليها ومن ثم للبحر المتوسط يكون الفضاءالجيوسياسي انفتح والفضاء (الغازي) قد أغلق على غاز نابوكو شريان الحياة وقال:»إن سورية هي مفتاح الزمن القادم».
وبات واضحاً أن السيطرة على الموارد وعلى رأسها الطاقة النظيفة هو الممر الأمثل نحو تشكيل النظام العالمي المتعثر التبلور منذ عام 1991 ، وظهر جليّاً ان السيطرة على الغاز وعلى طرق نقله هو مركز الصراع وهذا ما تجلى في الصراع الذي دار منذ 2011-2012 بخصوص سورية، إذ بدا أن تقاطب القوى في الصراع يتعدى بالتأكيد الأسباب الداخلية ويتجاوز حتماً مسألة المياه الدافئة أو قاعدة عسكرية لوجستية في ميناء طرطوس السوري.
بدأت معركة الطاقة مبكراً حيث وضعها نائب الرئيس الأميركي السابق لأوباما ديك تشيني (2000-2008) في مواجهة واضحة مع الصين وروسيا ، واستمرت بها سياسات أوباما الذي انخرط فيه في جيوبوليتيك النفط كجزء من صراع أميركي عالمي من أجل السيطرة المستقبلية في ما بين القوى العظمى.
لقد خلُص ديك تشيني منذ وقت باكر إلى أن إمدادات الطاقة العالمية لم تكن تنمو بالشكل المطلوب لكي تغطي احتياجات العالم المتزايدة وأن ضمان التحكم بما تبقى من إمدادات النفط والغاز الطبيعي سيكون مهمة أساسية لأية دولة تسعى إلى الحصول على أو الاحتفاظ بموقع متقدم في السلم العالمي.
وبشكل مماثل، فقد فهم أن ارتقاء الأمة يمكن أن تحبطه عدم القدرة على الوصول إلى إمدادات الطاقة.حيث أن جيوسياسة النفط تكمن في جوهر العلاقات الدولية وتحدد بشكل كبير صعود وهبوط الأمم. وهكذا وضعت خطة وتتألف من أربعة ملامح أساسية:
1) تشجيع إنتاج النفط والغاز محلياً بأي تكلفة وذلك من أجل تقليل اعتماد الولايات المتحدة على الموردين الخارجيين من غير الأصدقاء، وبذلك تزداد حرية التصرف لدى واشنطن.
2) السيطرة على تدفق النفط من الخليج العربي (حتى وإن حصلت الولايات المتحدة على حصة أقل بكثير من مخصصاتها النفطية من المنطقة) وذلك لكي تحافظ على القبضة الاقتصادية على كبار موردي النفط الآخرين.
3) السيطرة على الممرات البحرية لآسيا وذلك للسيطرة على تدفق النفط والمواد الخام الأخرى إلى خصوم الولايات المتحدة الاقتصاديين الكامنين، الصين واليابان.
4) تشجيع «تنوع» الطاقة في أوروبة وخاصة عبر ازدياد الاعتماد على إمدادات النفط والغاز الطبيعي القادمة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في حوض بحر قزوين وذلك لتقليل اعتماد أوروبة الكبير على النفط والغاز الروسيين إلى جانب النفوذ السياسي الذي يمنحه هذا الاعتماد لموسكو.
وكان الهدف الأول وهو زيادة الاعتماد على الغاز والنفط المحليين في أميركا وهو ما كان موضع تركيز في السياسة القومية للطاقة وهي استراتيجية الطاقة التي قدمها تشيني للرئيس في أيار 2001 بتشاورات كثيفة مع ممثلي عمالقة النفط. واعتبر أن الهدف الأساسي لسياسة الطاقة القومية هو إضافة إمدادات من مصادر متعددة؛ أي النفط المحلي والغاز والفحم الحجري. وأيضاً يقصد به الطاقة المائية والنووية.
ودعت الخطة أيضاً إلى شن حملة منسقة من أجل زيادة اعتماد الولايات المتحدة على مصادر الطاقة الصديقة من دول نصف الكرة الغربي وخاصة البرازيل وكندا والمكسيك.
أما الهدف الثاني الذي يتمثل في السيطرة على تدفق النفط عبر الخليج العربي فكان السبب الرئيس لشن حرب الخليج الأولى وغزو العراق عام 2003 للتحكم بوريد نفط الشرق الأوسط.
وركز بشكل أساسي على ضمان التحكم بالممرات البحرية من مضيق هرمز في مدخل الخليج الفارسي (حيث يتدفق يومياً ما يعادل 35% من تجارة النفط العالمية) عبر المحيط الهندي وصولاً إلى مضيق ملقا وانتهاء ببحر الصين الجنوبي والشرقي.
وحتى يومنا هذا تبقى هذه الممرات البحرية أساسية من أجل البقاء الاقتصادي للصين واليابان وكوريا الشمالية وتايوان، هذه الممرات التي تسمح بمرور النفط والمواد الخام الأخرى لترفد صناعاتهم وتحمل بضائعهم المُصنّعة إلى أسواقهم العالمية. ومن خلال المحافظة على تحكم الولايات المتحدة بالقنوات الحيوية إلى ضمان ولاء حلفاء أميركا الآسيويين الأساسيين وتقييد صعود الصين.
وعبر السعي إلى تحقيق هذه الأهداف الجيوسياسية التقليدية كان يدفع نحو تعزيز الوجود البحري للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادي وإنشاء شبكة من التحالفات العسكرية التي تربط اليابان وأستراليا والهند، وكلها كانت تهدف إلى احتواء الصين. وتم اعتبار روسيا كمنافس جيوسياسي وسعى إلى الاستفادة من كل فرصة من أجل تقليص قوتها ونفوذها، حيث كان يخشى على وجه الخصوص من اعتماد أوروبة المتنامي على الغاز الطبيعي الروسي الذي يمكن أن يقوض من عزمها على مقاومة التحركات الروسية في أوروبة الشرقية والقوقاز.
لمواجهة هذا التوجه حاولت واشنطن إقناع الأوروبيين بتحصيل قدر أكبر من الطاقة التي تعود إليهم والتي تتواجد في حوض بحر قزوين من خلال مدّ أنابيب جديدة إلى تلك المنطقة عبر جورجيا وتركيا. وكانت الفكرة أن يتم تجاوز روسيا عبر إقناع أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان بتصدير غازها عبر هذه القنوات وليس عبر تلك الأنابيب التي تملكها غاز بروم؛ الشركة الاحتكارية الروسية التي تديرها الدولة. ومن هنا كانت فكرة غاز نابوكو.
عندما يتعلق الأمر بالسعي لتعزيز استقلالية الطاقة نرى أن أوباما قد احتضن التوجه القومي المتطرف في دعوته إلى زيادة الاعتماد على النفط والغاز الطبيعي المحليين والموجودين في نصف الكرة الغربي مهما كانت أخطار التنقيب في مناطق الخارج الهشة بيئياً أو مهما كانت التقنيات الخطرة التي يتم استخدامها مثل التكسير بالمياه.
وسعت واشنطن مؤخراً إلى تسهيل عمليات التنقيب عن الغاز والنفط المتزايدة في البلاد ووعدت بتسريع هذه العمليات في مواقع جديدة بما فيها أراضٍ خارج آلاسكا وخليج المكسيك.
في خطاب حال الأمة في كانون الثاني2012 قال أوباما متباهياً: «على مدى السنوات الثلاث الماضية فتحنا ملايين الدونمات من الأراضي أمام التنقيب عن النفط والغاز. وهذه الليلة أصدرت توجيهاتي للإدارة لفتح أكثر من 75% من موارد النفط والغاز الكامنة في الخارج. والآن وفي هذه اللحظة أصبح إنتاج الولايات المتحدة من النفط الأعلى منذ ثماني سنوات. وليس فقط ذلك، ففي السنة الماضية انخفض اعتمادنا على النفط الخارجي ووصل إلى أقل مستوى منذ ستة عشر عاماً.»
وتحدث بحماسة خاصة عن استخلاص الغاز الطبيعي عن طريق التكسير في الترسبات الطينية: «نحن لدينا مؤونة من الغاز الطبيعي التي يمكن أن تبقي أميركا على قيد الحياة لمدة مائة عام،وعن زيادة اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة القادمة من نصف الكرة الغربي وبذلك يقل اعتمادها على الموردين المعادين وغير الموثوقين في الشرق الأوسط وإفريقيا.
في آذار 2011 حاولت واشنطن مع البرازيل كمنتج كبير للنفط، أن ترسم علاقة توريد معها بما يمكن أن تساعد الولايات المتحدة في فطام نفسها عن نفط الشرق الأوسط
وتسعى واشنطن إلى ضمان السيطرة الأميركية على الممرات البحرية الحيوية الممتدة من مضيق هرمز إلى بحر الصين الجنوبي، وبناء شبكة من القواعد والتحالفات التي تحيط بالصين؛ القوة العالمية الصاعدة، على شكل قوس يمتد من اليابان وكوريا الجنوبية في أستراليا وفيتنام والفليبين في الجنوب الشرقي ومن ثم إلى الهند في الجنوب الغربي، لتنتهى إلى اتفاق مع الحكومة الأسترالية لبناء منشأة عسكرية في داروين على الساحل الشمالي من البلاد بالقرب من بحر الصين الجنوبي، وإنشاء تحالف يضم دول المنطقة من الدول المعادية للصين والتي يحاول الأميركيون أن تشمل الهند لانتزاعها من قبضة البريكس، وتشكيل استراتيجية تهدف إلى تطويق الصين – وهي استراتيجية يراد منها إدخال الهند في النظام الحالي للتحالف الأسيوي مع أميركا بما يخلق ذعراً وانتكاسة لبكين.
وفي النهاية، فإن أميركا قد خطت خطوات في ما يتعلق بالجهود المبذولة من أجل تقليل النفوذ الروسي في أوروبة وآسيا الوسطى عبر تشجيع بناء أنابيب نفط وغاز جديدة تمتد من بحر قزوين عبر جورجيا وتركيا إلى أوروبة. باقتراح بناء خط أنابيب غاز العابر للأناضول(غاز نابوكو)؛ وهو ممر مخصص لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا وصولاً إلى أوروبة مجانباً روسيا، طبيعياً.
كان الترتيب العالمي للغاز يتأرجح بين روسيا و تركمانستان واذربيجيان وجورجيا وإيران و قطر، وباتت الدراسات تتحدث عن ترتيب جديد يقره واقع المخزون الاستراتيجي الجديد حيث أولا روسيا: (في حوض غرب سيبيريا: باحتياطي يُقدّر بـ 643 تريليون قدم مكعب) وثانياً الربع الخالي (426 تريليون قدم مكعب)+ حقل غوار الكبير شمال شرق السعودية (227 تريليون قدم مكعب) ، و ثالثاً غاز البحر الأبيض المتوسط 345 تريليون+5.9 مليار برميل من الغازات السائلة +1.7 مليار برميل من النفط ، وجلّ ذلك في سورية، حيث تتحدث دراسات أخرى عن أن ما يُرى في البحر المتوسط مركزه في سورية وأن اكتشاف حقل «قارة» بما يحقق 400 الف متر مكعب يومياً قد حسم أمر واقع ثراء سورية بالطاقة وصولاً إلى اعطائها المرتبة الأولى، ورابعاً حزام حقول الغاز على امتداد الخليج العربي (حزام زاغروس) من إيران إلى العراق(212 تريليون قدم مكعب).
تقول الفورين بوليسي: بالنسبة لـ»إسرائيل»، فإن الغاز صفقة مربحة في كل الاحوال وبغض النظر عن كمية الصادرات وإلى من تتجه. كان يمكن لـ»اسرائيل» الاستفادة من الارباح بشكل كبير خلال العقود الماضية،
لكن المحلل في معهد «بروكينغز» الاميركي، ناتان ساكس، يرى انه من الافضل لاسرائيل «أن تأتي هذه الطفرة الآن، لان اقتصادها بات أكثر نضجا.. ان ما يجري لها نعمة». ومن يحاول مراجعة فكرة تصدير الغاز الى اوروبا، يصطدم بالصمت الكامل. اول الاسباب عائد للشك باتكال الدول المستهلكة في أوروبا على النفط والغاز العربي التزاما منها باتفاقات التوريد معها.
وحسب الفورين بوليسي فإن السبب الثاني يتعلق بخط الأنابيب الثابت الذي سيشكل ممرا للغاز، وما اذا كان سيحتاج الى اجتياز سورية قبل ان يتوجه الى اليونان وبقية دول أوروبا. اما السبب الثالث، فهو الشك بعدم رغبة التجار الموردين بالالتزام كثيرا تجاه أوروبا في وقت هناك جار «جائع» هو آسيا. ويرى مراقب الشرق الأوسط في مجموعة «أوراسيا» كريسبين هاويس، أنه يمكن لسورية ان تغير مجريات اللعبة. قد يُلحظ ذلك في لبنان، وتحديدا في ما يتعلق بـ«حزب الله»، «ففي حال سقوط نظام الأسد، سيكون هناك مستقبل آخر لحزب الله ولأمن الحدود الشمالية لـ»إسرائيل»، وقد يؤدي ذلك الى استعادة التفاوض على اتفاق بشأن الحدود البحرية المشتركة بين «إسرائيل» ولبنان».
إن انتقال الغاز إلى البحر المتوسط يستوجب المرور عبر سورية كما أن اختيار إيران طريق العراق ثم سورية فالبحر المتوسط لنقل الغاز قد أطاح بمشروع الأميركيين (غازبابوكو) وثبت مشروعي السيل الشمالي والجنوبي الروسيين مع ما يضاف لهما من استثمارات في شرق المتوسط كأولوية على حساب الأميركيين والغرب. حيث لا يستثمر الأميركيون إلا في «اسرائيل» وقبرص لاهثين وراء الغاز والنفط اللبنانيين بعد ضياع فرصة الغاز السوري
واضح أن دمشق أرسلت رسائل باستعدادها لتمرير الغاز السعودي والإيراني ومن محيط روسيا للبحر المتوسط ولا تقطع الطريق أمام تعاون مع تركيا، لكن اللغة المستخدمة حالياً أن انتقال الغاز القطري ليس في أجندة السوريين.
ولا تزال المعركة ... مستمرة.
رئيس مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية