دام برس:
عاد الى بيته وصعد الى الدرج ولأول مرة لم يبحث عن المفتاح، ودخل فلم يجد أحداً في البيت، لا الزوجة ولا الأولاد، خرج الى الشرفة لينظر الى حديقة الجيران، لعله يرى شيء، فرجع الى الوراء لأنه لم يجد شرفة ولا سور يمسك حافة الشرفة لقد سقط السور وفرش البيت ومعه الشرفة الى حديقة الجيران، أخرج موبايله واتصل بزوجته، فلم يحظى بأي رد، اتصل بأولاده فلم يحظى بأي رد، فجعل يضرب رأسه بالجدار ويبكي كالمجنون، لقد أدرك بأنه تحوّل الى أب مفجوع، سيحافظ على ما تبقى من آثار من أحبهم وأحبوه، ويعيش على أمل أن يلقاهم، هناك حيث لا يظلم انسان، ولا يقتل الأخ أخاه.
خرج من البنك يحمل الأوراق في محفظة سامسونايت بنية أنيقة، كان يحاول ان يتذكر اين وضع سيارته، فكان هذا الامر هو آخر أمر يصدره لدماغه، لأن دماغه خرج من عظام جمجمته والتصق بالجدران.
خرجت ومعها ابنها الصغير في عربته لشراء بعض الضروريات ووقعت تتخبط بدمائها واصبعها يشير الى الطفل والعربة وأشلاء الطفل في مكان وعربته في الشارع الخلفي.
كان يقصد وجه الخالق لتأمين رزق عياله، ومنعته زوجته من الذهاب، وطلبت منه ان يشفق على نفسه لأن الطبيب طلب منه ان يلزم البيت ريثما يبرأ وتزول أعراض الحمى، ولأن قيادة الميكرو باتت تدخل في فئة الاعمال الشاقة جداً والخطرة جداً بسبب دوام التعرض، فأجابها نحن نتدبر رزقنا يوم بيوم وفي اليوم الذي لا نعمل فيه لا نأكل...واضطرت للابتعاد عن طريقه ومضى يغالب الحمّى ليحظى بحمّى من نوع خاص فلقد تفحّم مع ركابه في الميكرو.
خرجت لا تألو على شيء، ابنها في حضانة الاطفال ودوامها لم ينته بعد، أعطوها نصف علبة محارم غرستها في رأسها، ونزلت السلالم كلها ووقعت على الباب الرئيسي لأن حجم الدماء في جسم الانسان محدود، ولا بد أن ينفد بعد النزف.
ركض لا يعرف الى أين والشظايا دخلت في جسده بعد ان اخترقت الملابس، يطلب أي مستوصف أو أي عيادة "فالروح عزيزة" ركض حتى وقع وهو يتخبط بدمه، ومات دون أن يعلم انه ليس في جيبه إلا تذكرة باص تركها للعودة، ودون ان يعلم انه لا عودة له بعد اليوم.
تبدأ المسألة بإنفجار مروع، ويتم تسريب الخسائر بشكل تصاعدي فيقال شهيد ثم اثنان وعشرات الجرحى، وفي الحقيقة فلا أحد يعلم بالحقيقة، التي غالباً ما تكون مروعة، وخاصة في ظل تفجير كهذا لا يعلم إلا الله كمية المادة المتفجرة المستخدمة فيه، والموضوعة في داخل السيارة والتي يمكن ان تنقل على دفعات صغيرة وتخزن هناك وتحضر هناك بحيث لا يفيد معها لاحاجز ولا تفتيش.
اما الحقيقة فإن سوريا تذبح من الوريد الى الوريد، والشعب المسكين يدفع الثمن من جوعه ومن دمه ومن مستقبله ومستقبل وطنه الضائع، وهناك يتندرون ويضحكون ويرفعون الانخاب في فنادق الخمسة نجوم ويطيرون من الفرح، ويطيرون حول العالم بالدرجة السياحية وبمستوى الشخصيات الكبيرة المهمة وهم نكرات، ونحن هنا نذوق السم الزعاف وندفع دمائنا وهنائنا ونموت كل يوم ألف مرة، ونخرج لنودع أطفالنا عند ذهابهم الى المدرسة ونخرج لإستقبالهم عندما يعودوا ونحمد الله على سلامتهم.
في منطقة طلعة الشهبندر الكثير من المدارس والكثير من الطلاب وفي الغد ستخرج الكثير من الجنازات وستفجع الكثير من الامهات، هذا هو المجون وهذا هو الجنون، ونحن نطلب الرحمة والمغفرة من خالق السماوات والارض، وتزداد الحوادث ويكثر الموت.
متى سيتوقف هذا العبث وهذا المجون...هل بعد أن نضطر لبناء مقابر جديدة فلا نجد من يحملنا اليها.
عشرات الآف من الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى ونصفهم اصابات شديدة تؤدي الى عجز تام أو إعاقة أو تشوه ونحن لا نملك قوت يومنا، فكيف سندفع ومن أين.
فرضوا علينا ظروف استثنائية، وعلينا البحث عن حلول استثنائية أو...مواجهة أن نضطر لبناء مقابر جديدة دون أن نجد من يحملنا إليها، نحن باقون هنا شوكة في حلوق الفاعلين، رغم القهر ورغم الموت ورغم الجوع، فهذه شامنا وعرائش الياسمين لنا وأشجار المشمش والكبّاد والسفرجل وحقول الورود الدمشقية هي من غرث آبائنا وأجدادنا، فلا تقنطوا من رحمة الله حيث لا بد أنه:
ما بين غمضة عين وانتباهتها * * * * يبدّل الله من حال الى حالِ
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
الاثنين يوم تفجير طلعة الشهبندر الواقع في 08 04 2013
arasouvalian@gmail.com