التراجع الأميركي: أسباب وتداعيات - زياد حافظ

التراجع الأميركي: أسباب وتداعيات - زياد حافظ

محاضرة ألقيت في مركز "باحث" للدراسات الإستراتيجية في منظقة بئر حسن في 27 شباط 2013
اولا: التراجع العسكري

ثانيا : التراجع الاقتصادي

ثالثا- التراجع السياسي

رابعا- التحوّلات الجذرية في الولايات المتحدة

التحوّلات الجذرية في الولايات المتحدة تكمن في أربعة محاور رئيسية: المحور الأول هو التحوّل الإجتماعي والسكاّني. المحور الثاني هو عسكرة المجتمع الأميركي. المحور الثالث هو تردّي البنية التعليمية حيث فقدت الولايات المتحدة ريادتها في التعليم الإبتدائي والثانوي وعلى شفير فقدان الريادة في التعليم الجامعي. المحور الرابع التحوّل من إقتصاد إنتاجي إلى إقتصاد ريعي وما يرافق ذلك من تداعيات على الحوكمة والمحاسبة والمسائلة.
أ‌- التحوّلات الإجتماعية. أما على صعيد التحوّل الإجتماعي فلا بد من التوقف عند النقاط التالية. النقطة الأولى هو أن النمو الطبيعي للسكان في حال تراجع حيث عدد أفراد الأسرة في إنخفاض. للحفاظ على معدّل النمو الطبيعي تستعين الولايات المتحدة بالهجرة. لكنها لا تستطيع أن تتحكّم ب"لون" و"نوع" الهجرة الوافدة مما خلق "أقلّيات" وازنة في بعض المناطق أخلّت بالبنية التقليدية السكّانية البيضاء الأنكلوساكسونية البروتسطانتية. ويتجلّى ذلك الأمر في ولايات الجنوب الغربي الأميركي حيث أصبحت الجالية المنحدرة من أصول أميركية لاتينية في موقع الأكثرية في المدن الكبرى. والولايات المعنية هي كولورادو وتكساس وأريزونا ونيومكسيكو وجنوب كاليفورنيا وهي ولايات كبيرة وازنة في عدد السكاّن والحجم الإقتصادي. وأصبحت اللغة الإسبانية اللغة السائدة في المدن والقرى الحدودية. هذا جعل الباحث الراحل سامويل هنتغتون يحذّر بأن الخطر الذي يحدّق بالولايات المتحدة ليس صراع الحضارات كما كتب في بداية التسعينات بل فقدان الهوية الأنكلوساكسونية البيضاء البروتسطانتية ! (كلام عنصري وفتنوي بإمتياز). إن من هو مطّلع على تاريخ الولايات المتحدة يعرف مدى كراهية البروتسطانت للكاثوليك الذين لا يتعتبرون الآخرين من المسيحيين بل من "أتباع البابا". هذه الذهنية تنذر بإنفجار المجتمع الأميركي إذا ما استمرّ الوضع الإقتصادي والإجتماعي في حالة ترهّل.
النقطة الثانية في التحوّل الأجتماعي هو ما أوردته إحصاءات التعداد السكّاني في الولايات المتحدة عامي 2000 و2010 حيث أظهر التعداد أن أكثر من خمسين بالمائة من الوحدات العائلية تفتقد إلى أحد الأبوين غالبا الأب. هذا يؤدّي إلى تفكّك الوحدة الأساسية للمجتمع أي العائلة وما يرافقها من تداعيات في فقدان السيطرة على المراهقين وتزايد الإجهاض وتفشّي استعمال المخدّرات. فتماسك الوحدة الإجتماعية مهدّد وهذا لا يبشّر بالخير لمستقبل الولايات المتحدة.
النقطة الثالثة هو زيادة التطرّف الديني والعرقي في العديد من الولايات. التطرّف الديني أفرز خطابا عنصريا إنغلاقيا يتنكّر للديانات الأخرى وهذا ما يساهم في تهديد وحدة النسيج الإجتماعي. أما على صعيد التطرّف العرقي فرغم الإنجازات التي حُققت لمصلحة السود والتي تجلّت بوصول اوباما إلى الرئاسة فإن النزعات العنصرية في عدد من الولايات أدّت إلى تكاثر الميليشيات التي تنادي بالتفوق العنصري الأبيض والتي تتلازم أيضا مع كره الديانات والطوائف الأخرى. هذه الظاهرة ليست جديدة ولكن في زمن الضيق الإقتصادي تعود لتطلّ على المجتمع الأميركي.
النقطة الرابعة هي تفشّي ثقافة العنف منذ المدرسة إلى الجامعة إلى الحياة العامة. الرياضة وألعاب الفيديو والأفلام كلّها تدور حول تمجيد ثقافة العنف وليست الجائزة الأخيرة في الأوسكار التي أعطيت لفيلم "ارغو" التي تتغنّى ب"نجاحات" الوكالة المركزية للإستخبارة إلا دليلا على ذلك. الجدير بالذكر أن الفيلم الأكثر تنافسا له هو الفيلم الذي يمجّد الأعمال البطولية للقوات الخاصة البحرية في مطاردة وقتل بن لادن. ثقافة العنف متأصلة في الوجدان الأميركي وإذا ربطناها مع تفشّي السلاح وسهولة حمله وثقافة فضّ الخلافات بالعنف فهذا ينذر بتمزيق النسيج المجتمعي إضافة للعوامل الأخرى. وثقافة العنف تتلازم مع إنتشار حمل السلاح الذي يصونه الدستور الأميركي. فعلى ما نعلم هو الدستور الوحيد في العالم الذي يسمح بالميليشيات الخاصة ولوبي السلاح هو من اقوى اللوبيات في الولايات المتحدة. لذلك نرى شبه استحالة في ضبط حمل السلاح وبالتالي نرى تكرار المآسي من القتل بين صفوف التلاميذ في المدارس الأميركية. في العقد الأخير سُجلات 37 حادثة قتل جماعي بين تلاميد المدارس الثانوية دون أن يتحرّك المجتمع الأميركي.
ب‌- عسكرة المجتمع الأميركي. كنّا قد أشرنا في دراسة سابقة على ظاهرة عسكرة المجتمع الأميركي. وهذه الظاهرة تتجلّى في عدة قطاعات. أولا دور وزارة الدفاع في دفع العجلة الإقتصادية والبحوث العلمية. ونضيف إلى ذلك ظاهرة خصخصة ما يسمّونه الحرب على الإرهاب. في أفغانستان والعراق تجاوز عدد المقاولين الأمنيين 260 ألف مقاول من القطاع الخاص حتى نهاية 2010 . أما حجم مبيعات ذلك القطاع الأمني الخاص فيتجاوز 100 مليار دولار في آخر 2003 . وعندما نقول "مقاول" نعنى "مرتزقة"! وتفيد بعض الدراسات أن أكبر 25 شركة مقاولة للدفاع في الولايات المتحدة توظّف أكثر من مليونين عامل وموظف وتقدّر مبيعاتها بأكثر من 500 مليار دولار وتجني ما يوازي 52 مليار دولار . أما عدد الشركات التي تتعاقد مع وزارة الدفاع فيبلغ عددها أكثر من 240 ألف شركة أو مؤسسة . هذا التطوّر ناتج عن "خصخصة" قطاعات واسعة من وزارة الدفاع بدأت في عهد وزير الدفاع دونالد رمسفيلد. فإذا افترضنا أن متوسط عدد العاملين في تلك الشركات هو مائة (الحقيقة هو أن المتوسط اكثر من ذلك بكثير) فإن عدد العاملين قد يبلغ 24 مليون عامل ما يدّل على أهمية وزارة الدفاع في الإقتصاد الأميركي. وإذا اتبعت سياسات تقشّف جذرية ستنال منها حصّتها تلك الوزارة فإن التأثير على الإقتصاد الأميركي واضح ومباشر.
عسكرة المجتمع الأميركي تتزامن مع زيادة في الفجوة الإقتصادية بين فئة الواحد بالمائة وفئة التسعة وتسعين. الفئة الأولى تعيش في مربّعات أمنية محمية بأسوار وأسلاك كهربائية وكاميرات تنصّت وبالتالي منعزلة عن باقي أميركا. وهذا ما ينذر بمجابهات مستقبلية عند تفاقم الأمور الإجتماعية.
ت‌- تردّي المرتبة التعليمية في الولايات المتحدة. اشار الإعلامي الأميركي فريد زكريا في مقال مثير في مجلة "تايم" الصادرة في 3 آذار 2011 أن الولايات المتحدة اصبحت في المرتبة 17 في التعليم الثانوي عالميا والمرتبة 25 في الرياضيات. هذه بعض المؤشرات المقلقة التي على ما يبدو ما زالت تبشّر بالمزيد من التراجع طالما الإستثمار في التعليم العام ما زال موضع نقاش بين الديمقراطيين والجمهوريين. هؤلاء الآخرين لا يحبّذون التعليم العام بل التعليم الخاص. ومنهم من يرفض النظريات العلمية حول الخلق والتطوّر منهم الرئيس جورج بوش الأبن. ليس في الأفق ما يدّل أن حالة الإنكار لتردّي المستوى التعليمي أصبحت موضع اهتمام من قبل السلطات رغم الوعود الموسمية في الإنتخابات لمعالجة ذلك. أما على صعيد الجامعات فهناك دراسات تفيد أن الجامعات في الغرب في حال تراجع أمام جامعات الشرق . والوضع في الولايات المتحدة يتلخّص بكلمتي "الحراك الهابط"، وهذا يعني الكثير لبلد قامت صورته على التفاؤل والتقدّم .

ث‌- التحوّل إلى إقتصاد ريعي. التراجع الإقتصادي ناتج عن التحوّل من إقتصاد إنتاجي للصناعة والزراعة والخدمات ذات القيمة المضافة العالية إلى إقتصاد إفتراضي ريعي مبني على خلق الثروة من لا شيء عبر التلاعب بأسعار السندات والأوراق المالية والمضاربة المختلفة في الأوراق المالية والعقارات. هذا التحوّل أنتج نخبا لا يهمها مصير الشركات التي يعملون بها بل المردود السريع لهم. الإنفصام بين الإقتصاد الإفتراضي والإقتصاد الحقيقي ينذر بخلق ثقافة الأوهام وهذا ما نشهده اليوم. ثقافة الريع ثقافة مدمّرة تنتج وتغذّي ثقافة الفساد واللامسائلة واللامحاسبة واللامبالاة لشؤون المجتمع والوطن. أمثلة عديدة تدّل على ذلك عرضتها هوليوود في أفلامهها كفيلم المخرج اوليفر ستون : وال ستريت 1 و2. الفساد يعمّ آداء المسؤولين في القطاع الخاص كما في القطاع العام بسبب تخفيض وتهميش القيود الرقابية على سلوك المسؤولين. وليست الفضائح المالية الأخيرة إلاّ خير دليل على إمكانية الإنفلات من العقاب خاصة في القطاع المالي حيث بدّد المسؤولون مليارات من دولارات الموديعين دون أي مسائلة أو محاسبة.
التداعيات
في المحصّلة هناك نوعان من التداعيات. النوع الأول هو على الصعيد الخارجي. فالتراجع على الصعيد الخارجي تجلّى في الإخفاقات العسكرية في كل من العراق وأفغانستان إضافة لللأئحة الطويلة للإخفاقات العسكرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فإمكانية استعمال القوة العسكرية لتنفيذ أجندات سياسية يضعها إما البنتاغون وإما مصالح المجمع العسكري الأمني الصناعي والمالي وإما اللوبيات المتشدّدة أصبحت في حال تراجع واضح تسمح لقوى أقل قوّة من الولايات المتحدة أن تقف وتقول لها "لا". لم يعد المزاج الأميركي يتقبّل حروبا جديدة كما أن كلفة تلك الحروب أصبحت فوق طاقة الولايات المتحدة. لذلك بدأت تلجأ إلى خطط بديلة تكلّف فيها "حلفائها" بالقيام بما يلزم. لكن هذه السياسسة التي رأينها في الأزمة السورية حيث تمّ تكليف كل من قطر وتركيا والمملكة العربية السعودية وصلة إلى طريق مسدود وتنذر بالإنفلات لضعف تقدير الموقف عند "الوكلاء".
أما على صعيد الداخلي فهشاشة الوضع الإقتصادي وتردّي الحالة السياسية والتحوّلات المختلفة في المجتمع الأميركي وتراجع المرتبة التعليمية، وعسكرة المجتمع وخصخصة الوظائف العسكرية، كل ذلك ينذر بتلاشي "الحلم الأميركي". حالة الإنكار الداخلي وفي السياسة الخارجية ناتج عن عجز المسؤولين في اتخاذ القرارات الجذرية لإيقاف التدهور. القرارات المطلوبة مؤلمة جدّا وتقتضي القبول بتراجع ملموس في الرفاهية وهذا ما لا تستطيع أن تتحمّله القيادات السياسية المعنية بإعادة أنتخابها أكثر مما هي معنية بمصلح البلاد.
إذا ما هو المستقبل؟ قلنا في مناسبات عديدة أنه إن لم تقدم القيادات السياسية على اتخاذ القرارات الحاسمة لإعادة بناء النظام السياسي ليصبح أقل فسادا وأقل تبعية للمصالح المالية وإذا لم يتمّ إعادة هيكلة الإقتصاد الأميركي إلى قاعدة إنتاجية مجدّدا، وإذا لم تقدم الولايات المتحدة على إعادة تأهيل البنى التحتية من طرق وجسور ومستشفيات ومدارس وجامعات فإن مصير الولايات المتحدة لن يكون مختلفا عن مصير الإتحاد السوفيتي.

» هذا ما أجبر قطر على التراجع!!
» الأسد: التراجع الأميركي بدأ ... لكنه بطيء
» تحالف المتضررين يجتمع في تركيا لوقف التراجع الأميركي
» لازلت ترعبهم و أنت في ديار الحق .. الرئيس الأميركي نيكسون قدم عينة من تراب و صخور القمر هدية للقائد الخالد حافظ الأسد ..فكيف بادله الهدية ؟؟
» خطوط التراجع بقيادة كيري....غالب قنديل