يظهر التناقض جلياً بين مضمون الزيارة أو الزيارات الأخيرة التي قام بها مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية الى سوريا كوفي أنان
الى كل من دمشق وطهران وبغداد في إطار مساعيه لحل الأزمة في سورية، وبين التصريحات النارية التي تتوالى والصادرة عن الإدارة الأميركية ورئيسة
دبلوماسيتها هيلاري كلينتون وتركز بشكل اساسي على تسويق رؤيتها لحل تلك الأزمة عن طريق تنحي الرئيس السوري بشار الأسد.
ما رشح عن اجتماع أنان بالرئيس السوري يشير الى إيجابيات كبيرة في جديد ما حمله المبعوث الدولي معه من إقتراحات للقيادة السورية بعيداً عن الفكرة التي يتداولها الأميركيون وبعض العرب، إلا أن التفاصيل التي تناولها أنان في حديثه مع الرئيس الأسد ركزت على كيفية نزع سلاح المسلحين أو بتعبير آخر إلقاءهم لسلاحهم وتسليمه للحكومة، مقابل فتح ممرات آمنة لهم للخروج من البلاد من دون إخضاعهم لعقوبات تنص عليها القوانين السورية، خاصة وأن هناك مقاتيلن من جنسيات عربية قد يشكل اعتقالهم أزمة مفتوحة مع دولهم في مرحلة لاحقة.
وفي سياق اللقاء بين الأسد وأنان أيضاً، لا بد من الإشارة الى أن القيادة السورية تساءلت عن كيفية ضبط المسلحين خاصة وأنهم شراذم غير مسؤولة ولا تأتمر بإمرة أحد، فيما الإلتزام الذي ستقدمه الحكومة السورية في هذا المجال هي قادرة على تنفيذه، وهو ليس حال الآخرين الذين ترفض الدول الراعية لهم إصدار أوامرها اليهم بالكف عن القتال، فأتى جواب المبعوث الدولي عبر رئيس بعثة المراقبين الجنرال روبرت مود الذي حضر الإجتماع بأن فريقه استطاع أن يرصد الجماعات المؤثرة لدى المسلحين، مشيراً الى انه على تواصل معهم وبالإمكان الحديث معهم بهذا الشأن.
غير أن هذا الطرح الذي تمت مناقشته لم يلق على ما يبدو آذاناً صاغية في الدول من حيث أتى أنان، إذ أن ما أعقبه من تصريحات وتحركات لـ”مجموعة العمل” لحل الأزمة في سورية ذات التوجه الغربي، بقيت على أدائها المنحاز لفكرة إكمال الحرب على سورية، ما يعني أن ما حمله أنان إنما يندرج في واحد من إطارين:
الأول: أن يكون مقترح أنان هو عبارة عما يفكر به شخصياً ولم يتم تدواله حتى مع عرّابي المسلحين من دول عربية أو غربية تشكل رمحاً “مثلث الشعب” (الولايات المتحدة، والمملكة السعودية وقطر)، بحيث لا يستطيع المبعوث الدولي أن ينفذ ما يفكر فيه لهذه الناحية، في حين أنه أقر خلال المحادثات بأن تلك الدول تواصل مد الجماعات المسلحة بالسلاح والمال وبموافقة الولايات المتحدة ولو بلغة دبلوماسية. وهذا الإطار يَفترض أن أنان سيعمل مع تلك الجهات أو الدول على بلورة ما يشبه “التسوية” التي تقوم على “حل تكتيكي” للأزمة من أجل وقف نزف الدم بغض النظر عن البعد الإستراتيجي الذي تتسم به الأزمة في سورية والتي وصفها الرئيس السوري بـ”الحرب الدولية” التي تشن على بلاده.
الثاني: أن يكون مقترح أنان “مناورة” لكسب المزيد من الوقت بعد الأسلوب العنيف لتعامل الحكومة السورية مع الواقع على الأرض، ما نتج عنه تراجعاً واضحاً في حركة المسلحين على أكثر من محور من محاور القتال، وفي النقاط الساخنة التي أخذت حيزاً مهماً في مناقشات أنان مع الرئيس الأسد الذي اقترح بدوره أن يبدأ تنفيذ خطة المبعوث الدولي وأفكاره ومقترحاته الجديدة من تلك النقاط.
في كلا الإطارين لا يبدو أن ما حمله أنان قابل للتنفيذ لأن الآليات التي قدمها تفتقد الى القرار السياسي الذي اعترف بنفسه أنه لم يحصل عليه وأن دولاً بعينها مستمرة بتقديم دعمها، الأمر الذي من شأنه نسف مهمته بكاملها وليس فقط إعاقة مقترحاته، إذ بدى أنان من خلال جولته الأخيرة كمن يفتش على إنقاذ مهمته من الفشل بعدما تأكد من ذلك من خلال سلسلة المؤتمرات التي عقدت في اكثر من عاصمة دولية، فيما ذهب مؤتمر جنيف بعيداً في فتح باب الأزمة على مصراعيه تاركاً حل الأزمة لخيار “الحسم” الذي تبدي حياله دمشق تماسكا واصرارا على استكماله وهو ما استند إليه أنان على ما يبدو في ما قدمه من مقترحات جديدة بدت وكأنها إذعانا كاملا للشروط السورية.
إذا كانت خطة أنان تأتي في الإطار الأول أي من بنات أفكاره وما خلص اليه بعد أشهر طويلة على بدء مهمته أو بالتنسيق مع الدول المعنية بالأزمة أو من دونه في إطار “المناورة”، فإن القيادة السورية ماضية في تنفيذ خطتها بلا هوادة وهي تسجل تقدماً ملموساً في معالجة النقاط الساخنة التي حاول الأسد إطفاءها من خلال افكار أنان حقناً للدماء وتوفيراً للوقت والجهد والمال.
وتقول مصادر سياسية مطلعة إن التقدم الذي تحرزه القوات السورية على الأرض فرض معادلة جديدة دفعت بالتحالف العربي- الغربي الى التفتيش عن مخارج لتطويق الإنجاز السوري عبر مستويين من التحرك، سياسي واسع من خلال مجموعات المعارضة السورية باتجاه روسيا تحديداً، وأمني من خلال محاولة توسيع مساحة تحرك المسلحين وخاصة من لبنان الذي خضع في الايام القليلة الماضية لتجربة قاسية في الشمال اتسمت بالبعد المذهبي واستهداف الجيش اللبناني واللذين استحضرا فور زيارة عضو الكونغرس الأميركي جون ماكين، الأمر الذي فرض تحركاً سريعاً للمؤسسة العسكرية اللبنانية باتجاه عكار في مهمة لحماية الحدود من عبث المسلحين وهو ما سيترتب عليه نتائج مهمة في الداخل السوري أيضاً.
سورية الان - البناء