أطفال سوريا شهود.. من يمحو الحرب من ذاكرتهم؟

أطفال سوريا شهود.. من يمحو الحرب من ذاكرتهم؟

هدأ قليلاً ضجيج الانفجارات. عاد الناس لترميم بيوتهم واستعدوا لبدء يوم جديد، لكن الصور التي شوهدت في انفجار دمشق الأخير يصعب إزالتها ونسيانها، وستبقى مؤرقة لمخيلة الكثيرين. وإذا كان الأمر مهولاً بالنسبة الى الكبار، فكيف سيكون حال الأطفال؟

ثمة حقيقة مرة تتجسد يومياً، وهي انتظار ظهور جيل يؤسس لكل أشكال الاضطرابات النفسية، وقد بدأت علامات هذه الاضطرابات تظهر منذ زمن في المدارس ومراكز النازحين وفي المناطق التي تعيش يوميات الدم والنار. والمصيبة الأكبر أن لا حلّ سريعاً لهذه المسائل، في ظلّ استمرار الحرب، وافتقار سوريا في هذه المرحلة إلى كوادر متخصصة لمعالجة مشاكل مماثلة. عند حصول الانفجار في «شارع الحياة» في دمشق الخميس الماضي، وبينما كان الدخان يخترق السماء مترافقاً مع صراخ ذوي الضحايا، وجد بعض المارة طفلة عمرها عشر سنوات تجلس على حجارة الرصيف المواجه لموقع الانفجار. تلهو الطفلة، التي يغطي وجهها ويديها دخان الانفجار، بصمت ببعض قطع الزجاج المتطاير غير آبهة بالجروح على يديها. تتملكها حالة صدمة واضحة تمنعها من الإجابة على أي سؤال. بدا أن المارة يئسوا من محاولة الكلام معها فتركوها وشأنها، حتى الطبيب الشاب الذي صودف وجوده في المكان، لم يفلح في معرفة تفاصيل تمكنه من مساعدتها. بعد ساعات على هذه الحال، انفجرت الفتاة في بكاء هستيري وكانت تكرّر كلمات غير مفهومة، فيما يبدو أنها فقدت من معها ولم يعرف مصيره. كان هذا حال طفل آخر بقي متشبثاً بسور الحديقة المجاورة لمكان الانفجار، وهو يصرخ باكياً للبحث عن أمه التي عبرت الشارع لتحضر شيئاً ولم تعد. مشهد الانفجار يوم الخميس لم يكن وحده ما روّع الأطفال المتواجدين في المكان، من أتى أهلهم وذووهم لاصطحابهم من المدرسة القريبة. هناك من كان الانفجار سبباً في استعادته لذكريات مجازر سابقة كان شهدها، أو هرب منها لاجئاً إلى دمشق. يروي أحد الأطفال ذكرياته عن مجزرة في حيّ كرم الزيتون الحمصي، حيث رأى قتل وذبح وحرق الجثث. طفل آخر عاد ليعيش واقعة مقتل أحد أخوته في انفجار مماثل في منطقة المعضمية في ريف دمشق، إثر انفجار سيارة مفخخة في منطقة مزدحمة. يتحدث الطفل عن مشهد أشلاء أخيه في الشارع، ثم ينتقل ليروي رحلة النزوح المريرة بين منطقته وحي المزرعة حيث بقي مع والدته. بعض الأطفال أظهر حالة من اللامبالاة تعكس مرارة لا تنتهي. يتحدث طفل بدا متماسكاً أكثر من غيره عن «سحابة الفطر السوداء» التي غطت المكان، ثم يقول ضاحكاً «يا رجل، أذهب كل يوم لأحضر الخبز من الفرن، وأتوقع أن يحدث لنا ما حصل في باقي المناطق». ثم يردف مؤكداً «قوة الانفجار عادية قياساً بما كنا نسمعه في منطقتنا»، التي يرفض ذكرها، ليختم كلامه قائلاً «أنا لا أخشى الموت». ما سبق لم يكن سوى عيّنة قليلة جداً من أطفال سوريا وما يصيبهم يومياً جراء جنون القتل والدم والقذائف. هناك جيل جديد بأكمله يغرق في الاضطرابات النفسية، التي تتفاوت في حدتها وتصل إلى أقصاها مع الأطفال في المناطق الساخنة ممن يشاهدون على مدار الساعة مختلف أشكال القصف والاشتباكات والإعدامات. لتتعمّق المأساة حين يتورط الطفل بالقتل والذبح بتهليل وتصفيق من حوله الذين يعتقدون أنهم بذلك يعلمون أطفالهم القوة والصمود. كلام الطب.. الحلول طويلة الأمد يعتبر الطب أن الصدمة، وفقاً لتعريف عالم النفس فرويد، هي كمن يحذف بضع كلمات من كتاب فيتغير المعنى بكامله. وهو ما يعني بشكل أو بآخر أن الصدمات النفسية التي يتعرض لها الأطفال كفيلة بإيجاد جيل معرّض لكل أشكال الاضطرابات النفسية والسلوكية، بداية من الميل للعنف وانتهاء بالتوهم والنرجسية والاكتئاب. وتتفاوت الحالات بين القدرة على تخطيها ببعض الدعم النفسي وأخرى تحتاج إلى مراكز وكوادر متخصصة بالأطفال أكثر من غيرهم، فيما يتجه آخرون إلى حل يتمثل بالتأقلم مع المشكلة بدلاً من التركيز على نسيانها لأن حادثاً بسيطاً من شأنه أن ينسف كل محاولات تناسي الصدمة، وهنا يأتي التركيز على تقوية الأنا عند الطفل وتعزيز الثقة والتماسك. وفقاً لكلام الطب النفسي فإن الأطفال والمراهقين يتعرضون بنسبة أكثر من 40 في المئة للصدمات النفسية. وفيما يظهرون قدرة على التحسن بشكل سريع، لا تجد حالات كثيرة في سوريا اليوم سبيلاً إلى ذلك. إذ تظهر المعاناة في مشاكل الخوف والاكتئاب والغضب. وقد تحدث ردات الفعل فوراً أو بعد أيام أو أسابيع، وهو ما حصل مع العديد من الأطفال النازحين الذين بقوا متماسكين حتى استقرارهم في مكان آمن، وحينها بدأت الأعراض بالظهور سريعاً. ما سبق يشير إليه الطبيب النفسي إبراهيم العثمان، ويضيف موضحاً «لا يمكن اعتبار أي من الأطفال الذي تلقوا دعماً نفسياً أنهم قد خرجوا من دائرة الخطر، لأن كل عوامل المشكلة مازالت محيطة بهم. بداية، من تكرار المشكلة ذاتها، مثل التفجير أو حالات القتل والاغتصاب، سواء تعرض لها أو شاهدها مباشرة أو على التلفاز». ويشرح الطبيب، الذي تنقل في أكثر من منطقة سورية، أن ملاجئ الإيواء قد تكون عاملاً مسرعاً في انتكاس الحالة، أو عاملاً يدفع لتحسنها في حالات أخرى. وذلك يتبع للظروف المحيطة، وبالتالي من المهم للغاية خلق نشاطات تبعد الأطفال عن المشاهد القاسية، من دون أن يعني ذلك إيجاد عالم وهمي يزيد المشكلة بمجرد عودة الأطفال إلى أرض الواقع. أضف إلى ذلك ضرورة إعطائهم المساحة للتعبير عن أنفسهم، من خلال القيام بنشاطات تتعلق بالرسم أو الأداء المسرحي أو الرياضة. بدوره، يعتبر الطبيب صفوان عبود أن الهدف الأساسي هو العمل على تنمية الأنا لدى الطفل. ومفهوم الأنا يتم تعريفه بقدرة الفرد على مواجهة الصدمات في الحياة، ولكن من دون تجاوزها إلى حد التوهم. وهو ما وقع به أطفال كثر قابلهم الطبيب الشاب في أكثر من مركز للنازحين. ولا تزال مسألة الدعم النفسي عموماً، ودعم الأطفال خصوصاً، محصورة بفئة وحيدة هي الهلال الأحمر، فيما لم تتمكن المنظمات الدولية من الدخول إلى مراكز النازحين، وبالتالي أصبح الثقل بمجمله مركزاً على كوادر المنظمة السورية أو الجمعيات الأهلية الناشطة على المناطق الحدودية أو في مخيمات الحدود الشمالية في تركيا ومخيم الزعتري في الأردن. أما في الداخل فإن المهمة تبدو أكثر صعوبة، بحسب عبود. وتنشط فرق الهلال الأحمر السوري في مراكز الإيواء في المدارس وفي المناطق التي تشهد هدوءاً نسبياً، فيما تعمل مراكز أخرى بسرية أكثر من دون أن يقبل القائمون عليها بإعطاء أي تفاصيل. لكن بشكل تقريبي، يتحدث البعض عن أن نسبة الحالات التي تتطلب مراكز مختصة تبقى قليلة، وتتركز الحالات الصعبة بمن تعرض لصدمة الاعتداء الجنسي أو شهدها وكذلك بمن شهد حالات إعدام أو ذبح متتالية. في المقابل، يبقى دور الأطباء النفسيين ضئيلاً لقلة عددهم أولاً، وبسبب الثقافة الاجتماعية السائدة في مختلف المناطق والتي تعتبر زيارة الطبيب النفسي أمراً إما بالغ السرية أو عديم الفائدة. ووفقاً لأرقام منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف»، فإن 23 ألف طفل فقط تلقوا دعماً نفسياً من أصل 300 ألف طفل وضعتهم المنظمة في خطتها من أصل أعداد النازحين الهائلة في الداخل والخارج. أما تقارير الأمم المتحدة، فتشير إلى غموض في الأرقام حول انتهاك الطفولة في سوريا بفعل كمية العنف التي تضرب البلاد، فيما تشير أرقام المعارضة إلى ما يفوق ستة آلاف طفل سقطوا ضحية الاشتباكات والمعارك المسلحة بينما يصل أرقام الذين تعرضوا للخطف إلى ألفي طفل، وهو ما تم توثيقه فيما تغيب حالات كثيرة أخرى طي النسيان. وفي المحصلة، قد يرى البعض أن موضوع الاضطرابات النفسية مجرد تفصيل صغير، وسط جنون الحرب اليومية. وقد يقول آخرون إن طرحه يأتي في باب «الترف الإنساني»، الذي يغفل واقع ضياع بلاد بأكملها وليس أطفالها وحسب. لكن مع ذلك، يبقى لهذه المسألة بعدها الخاص، إذ أن هذا الجيل يشكل مستقبل ما ستكون عليه سوريا.. والتفاصيل قبل غيرها هي من تصنع هذا المستقبل.

» نداء من أطفال سورية إلى العالم لوقف الحرب والدعوة إلى السلام الأحد القادم
» أطفال سوريا هل اصبحوا وقودا لأزمة يدفع ثمنها كل سوري؟؟ ...إعداد: شيرين موسى.
» بالفيديو: رسالة من نيمار إلى أطفال سوريا اللاجئين
» داعش يبيع لاسرائيل أطفال سوريا والعراق
» بالفيديو: رسالة ميلادية من أطفال سوريا للعالم