“خَيْبات” حافظ الأسد‎

“خَيْبات” حافظ الأسد‎

Monday , 17 November 2014 - Me Panorama

الإنسان صنيع إرادته، وحاصل تفاعله مع محيطه، والتعبير الحيّ والعملي لمنظومة القيم والمباديء والعقائد التي يؤمن بها. الإستسلام خيار، والمقاومة خيار، ورفض الواقع المشوه بعمل يستند إلى منظومة قيم ومباديء وعقائد، نهج، والإستسلام لذلك الواقع، والتنظير له بمنظومة قيم ومباديء وعقائد نهج أيضاً. تتأثر طباعنا، وخصائصنا النفسية، بما نتخذه من خيارات، وبما نتبناه من مناهج؛ صحيح أن خيارك مُلكك، ومنهجك مرآتك، لكن خياراتنا ومناهجنا التي نواجه ونغير بها الواقع، تؤثر فينا عميقاً، عند إتخاذها، وعند تطبيقها، وعند حصاد نتائجها، وحتى عندما تصبح تاريخاً يروى. سأقدم مثالاً سريعاً للتدليل على هذه العجالة النظرية المحظة. وزير الدفاع السوري البطل، يوسف العظمة، رجل يمتلك المعرفة العسكرية، وقادر على قراءة موازين القوى، ويعلم جيداً متى تكون المعركة خاسرة ولا طائل منها، ومتى يمكنه تحقيق النصر وإن إرتفع عامل المخاطرة. لكن إرادته وخياره المقاوم، ونهجه المنتمي إلى منظومة قيم ومباديء وعقائد من نوع خاص، جعلته يتخذ قراراً يخالف المنطق العسكري، حيث الخسارة المؤكدة لإختلال موازين القوى بشدة لصالح العدو، وأعلن ذلك صراحة بعبارته الشهيرة: لن نسمح للتاريخ بأن يسجل دخول الغزاة إلى دمشق دون مقاومة.
الراحل والقائد التاريخي الكبير حافظ الأسد، إمتلك منظومة متطورة ومعقدة من القيم، وعاش حياة غنية جداً جداً بالأحداث والأزمات، وأتيح له تطبيق الكثير من قيمه ومبادئه وقناعاته لتقلده المسؤولية في مواقع عديدة كان آخرها رئاسة الجمهورية العربية السورية، ورأى بإم عينيه ساعات إنتصار هذه الخيارات، كما رأى لحظات تراجعها وإنكسارها. بمناسبة الذكرى السنوية الرابعة والأربعين للحركة التصحيحية، سأتحدث عن بعض من أهم المحطات التي شعر بها الراحل بالخيبة -حُرِم ومُنع مما يَطلُب- والحزن والأسى، والتي غيرته من إنسان مرح بشوش دائماً إلى إنسان صلب حاد الملامح غالباً.
* لقد سبقني الموت:
آمن الراحل حافظ الأسد –إنطلاقاً من خلفيته البعثية- بالوحدة العربية، وخصوصاً، بين عواصم الفعل التاريخي العربية، دمشق- بغداد- القاهرة. شاءت الأقدار أن يخدم حافظ الأسد كطيار حربي في مصر أيام الوحدة، خصوصاً وأنه كان من الطيارين القلائل المؤهلين كطيار حربي ليلي، ومكث في مصر لعامين تقريباً. عاد من مصر وفي مخيلته حلم كبير، يستند إلى فكر وحدوي، وإلى إدراكه للحظة تاريخية كبرى يعيشها جناح الأمة الجنوبي، الراحل الكبير جمال عبد الناصر، أول رئيس مصري عربي يحكم البلاد منذ قرون طويلة، وقريب جداً من فكر الراحل الكبير حافظ الأسد لناحية نزوعه للوحدة، ورفض الهيمنة الغربية، وإصرار الأكيد على تحرير فلسطين. لم يغير سقوط الوحدة السورية-المصرية في قناعات حافظ الأسد، حتى نكسة حزيران، منحته دوافع ومبررات إضافية، كي يقترب من حلمه أسرع، ويعمل لأجل منهجه بقوة أكبر؛ فكانت الحركة التصحيحية في 16/11/1970.
لقد آمن كلا الرجلان، بأن هزيمة حزيران جرح غائر في وجدان الأمة وجسدها، ولا يمكن له أن يلتأم إلا بحرب يبادر إليها العرب، وتحديداً جناحا الأمة، سورية ومصر. آمن الرجلان، بأن المقاتل العربي من الأفضل في العالم، ولا ينقصه سوى قيادة عسكرية مؤهلة وقادرة على تطبيق أعقد الخطط الحربية، وإعادة تأهيل هذا المقاتل ليستعيد ثقتعه بنفسه وقيادته، وتوفير أحدث الأسلحة وتدريبه عليها، وتوفير مستلزمات هذه الحرب، العسكرية والإقتصادية والتعبوية… وأنهما –كلّ على حده- تحديداً، القيادة السياسية القادرة على إدرة هذه المعركة التاريخية. وبدأى –كلّ على حده مرة أخرى- بالإستعداد لهذه المعركة، والتهيؤ لساعة الصفر. للأسف العميق، كان القدر؛ بل قل كانت يد الغدر أسبق. خبر صاعق يضرب حافظ الأسد، وأحلامه في العمق، ويؤجل معركة كانت ستغير وجه المنطقة وتاريخها، لقد توفي جمال عبد الناصر.
* جرح تشرين، نصر كاد يكون هزيمة كاملة:
كانت حرب تشرين 1973، المرة الأولى التي يبادر فيها العرب إلى مهاجمة الكيان الصهيوني في حرب أُعدّ لها جيداً، وتوفر لها كلّ مستلزمات النصر، من خطط أثبتت نجاعتها، وأسلحة ثبت تفوقها، ومقاتل برهن على كفائته وبطولته النادرة، وأمة بلغت حدّاً معقولاً من التنسيق والتكاتف… لكنّ عاجلتنا “المصيبة” وفي مقتل، حيث القيادة السياسية التي تدير دفة الصراع، وتترجم نتائج الحروب في إنجازات سياسيّة وطنية وقوميّة، وترسم نهايات الحروب وغاياتها، وهنا تحديداً يمكن تفهم المرارة العميقة، والخيبة المروعة التي عاشها الراحل حافظ الأسد عندما فقد شريكه الحقيقي في التحرير الراحل جمال عبد الناصر.
أنور السادات، رئيس مصر والقائد الأعلى لجيشها، كان عميلاً متمرساً للمخابرات الغربية، وقاتلاً مأجوراً، إغتال الراحل الكبير جمال عبد الناصر بفنجان القهوة الذي صنعه له بيديه الآثمتين، وأغتال حلم مصر وهيبة جيشها، ونصر للأمة كان قاب قوسين وأدنى، ووجه طعنة نجلاء للعمل العربي المشترك، وخصوصاً إلى سورية، وتحديداً إلى شخص وخيار ونهج الراحل الكبير حافظ الأسد.
لقد قرأت ما كتبه هيكل والشاذلي والجمسي وسيل… عن حرب تشرين، وأتفقوا جميعا، على أن السادات كان السبب الرئيسي في نكسة نصر تشرين، وعن سابق تصور وتصميم، ولم يخالفهم في ذلك إلا مسؤول عربي وحيد، كان سبباً أساسيّاً في جلب ثلاث كوارث كبرى –في الحدّ الأدنى- على الأمة العربية، وعلى محاولات حافظ الأسد إنقاذ أحلامه وإنجاز خياراته.
* صدام حسين، المصائب تأتي بالجملةً:
لم يكتفي صدام حسين بوضع حدّ لمفاوضات قطعت أشواطاً كبرى لوحدة بين سورية والعراق، تُعوض خروج مصر من بنية الصراع العربي الصهيوني، وتوقف تداعيات كامب ديفيد على هذا الصراع، وتسمح بتعميق العمل العربي المشترك، والتكاتف العسكري والإقتصادي والسياسي… الذي جربتة الأمة في تشرين 1973، وتمنع واشنطن من إحكام سيطرتها على مفاصل الأمة وقرارها وخيرات بلدانها… ولكنه بادر إلى شنّ حرب شعواء على ثورة أسقطت أحد أهم ركائز واشنطن في المنطقة، الثورة الإسلامية في إيران. لقد أدركت واشنطن خطورة هذه الثورة، وآثارها الكارثية المستقبلية على طبيعة الصراع الجيوسياسي في المنطقة والعالم، خصوصاً وأن هذه الثورة لم تكن بعيدة أبداً عن سورية؛ حيث كانت سورية أول بلد إعترف بها، بعد أن أمدتها بالخبرات والكوادر اللازمة لنجاحها، منها ما كان سوريّا خالصاً، وبعضها الآخر جاء من حلفاء سورية من بعض التنظيمات الفلسطينية واللبنانية. لقد خاض صدام حسين حرباً ضروساً على إيران إستمرت لثمان سنوات، بدعم من واشنطن والغرب وكلّ أنظمة الرجعية العربية، إعترف شخصيّاً بعبثيتها بعد توقفها. لقد حقق أعداء سورية والأمة عدة أهداف من هذه الحرب الكارثية، يقف على رأسها: 1-تحويل وجهة الصراع العربي الصهيوني إلى صراع عربي فارسي. 2-منح الشرعية لوجود الكيان الصهيوني بعد أن أصبحت محاربة إيران مُقدّمة على محاربته. 3-تقزيم الصراع معه إلى مجرد نزاع يمكن تسويته. 4- مباركة جريمة أنور السادات النكراء في كامب ديفيد بإشاحة النظر والإهتمام عنها. 5- تعطيل جهداً إسلاميّاً ضخماً كان سيشكل فارقاً تاريخيّاً كبيراً في شكل وخواتيم الصراع العربي الصهيوني لو أن صدام حسين سمح بإتمامه ونضجه، من طهران إلى دمشق عبر بغداد.
عامان فقط إحتاجهما صدام حسين ليشن حربه الكارثية الجديدة، وليخطو خطوته الحاسمة نحو “تعريب” الصراع، أي جعله عربيّاً-عربيّاً. إبان كارثة حربه مع إيران، ساند الإخوان المجرمين في سورية، ودعم بعض القوى “الإنفصالية” في لبنان، ثم كانت مأساة غزو الكويت. يتسائل بعض السذج والخبيثون على حدّ سواء، (لماذا ذهب الجيش العربي السوري إلى جزيرة العرب، لمحاربة الجيش العراقي؟) سأختم مقالي بتقديم بعض الإجابات على هذا التساؤل:
1- السؤال غير علمي ولا واقعي من حيث المبدأ والشكل، والسؤال العلمي والواقعي الذي يعالج الأسباب والنتائج هو، ما الذي يفعله الجيش العربي العراقي في بلد عربي إسمه الكويت؟.
2- لماذا يكون غريباً ومستهجناً، ذهاب جيش عربي لنجدة بلد عربي من إحتلال شقيقه له، ولا يكون فعل الإحتلال نفسه مستغرباً ومستهجناً، ومدعاة لنجدة ذلك الشقيق من الإحتلال؟.
3- أن سورية لم تذهب لمحاربة العراق في الكويت؛ بل ذهبت لتحرير الكويت من الإحتلال العراقي، ولو كانت سورية معنية بمحاربة الجيش العراقي لهاجمته من الحدود المشتركة بينهما، وهي طويلة جداً.
4- كان الهدف من الحرب واضحاً تماماً، وهو تحرير الكويت، وعندمت تمّت المهمة لم تمتد الحرب إلى ما بعد حدود الكويت بإتجاه الأراضي العراقية أبداً. وكلّ التداعيات اللاحقة جاءت بسبب أطماع غربية، وأحقاد عربية، وأخطاء سياسية لا شأن لسورية بها.
5- أرسل الراحل الكبير حافظ الأسد رسالة تاريخية لصدام حسين، يطالبه فيها بالإنسحاب من الكويت فقط، لتقف سورية قيادة وشعباً وجيشاً، إلى جانب العراق ضد أي عدوان خارجي. ويعرف العدو قبل الصديق، بأن حافظ الأسد من صنف الرجال والقادة الذين يَفون بوعودهم ويُلتزمون بعهودهم مهما ثقلت، وتكالبت الظروف.
إستباقاً، لقد أرسلها حافظ الأسد على مرأى ومسمع العالم أجمع، لا ليسجل موقفاً شعبيّاً كما ردّ صدام حسين، ولكن ليُعلم الأمة جمعاء، والشعب العراقي الشقيق، وحتى يتيقن الأعداء، وليسجل التاريخ، في هذه المفصل الخطير من تاريخ الأمة والمنطقة والعالم، بأن حافظ الأسد أطلق وعداً وأسمعه للكون كلّه، وسيلتزم به. لكن صدام إختار ما أراده الأعداء، وما تمناه العملاء من القادة العرب، وأن يوجه طعنة جديدة لأحلام وخيارات ونهج الراحل حافظ الأسد، وكان له ما أراد.

» فاروق الشرع وعزمي بشارة ولغز حافظ الأسد
» حافظ الأسد ..في ذكرى رحيله.
» طهران تُطبّق سياسات حافظ الأسد
» سمير جعجع: هزمت حافظ الأسد مرتين
» الحركة التصحيحيّة من منظور آخر … حافظ الأسد وصدام حسين – الأردن والكويت