المسيح في القرآن
احتفى القرآن حفاوة بالغة بالمسيح عيسى ابن مريم، إذ تتبع سلسلة نسبه الشريف ابتداءً من سيدنا آدم عليه السلام، مروراً بالصفوة من الأنبياء، وصولاً إلى جدته لأمه، فالسيدة العذراء أمه، المنذورة من أمها لعبادة الله، فمجيء عيسى المسيح الإعجازي؛ يقول القرآن الكريم في ذلك:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)(1).
لقد ابتدأت الآيات بتوكيد فعل الاصطفاء؛ أي الاختيار والانتقاء، وذلك بقول الله "إنَّ" وعندما يكون الاختيار من الله، فإنه يصطفي صفوة الصفوة، ولهذا نرى الاختيار لعيسى ابن مريم يمر عبر هذه السلالة النبوية الشريفة، التي انحدرت من أبي الأنبياء جميعاً وأبي البشرية كلها آدم فقد كان من نسله الصالح والطالح، فكان عيسى من القسم الأول الصالح، الذي يتصل نسباً بإبراهيم الخليل ونوح ثم بآل عمران الذين فضلهم الله على الناس جميعاً، بالنبوة والرسالات.
ومعروف لدى خاصة المؤمنين أن الله قد فضل زماناً على زمان، ومكاناً على مكان، وإنساناً على إنسان، فالزمان الذي شاهد نزول الوحي وظهور الأنبياء خير من الزمان الذي انقطع فيه خبر السماء عن الأرض، والأنبياء والرسل بشر ولكنهم خير من سِواهم؛ لأن الله فضلهم بالنبوة لصفات ليست موجودة في غيرهم من الناس، فهم أفضل من غيرهم باصطفاء الله لهم، وهناك أراضٍ اختارها الله مهبطاً للوحي، فكان فيها أول بيت وضع لعبادة الله وحده ألا وهو "الكعبة البيت الحرام" فهو خير مكان في الدنيا، ومفضل على سائر البقاع، ومثله المسجد الأقصى المبارك والقدس الشريف، التي بارك الله فيها، وكذلك المسجد النبوي في المدينة المنورة، فهذه أماكن تفوق غيرها فضلاً وبركة(2).
وفي قوله تعالى: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) دلالة على عنصر النقاء والصفاء في هذه الذرية التي تجددت فروعها الشريفة من أصولها الطاهرة، ليكون عيسى بن مريم آخر هذه السلالة النبوية بميلاده المعجز.
النذر:
نذرت أم مريم مولودها القادم خالصاً لعبادة الله وحده، دون أن تعرف هذا المولود ذكراً كان أو أنثى، وكان ظنها يغلب الذكر، ولكنها فوجئت بأن نذرها قد جاء أنثى، على غير ما تشتهي؛ لأن الذكر ليس كالأنثى، وتطلق الأم اسم "مريم" على وليدتها المنذورة لله، تيمناً بأخت هارون الطاهرة النقية، وفي قولها "إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى" نوع من الاعتذار لربها؛ لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، فالمرأة تعتريها حالات الولادة والنفاس والحيض، فتمنع من دخول بيوت الله، بينما لا يكون هذا للرجل، فخدمة الرجل أدوم. ولهذا كان رد القرآن على قولها مباشرة "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ"، لأن المسألة المتعلقة بهذه المولودة المنذورة (مريم) لا يمكن أن يقوم بها ذكر، ولهذا جاءت الكلمات القرآنية معظمة لشأن المسألة والمولودة معاً، إذ أن هذه المولودة ستتحمل عبئاً لا يستطيعه إلا عظماء الرجال المؤمنين؛ لما يحتاجه من صبر وتحمل في سبيل الله.
التسمية:
اطلقت الأم اسم مريم على وليدتها المنذورة، وهو الاسم الوحيد الذي يذكره القرآن لامرأة، إذ أنه لم يسمِّ غيرها من نساء العالمين، وربما عاد السبب إلى أنها انفردت من بين نساء العالم بحمل أشق تجربة تمر على عذراء، ألا وهي الحمل بدون رجل(3).
ولهذا تكرر اسمها أربعاً وثلاثين مرة في القرآن الكريم وحده (4).
العياذة من الشيطان:
إذ لم يكن للشيطان على مريم سبيل أو تأثير، فبقيت المرأة المطهرة المصطفاة، وقد أسند فعل الاصطفاء والتطهير إلى الله وهذا يعني أن مريم قد خلقت وجبلت وانشئت مطهرة مصفاة، وهي الحال التي تنطبق على وليدها القادم عيسى المسيح وهو يدل على ان أم مريم كانت مستجابة الدعاء، كون مريم وابنها قد جاءا إلى الدنيا مبرئين من الخطايا، في الوقت الذي يتعرض لها أبناء الجنس البشري كافة، والدليل على صحة هذا الاستنتاج هو قول الله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) إذ حصل القبول من الله، كما حصلت العناية من الله أيضاً، وعندما تلحظ عين الله إنساناً، فهذا يعني أنه قد وصل مرتبة الكمال البشري وهو ما ينطبق على مريم وابنها عيسى المسيح.
الكفالة:
أسندت الكفالة لزكريا، وهو نبي مبارك من أنبياء الله الأخيار، وفي اللفظ القرآني ملحظ ينبغي التوقف عنده، فالآية تقول (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) ولم تقل وكفلها زكريا، لأن زكريا لم يكن هو الكافل، بل هو المكلف بالكفالة من الله، وزكريا هو المكلف من الله؛ لأن أم مريم لم تطلب من زكريا كفالة ابنتها أو من غيره، بل طلبتها من الله، فكان القبول والاثبات والتكفل من الله، لا من غيره، وبهذا نستطيع أن نفهم معنى الآية الكريمة التي تلي هذا السياق.
الرزق:
كون الله هو الكفيل لمريم، والرازق والحامي، فقد كان يرزقها من الطعام ما لا وجود له في ذلك الموسم، وكان هذا مصدر استغراب زكريا إذ أنه حين كان يدخل على مريم في المحراب، يجد عندها رزقا؛ فيسألها من أين لك هذا الطعام؟ فترد عليه قائلة: "هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" ويتضح من سؤال زكريا وجواب مريم، أن الرزق لم يكن من عند زكريا؛ إذ لو كان من عنده، لما سألها عنه، فالإنسان لا يسأل عن شيء يعرفه؛ مما يدل على ان زكريا لم يكن على معرفة، ولهذا رفع يديه إلى السماء طالباً من الله أن يمنّ عليه بولد، فاستجيب دعاؤه.
اصطفاء مريم:
لكرامة مريم عند الله أرسل الملائكة لها مبشرين بالاصطفاء والاختيار والطهارة من بين نساء الكون كله، ولهذا جاء بالحرف "على" ليدل على سمو مكانة مريم وعلوها على بقية نساء الأرض. وكرد فعل على هذا التكريم الإلهي لمريم، تطلب الملائكة من مريم أن تسجد وتركع لله في خشوع وقنوت.
هذه سيرة أم عيسى المسيح، وسيرة أمها من قبلها، وهي سلسلة مترابطة الحلقات، بعضها من بعض، نُبلاً وطهارة وتقوى وإخلاص لله؛ لأنهم جميعاً كانوا على دين الله الواحد، ألا وهو التوحيد، وكانوا يتناصرون في الدين كما كانوا خالصين من الصفات الذميمة، مزينين بالخصال الحميدة، التي تليق بما اختيروا من هداية البشرية إلى طريق الحق (5).
إنها سيرة المرأة المنذورة لخدمة الله وهي مازالت جنيناً في بطن أمها (6).
البشارة بعيسى:
لقد اختار الله مريم للقيام بأعظم مهمة وأشقها على نفس عذراء، حين أعلمها المَلَكُ جبريل بأنها ستحمل من غير زواج، ولا نكاح من ذكر، وهي مهمة لا يقوى على تحملها إلا من خلصت قلوبهم لعبادة الله وحده، وهي قضية غير مسبوقة في التاريخ ولا متبوعة، ومن هنا كان جدال مريم للملك في أمر هذه القضية مبرراً، يقول القرآن الكريم:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)(7).
لقد نشأت مريم نشأة طيبة طاهرة كما أرادها الله حتى إذا بلغت الحلم جاءها ملاك الرب جبريل كي يبلغها رسالة الله وأمره، وكان حضوره على هيئة إنسان كامل، فخافته واستعاذت بالله منه، فأخبرها بأنه رسول من الله جاء كي يهب لها ولداً طاهراً زكياً، فردت عليه قائلة في استهجان: كيف يكون لي ولد ولم أتزوج ولست من بنات الهوى؟ فقال جبريل: إن هذا أمر ربك، وهو هين بسيط عليه، وأخبرها بأن هذا الطفل سيكون معجزة من معجزات الله للناس، كما سيكون لهم رحمة، وأعلمها بأن مجيئه أمر حتمي، لا مجال فيه للمراجعة، وهكذا تحمل مريم بعيسى بنفخة من جبريل (روح الله) وفي ختام هذه الآيات تبشر الملائكة مريم بالمولود القادم ومسماه. يقول القرآن الكريم:
إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) (
.
ويأتي مريم العذراء المخاض قرب جذع نخلة، حينها تتمنى لو كانت نسياً منسيا، أي مغيبة لا يذكرها أحد ولا يدري بها أحد. في لحظة الضعف البشري هذه يخاطبها وليدها قائلاً: لا تحزني فإن الله قد جعل لك ولداً سيداً فاطمئني من الخوف، وهزي بجذع النخلة الموجودة على مقربة منك يسقط منه ثمر شهي، وعليك بالصيام عن الكلام إذا خاطبك أحد من الخلق. وعندما جاءت أهلها وهي تحمل الطفل على يديها، شق عليهم الأمر، وثارت في نفوسهم الشكوك وقالوا لها: أيتها الفتاة الطاهرة لم يكن أحد من اهلك فاعل سوء؛ لا أبوك ولا أمك! حينها تذكرت نصيحة ابنها الطفل، فلم تقل كلمة واحدة، بل أشارت بيدها إلى الطفل، وهنا ازداد سخطهم وحنقهم؛ لأنهم ظنوها تسخر منهم، قالوا: كيف نكلم طفلاً مازال في المهد رضيعاً؟! حينها حدثت أولى معجزات سيدنا عيسى العلنية؛ قال: "أنا عبد الله، أنزل عليّ الكتاب، واختارني نبياً، وباركني في حلي وترحالي، وأوصاني بالصلاة والصدقة، مدة حياتي على الأرض، وبأن أكون باراً بوالدتي لأنه لا أب له وجعلني رحيماً للناس، وأنا في أمن الله ورعايته يوم ولدت وحين أموت، ويوم يبعثني مرة أخرى للحياة".
في هذه الآيات الكريمة نقف على بعض الصفات التي أبلغتها الملائكة لمريم عن عيسى المسيح:
أن اسمه سيكون المسيح عيسى ابن مريم، فكان لا يمسح ذا عاهة إلا بَرِئ، وقيل لأن زكريا مسحه، وقيل لحسن وجهه، فالمسيح في اللغة جميل الوجه، أو لأنه كان يلبس المسوح، أو الممسوح من الآثام وعن كل شيء قبيح، ومسيح بمعنى ممسوح مثل قتيل بمعنى مقتول، فهو مفعول(9).
فإسم عيسى المسيح لم يكن اختياراً من مريم، بل من الملائكة، وهذا تشريف ما بعده تشريف، أن تسمي الملائكة إنساناً قبل مجيئه إلى الحياة، وأن تذكر بعض صفاته.
أنه سيكون آية للناس، لأنه في خلقه كان معجزة من الله، كما سيكون في أفعاله الآتية كذلك، فهو يشترك مع أمه في هذه الصفة. يقول القرآن الكريم:
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (10).
وانتساب عيسى إلى أمه وتسميته بالمسيح، هو تشريف للسيدة العذراء، التي اصطفاها الله على نساء العالمين، ولهذا يتكرر اسم المسيح تسعاً وخمسين مرة في القرآن، منها ثلاث وعشرون مقترناً بأمه "ابن مريم".
سيكون رحمة من الله للخلائق، ولهذا كان من معجزاته التي سيرد ذكرها إشفاء المرضى، وإحياء الموتى.
الحديث مع أمه لحظة الميلاد، إذ أن مريم شعرت بعظم المسؤولية التي ألقيت على عاتقها كعذراء شريفة، وتلد دون زواج، فكانت شهادة البراءة من الطفل الذي ولدته للتو، وذلك حتى تهدأ وتطمئن نفسياً، وترتاح جسدياً، ولهذا كان الطفل هو المنقذ لها، مع انه سيكون تهمتها من قومها بعد قليل من الزمن.
لقد طلب عيسى من أمه ألا تحزن مطلقاً، ففي حديثه نفي لمبدأ الحزن، فما كاد وليدها يتم حديثه حتى كان الحزن عنها قد زال وحلت مكانه طمأنينة نفسية عارمة، ولهذا كانت النصيحة الثانية للأم أن تهز جذع النخلة الجاف بقربها؛ حتى يسقط منه الثمر، وكان الجذع يابساً، فما إن مسته مريم بيدها الطاهرة، حتى سرت فيه الحياة فاخضوضر ونبتت له شمارغ، ثم كان له طلع نضيد ما لبث أن سقط منه الرطب الشهي الناضج، فأكلت وشربت من الجدول المائي الذي أنبعه الله لها واطمأنت، لأنها رأت معجزتين في آن واحد: نطق الوليد، ودبيب الحياة في الجذع اليابس وسقوط الثمر الجني منه.
حين تعافت مريم من آلام المخاض والوضع، وشفيت نفسها من حرج قد يصيبها بسبب وليدها، وتيقنت أن الله يحرسها، حملت طفلها وعادت أدراجها نحو بيتها وأهلها، غير عابئة بالنتيجة، لأنها تحمل صك براءتها بين يديها: وعندما سألوها عن الصبي، تذكرت نصيحة عيسى فلم تتكلم، بل أشارت بيدها إليه، حينها نهض الصبي مدافعاً عن أمه مبلغاً بعضاً من صفاته ومنها:
إني عبد الله، فهو كغيره من البشر المخلوقين للعبادة، مثله كمثل محمد ، فالعبودية الخالصة لله تساوي كمال الحرية للعبد؛ لأنه لا يخضع لغير الله، ولا يوجد شيء في قلبه غير الله، فهو يحب في الله، ويكره في الله، ولا تأخذه في حقوق الله لومة لائم. وكلمة (عبد) في القرآن الكريم تطلق على الأنبياء من باب التكريم لهم، محمد أحب أنبياء الله إلى الله، يوصف بالعبد في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. (11).
وقوله إني عبد الله ،كي ينفي عن نفسه تهمة الألوهية التي سيقول بها بعض من اتباعه المتأخرين عنه زمنياً، ويتكرر هذا اللفظ في القرآن مرات؛ منها قوله تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ. (12).
وقوله: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ.(13)
وللعبودية معان متعددة في القرآن الكريم؛ منها المطاوعة، والنبوة، والقدوة الحسنة، وقد كان عيسى حائزاً على هذه الصفات جميعها.
أتاني الكتاب وجعلني نبياً: فعيسى رسول يحمل رسالة؛ أي كتاباً من الله ألا وهو الإنجيل، وفي قوله "جعلني نبياً" ملحظ بياني يوضح أن النبوة كانت منذ لحظة الميلاد، وهي شهادة تكريم لعيسى لم يحظ بها نبي من قبله، وهو رسول خاص لبني اسرائيل، في جزء من زمانه وحركته في قومه، وإلى الناس عامة بعد ذلك.
يقول القرآن الكريم:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (14).
والذي يأكل الطعام لا يكون إلهاً، لأنه يحتاج إلى ما يحفظ عليه حياته، والله غني لا يحتاج شيئاً كما يحتاج أحداً. والإنجيل الذي جاء به عيسى مصدق للتوراة التي أنزلت على موسى من قبله، يقول القرآن الكريم:
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (15).
فالأنبياء ما جاءوا لتكذيب من سبقوهم؛ بل لتصديق رسالات ربهم الواحد، فلا تناقض بين الرسالات؛ لأنها جاءت من مصدر واحد هو الله فتشابه الأحكام فيها دليل على تكرار الأمر، لأن الله لا يغير قواعد الإيمان.
ويورد القرآن الكريم وصفاً آخر لعيسى، فهو الرسول، وذلك لوجود فارق بسيط بين النبي والرسول: فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً؛ لأن النبي إنما يكون في قومه فقط، بينما الرسول يكون لقومه وللناس كافة، ولهذا قل عدد الرسل، وزاد عدد الأنبياء، وفي رسولية عيسى يقول القرآن الكريم:
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ (16).
ويقول على لسان عيسى: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (17).
ويقول رب العزة: آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي (18).
وجعلني مباركاً أينما كنت: فعيسى كان مباركاً من الله أي ممنوح البركة، وببركة الله هذه، كان الناس يتباركون به، فينال كل منهم مطلبه أينما حلّ وارتحل، وهي مكرمة عظيمة آتاها الله لنبيه عيسى عليه السلام، كما كان نفاعاً للناس، هادياً لهم إلى سبيل الرشاد.
أوصاني بالصلاة والزكاة: الصلاة لا تكون إلا لله وأما الزكاة فلعباده المحتاجين والفقراء والمساكين. فقد كان عيسى يصلي لربه طوال حياته، وهذه دلالة على تساويه في التكليف مع الآخرين؛ لأن الله، ما خلق الجن والإنس إلا للعبادة، فطالما عبدتُ الله بالصلاة، وتقربت إليه بالزكاة فإنني أفوز برضاه والجنة. لقد كان عيسى يصلي ويزكي طوال فترة حياته، وهذا يعني أنه صائر إلى الموت، مثله مثل المخلوقات الأخرى، التي يجوز عليها الفناء والهلاك.
وبراً بوالدتي: فهو آدمي من لحم ودم، وهو بار بوالدته رحيم بها؛ لأنه يعرف مقدار المعاناة والصبر الذي تحملته في طاعة الله؛ بالحمل والميلاد. ويلحظ في هذه الآيات استخدام القرآن كلمة "جعلني وجعلني ويجعلني" فأمر عيسى مرهون بأمر الخالق، فهو الذي جعل عيسى نبياً، ومباركاً، ورحيماً، ونفى عنه الشقاوة والتجبر.
والسلام عليَّ: والسلام هو الأمنة من الله، فلا يقدر أحد على إلحاق الضرر بي في حال موتي وبعثي، فلا يمسني الشيطان بمس، ولا أشرك بالله أحداً في محياي، ويوم القيامة أبعث سالماً من أهوال ذلك اليوم العظيم (19).
إذ يقرر عيسى أنه سيموت وأنه سيبعث، ومعروف أن البعث يكون بأمر الله، ولهذا قال يوم أُبعث، لأنه لا يَبعثُ نفسه. وليست هذه صفات عيسى كلها، فقد توزعت في سور أخرى من القرآن الكريم:
قال تعالى: إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (20). فللمسيح في هذه الآية ثلاث صفات:
أنه كلمة الله: أي أنه بأمر الله، من الفعل "كُن" ومثل عيسى في هذا الأمر كمثل آدم أبي البشرية، الذي يقول القرآن فيه: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (21).
فخلق عيسى ليس بأعجب من خلق آدم، الذي كان من غير أب أو أم، فكان آدم بأمر الله "كُن" وكان عيسى الأقل غرابة بأمره "كُن" (22) أيضاً.
الوجاهة في الدنيا والآخرة: وجاهته في الدنيا تتمثل بالنبوة وبالكرامات التي أنعمها الله عليه، والمعجزات التي أجراها على يديه، أما وجاهة الآخرة فهي الشفاعة يوم القيامة والدرجات العليا (23). وكلمة وجيه مأخوذة من الوجه، وهي تحمل معنى السيادة والشرف والحكمة والسمعة الطيبة بين الناس، وهذا ما كانت عليه صفات عيسى، إضافة إلى خلود رسالته.
القربى من الله يوم القيامة: فهو مع الصفوة المختارة من النبيين والصديقين والشهداء. والقربى هنا هي قربى مكانة، لأن الله لا يحل في مكان معين، ليكون عيسى أو غيره بقربه، وهي فضيلة يتمتع بها الرسل والأنبياء والشهداء والصديقون والأولياء كافة. والقربى من الله تعني الجنة ونعيمها، بل الفردوس الأعلى منها، إذ أن الفردوس هو المكان الذي تتوق إليه نفوس المؤمنين جميعهم؛ لأنهم عندما يسألون الله المكانة العليا والقربى منه، فإنما يسألونه الفردوس.
المسيح ليس إلهاً:
يوضح القرآن الكريم حقيقة عيسى البشرية، في العديد من آياته، ومنها قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (24).
ويخاطب القرآن أهل الكتاب، مطالباً إياهم بعدم الغلو في شأن عيسى ابن مريم فيقول: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ...). والغلو: هو الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه غلاء السّعر. وغلو النصارى هو قول بعضهم في عيسى: هو الله وهم اليعاقبة، أو قول بعضهم: أنه ابن الله ،وهم النسطورية، أو ثالث ثلاثة، وهم المرقسية (25).
وقد نهى الرسول محمد المسلمين عن تجاوز الحد في اطرائه فقال لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله) (26).
ويتبرأ النبي عيسى من الفئة الضالة التي اتبعته ثم كفرت، وفي هذا يقول القرآن الكريم: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (27).
فالمسيح يطلب إلى اتباعه أن يؤمنوا بالله وبما أنزل الله على رسوله، فيستجيب الحواريون لدعوته مؤمنين بالله، ويطلبون من عيسى أن يشهد على أنهم مسلمون.
وكلمة (مسلمون) هنا تحتاج شيئاً من الإيضاح، فكل الأنبياء مسلمون، وجميعهم أخوة، دينهم واحد هو الإسلام؛ الذي يشكل مجموع العقائد، وأمهات الأخلاق والفضائل، وأصول المحرمات التي نهى الله عنها الأنبياء جميعاً. يقول تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (28).
ويقول أيضاً: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (29).
وقد أمر الأنبياء جميعاً بأن يكونوا مسلمين، يقول نوح: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (30).
ويقول إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ (31).
ويقول موسى لقومه: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (32).
ويدعو ربه قائلاً: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (33).
فدعوة المسيح لا تختلف في جوهرها عن دعوة غيره من الأنبياء، وهي الإسلام بمعناه الأصيل عند الأنبياء بمعنى التوحيد الكامل، وإسلام الوجه لله.
المسيح ليس ولداً لله:
الله واحد أحد، فرد صمد، وهو يُعلِّم رسوله أن يرد على فرية من يقولون بوجود ولد لله فيقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (34).
فالله متفرد بالوحدانية، لا شريك له، ولا شبيه، ولهذا يكفِّر القرآن الكريم كل من يقول بوجود ولد لله وفي هذا يقول القرآن الكريم: وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) (35).
ويستنكر المسيح أن يكون قد طلب من الناس أن يتخذوه إلهاً، وفي هذا يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) (36).
ويلحق بهذا التقسيم قول الذين جاءوا بالتثليث، فالله ليس ثالث ثلاثة وفي هذا يقول القرآن الكريم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) (37).
فليس في الإسلام شيء اسمه العائلة المقدسة. إذ تفيد جميع النصوص القرآنية صراحة أن الدعوة المسيحية التي جاء بها عيسى، كانت دعوة التوحيد، وأنه لا علاقة له بما قاله عنه المتأخرون من النصارى، من انه إله، أو ابن إله، أو شريك لله في حكمه، فما هو إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ولهذا يدعو القرآن أهل الكتاب إلى الإيمان بالله وبرسوله عيسى، وينهاهم عن القول بالتثليث، يقول تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ (38).
والصيغة الطلبية هنا، من الأمر والنهي، تأتي لبيان أن مجرد النطق بذلك القول منكر وقبيح، فضلاً عن أن يكون اعتقاداً وإيماناً (39).
المسيح يبشر بمجيء محمد:
كان عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، وهو الرسول المبشر بخاتم الأنبياء، وفي هذا يقول القرآن الكريم: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (40).
فقد بشر عيسى بمقدم النبي الخاتم، كما بشر باسمه فهو أحمد، وهو من أسماء الرسول محمد المشهورة، فكلا الاسمين مشتق من الفعل "حمد" وفي هذا يقول الشاعر:
يا أحمد الخير لي جاهٌ بتسميتي وكيف لا يتسامى بالرسول سمي(41)
فالشاعر يعد نفسه سعيداً، إذ يحمل اسم النبي الخاتم أحمد. ولا نعرف على وجه التحديد متى بشر عيسى بالرسول محمد، الذي سيأتي بعده، ولكن أغلب الظن أن ذلك كان في بداية دعوته؛ إذ توحي نهاية الآية بذلك (42).
أجرى الله على يدي عيسى مجموعة من الخوارق التي ذكر جزءاً منها؛ كالتكلم في المهد، وتعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وأضاف إليها مجموعة أخرى تتعلق بالخلق: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي والاشفاء من أمراض وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وإحياء أموات وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي (43).
فقد كان عيسى يخلق من الطين على شكل طير بإذن الله وليس بقدرة ذاتية، وكذلك الحال بالنسبة لإشفاء بعض الأمراض، فقد كان الأمر يتم بأمر من الله، إذ كان الله يستجيب لطلب عيسى فيجري هذه الخوارق على يديه، وينطبق الحال على موضوع إحياء أموات وإعادة بعثهم، فهذه أمور كانت بأمر الله لأنها جزء من صفاته فهو مانح الحياة وسالبها، وهو مبرئ الأسقام وموجدها، وليس أحد سواه.
وقد كانت سرعة القيام بهذه الأعمال مدعاة لزيادة إيمان اتباع عيسى برسالته، كونه روحاً من أمر ربه، يستجيب له دون وسيط، ولكن الشيء المجهول في موضوع إحياء الموتى هو مدة بقائهم على قيد الحياة، فهل عادوا بعد بعثهم إلى الموت، أم عاشوا فترة من الزمن؟(44) هذا ما سكت عنه القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف معاً.
إنزال مائدة من السماء:
بعد الخوارق المبهرة التي أجراها الله على يد نبيه عيسى، طلب إليه خاصة اتباعه وهم الحواريون أن يأكلوا من مائدة تنزل عليهم من السماء، فرد عليهم المسيح قائلاً: اتقوا لله، ولكنهم أصروا على الأمر، حينها رفع عيسى يديه إلى السماء قائلاً: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ (115) (45).
تدل هذه الآيات على أن عيسى كان مستجاب الدعاء، وأن دعاءه كان يلبى من فوره، ولهذا أنزل الله المائدة من السماء، فأكلوا جميعهم منها، دون أن تنفد... وصار يوم نزول المائدة عيداً من أعياد الحواريين، وأتباع عيسى لفترة من الزمن، ثم ضاع خبرها، وأسدلت عليه الستائر، فلا نجد خبرها اليوم في أي مصدر غير المصادر الإسلامية في القرآن والسنة (46).
إخبار الناس بما في بيوتهم:
إضافة إلى الخوارق التي أجراها الله على يدي نبيه عيسى، فقد خصّه بصفة من صفات الغيب؛ ألا وهي إعلام الناس بما هو موجود في بيوتهم من مال، وما في أمعائهم من طعام، وفي هذا يقول القرآن الكريم: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ (47).
إن معجزة إخبار القوم بما يدخرون في بيوتهم، بغير أن يدخل هذه البيوت، أو يحدثه عنها أحد، تثبت أن الحواس ليست هي المسؤولة والقيّمة الحقيقية، فعيسى لم ينظر لما في بيوتهم، ولكن روحه تستطيع أن تنظر وتحدثهم؛ لأن الروح هي القيّمة الحقيقية وليس الجسد، وهكذا جاءت معجزات عيسى إعلاناً عن خطورة الروح، وإطلاقة المشيئة الإلهية (48).
فقد كان بنو إسرائيل ماديين ينكرون الروح بشكل شبه تام، وينكرون الحساب والعقاب والبعث، ويقولون إن الإنسان ليس سوى هذا الجسد المتحرك، وأن لا وجود للروح، زعماً وافتراءً، فجاء عيسى ليعلي من قيمة الروح، ويظهر علو شأنها؛ أليس الطين جسداً؟ فعندما نفخت فيه الروح تحول طيراً، وكذلك الحال بالنسبة للجسد الصلصالي المقبور في التراب، عندما دخلته الروح، دبت فيه الحياة من جديد فقام. وهي الحال نفسها بالنسبة لجذع النخلة الجاف، الذي لمسته مريم فاخضوضر، وعندما هزته تساقط منه الثمر الجني.
أحيٌ عيسى أم ميت؟ وهل تم صلبه؟
ادّعى اليهود أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم، فقد كانوا يتجسسون عليه ويتآمرون على قتله، وقادوا أعداءه إلى مخبئه ودلوهم عليه، ولكن الله أنجاه من هذه المكيدة التي دبّرها اليهود له، وفي هذا يقول القرآن الكريم:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (49).
فالقرآن ينفي حكاية صلب المسيح وقتله نفياً قاطعاً، ولكنه لا ينكر حدوث حادثة صلبٍ وقتلٍ لشخص شبيه بالمسيح، ومعنى شبه لهم: أنهم رأوا شبهه فظنوه إياه فقتلوه (50).
وهذا يعني ان عيسى حي لم يمت حتى الآن، وهو إلى الآن في السماء... فقد رفعه الله بجسمه وروحه؛ حتى يتحقق به الرد على زعم اليهود أنهم صلبوه وقتلوه؛ لأن الصلب والقتل إنما يكون للبدن أصالة؛ ولأن رفع الروح وحدها لا ينافي في دعواهم القتل والصلب، فلا يكون رفع الروح وحدها رداً عليهم؛ ولا اسم عيسى حقيقة في الروح والبدن جميعاً، فلا ينصرف إلى أحدهما عند الاطلاق إلا بقرينه، ولا قرينة هنا، ولأن رفع روحه وبدنه جميعاً مقتضى كمال عزة الله وحكمته وتكريمه ونصره من شاء من رسله (51).
هذا ما رآه جمهور العلماء الذين فسّروا كلمة الوفاة، على أنها تأتي في معان متعددة، منها الموت، لقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (52).
أي حين انقضاء أجلها، ووفاة النوم لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ (53).
يعني الذي ينيمكم، ووفاة الرفع لقوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (54). وذهب فريق من العلماء إلى أن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح. يقول الإمام محمد عبده: (إن الحديث الذي ينسب للرسول، والذي يقول أن المسيح رفع بجسده وروحه إلى السماء هو حديث آحاد، وأنه متعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها اليقين، وليس في الباب حديث متواتر) (55). ولكن الذي نطمئن إليه أن المسيح ما مات وأنه حي عند ربه، مثله مثل الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون، مع فارق بسيط وهو أن الشهداء يموتون في الدنيا وتدفن أجسادهم فيها، بينما لم يحدث هذا لسيدنا عيسى، وبهذا يكون الرفع بالجسد والروح معاً.
أما الرفع فإنه رفع درجات عند الله، كما قال تعالى في إدريس: (ورفعناه مكاناً عليا) فحياة عيسى حياة روحية، كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء (56).
فالرفع فيه عناية وحفظ من الله؛ كون المرفوع في الكنف المقدس، دون تحديد.
وتخصيص عيسى بالرفع لا يدل على أفضلية، فقد خصّ الله أنبياءه بفضائل، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وبما شاء من المزايا؛ فضلاً منه ورحمة؛ فخص بالخلّة إبراهيم ومحمداً (خليليه) وخصّ عيسى برفعه؛ لا لأنه أفضل منهم؛ فقد أعطي محمد وإبراهيم وموسى ونوح عليهم السلام من المزايا والآيات ما يقتضي تفضيلهم (57).
وقد استدل جمهور العلماء على أن عيسى لم يمت، وأنه مازال حياً يرزق لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (58).
فإن هذه الآية تحسم النقاش في شأن حياة عيسى ومماته، إذ أنها تقرر أن أهل الكتاب سيؤمنون به قبل موته، وأنه سوف يكون شاهداً عليهم يوم القيامة، وطالما أن إيمان أهل الكتاب لم يتحقق ولم يحصل، فمعنى ذلك أن موت عيسى لم يحصل أيضاً وهذا عكس ما ذهب إليه شيخنا العلامة رشيد رضا، بأن لا وجود في القرآن لنص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء (59).
نزول عيسى من السماء:
تساءل المسلمون منذ بدايات التفسير عن نزول عيسى، وقد رجحت الغالبية أمر نزوله مستندة إلى قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا (60).
حيث أن مجيء عيسى إلى الأرض سيكون علامة من علامات الساعة، ولهذا رجحت فتوى كبار العلماء هذا النزول، حيث جاء في معرض الجواب: (أن عيسى ابن مريم سينزل آخر الزمان ويحكم بين الناس بالعدل، متبعاً في ذلك شريعة نبينا محمد، وسيؤمن به أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعاً قبل موته...) وعن جابر بن عبد الله عن الرسول قال: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله لهذه الأمة) وليس هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة، نبينا محمد؛ حيث لم يأت عيسى بشريعة جديدة (61).
ويؤيد الشيخ سيد قطب هذه العودة استناداً إلى الآية: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ (62).
فيقول: إن الضمير في "به" وفي "موته" عائد على عيسى قبل أن يموت، أي سيؤمنون به عند عودته آخر الزمان، والضمير في "به" وفي "موته" للكتابيّ، أي ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن قبل موته بعيسى، فيرى أن عيسى حق، ورسالته حق فيؤمن به (63).
ويؤيد الحديث النبوي هذا التفسير حين يخاطب الرسول صحبه فيقول: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم) (64).
ماذا يفعل المسيح عند نزوله:
يقول الرسول: (ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها) (65).
وهذا يعني عودة النقاء إلى الإنسانية وشفاءها من أمراضها المادية التي لحقت بها نتيجة الابتعاد عن دين الله ومنهجه حتى تكون السجدة أو الركعة أفضل من مال الدنيا كلها ولكن هذا الأمر لن يكون إلا عند اقتراب الساعة، إذ أن عودة عيسى إلى الأرض، لا تكون إلا قبل قيام الساعة، فعودة عيسى جزء من أشراطها.
المسيحية دين توحيد:
طلب الإسلام الإيمان بالكتب؛ سواء ما نزل على محمد وما نزل على إخوانه السابقين، فالإيمان بإبراهيم وصحفه، وبموسى وتوراته، وبعيسى وإنجيله، وبمحمد وقرآنه، وكل ما أنزل الله من كتب على من اصطفى من رسل، عنصر من عناصر الإسلام لا يتحقق إلا به (66).
ويعود السبب في هذا إلى أن دعوة الله واحدة؛ ألا وهي التوحيد، وهي الرسالة التي جاء بها الرسل والأنبياء بمن فيهم عيسى، الذي أنزل الله عليه الإنجيل داعياً إلى عبادة الله الواحد. قال تعالى على لسان عيسى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (67). و
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ (68).
لكن المسيحية تميزت منذ بدايتها بالشفافية والنقاء البالغين، وبكونها دعوة تستهدف خلاص الروح بحيث يمكن اعتبارها دستوراً للسلوك الفردي، وليست نظاماً للحياة أو قانوناً للمجتمع، إذ لا نجد في دعوة عيسى (مثلاً) نظاماً للميراث أو الوصية أو الزكاة، ولا نجد نظاماً تشريعياً للزواج أو الطلاق أو النفقة... كان عيسى يريد إحياء الروح الإنساني وقيادته إلى النور الخالق، ولهذا السبب جاء عيسى مؤيداً بالروح القدس جبريل (69).
وهذا هو السبب في مجيء محمد بعد عيسى، وذلك كي تتم الدعوة بالنبي الخاتم؛ الذي يأتي بالتشريع الكامل، الذي ما بعده تشريع. وقد أثنى الله على اتباع المسيح الذين ساروا على هديه فقال: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ (70).
واتباع عيسى هم أكثر الناس مودة للمؤمنين، قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (71).
والمسيحية دين تخفيف لما كان قبلها، فقد جاء عيسى رحمةً للعالمين، ولهذا خفف عن بني اسرائيل بعض ما كان محرماً عليهم، قال تعالى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي (72).
فقد كان بنو اسرائيل قد حُرموا من بعض المأكولات بسبب كثرة معاصيهم، فجاء عيسى يخفف بعض هذه المحرمات.
عيسى في أحاديث الرسول:
يصف الرسول أخاه عيسى فيقول: (انه ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس "أي حمام (73)".
جعد عريض الصدر، سبط الشعر (74).
ويقول في موضوع الإيمان بعيسى: (العبد إذا آمن بعيسى ثم آمن بي فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران) (75).
ومما يدل على بشرية عيسى وإنسانيته، حكاية الرسول عنه قال: (رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق فقال له: سرقت؟ قال: كلا والله الذي لا إله إلا هو. فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني) (76). فهذا الحديث يدل على أمرين: الأول، إيمان السارق بالله ولهذا حلف به. والثاني، تصديق عيسى للرجل، كونه أقسم بالله؛ لأن عيسى صدِّيق طاهر القلب، ولهذا قدَّم القسم بالله على رؤية العين، عينه هو.
المسيح عيسى ابن مريم روح الله:
الحديث عن الرسول عيسى المسيح بأنه روح الله، لا يتنافى مع الفهم القرآني لموضوع الروح، إذ أن الفيصل في موضوع عيسى كنفخة من روح الله، تستحق الوقوف معها بشكل متأن لبيان معناها. يقول القرآن الكريم في شأن مريم: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (77).
ذهب صاحب عمدة القارئ إلى القول: بأن قول الله عن عيسى بأنه روح الله باب من أبواب التشريف. كقولهم: بيت الله للمسجد، وعبد الله للرسول، وناقة الله (78).
وكلمة الروح تستخدم في القرآن في سياقات متعددة منها وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (79).
فقد أضاف الروح إلى آدم أبي البشرية كلها، فهو نفخة من روح الله، وقد تكون الروح بمعنى سر الحياة، كما تقول الآية الكريمة: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ (80).
ويأتي لفظ الروح بمعنى الرحمة نحو قوله تعالى على لسان يعقوب: وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ (81).
وتأتي بمعنى كلمة الرزق كقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (82).
فهي هنا بمعنى الرزق الطيب الهنيء أو الغفران، أما في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (83).
فهي بمعنى الوحي، ومنها قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ (84).
وتأتي بمعنى القوة والثبات في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (85). وتعني عيسى المسيح في قوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ (86).
فقد جمع في هذه الآية إنسانية عيسى المولود من امرأة معروفة، ثم أضاف إليه الكلمة والروح؛ كنوع من أنواع التشريف والتكريم، والروح أمر خاص بالله، وليس شأناً من شؤون العباد. وفي هذا يقول القرآن الكريم: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (87).
والله لا يوصف بأنه روح؛ إذ لا يوجد بين أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين اسم الروح، لأن الأرواح الآدمية هي النفوس كما يقول