الإنسان القديم والإنسان الجديد
بحسب القديس بولس
مقدمة
للإيمان المسيحي مكوِّنان رئيسان، عقائدي فيه مضامين الإيمان وتعاليمه، وخُلُقي فيه الأسس والتعليمات التي يتوجب على المؤمن أن يعيش بموجبها في حياته فتُثمِر العقائد الإيمانية خلاصاً له. ولقد بنى القديس بولس إيمانه على إختباره لشخص المسيح الذي فاجأه على طريق دمشق وقلب حياته من مضطهِد إلى مبشر وتمحور تعليمه العقائدي والخلقي حول سر المسيح الفصحي أي موت وقيامة يسوع المسيح.
وهو يرى أن السر الفصحي على الصعيد العقائدي يطبّق فينا بالإيمان والمعمودية، أما على الصعيد الخلقي فهو "الحياة في الروح" التي تناقض "الحياة في الجسد" فيتوجب على المؤمن خلع الإنسان القديم ولبس الإنسان الجديد، وهي حالة صراع دائم في الإنسان.
الإنسان القديم في تعليم القديس بولس
في إطار الحياة الروحية، نقصد بالإنسان القديم الإنسان الذي يعيش بحسب الجسد، ولقد استُعملت لفظة "الجسد" لتعريب كلمتين في اللغة اليونانية وهما: (sarx) التي تعني "اللحم" وتحمل معنى سلبياً وعنصر شر في المفهوم المسيحي، و(soma) ولا تحمل المعنى السلبي الشرير.
وعندما نتكلم هنا عن الإنسان القديم الذي يحيا "بحسب الجسد" نقصد به المعنى "بحسب اللحم"، والحياة بحسب الجسد تخص العلاقة الخاطئة مع الله الآب ويسوع المسيح. فالإنسان الذي يحيا حياة الجسد هو الإنسان القديم الذي يصفه القديس بولس على النحو الآتي: "الجسد ينزع إلى الموت. ونزوع الجسد تمرد على الله، فلا يخضع لشريعة الله، بل لا يستطيع ذلك. والذين يسلكون سبيل الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله" (روم 8/5-
. بعبارة أخرى، الحياة القديمة هي عداوة الله، هي الحياة الخالية من الله، حياة الإنسان المتروك لنفسه، الذي يبني حياته على ذاته، لا على الله، فلا يرضيه ولا يطيعه.
والحياة القديمة أيضا عدم معرفة المسيح: "اذكروا أنكم كنتم يومئذ من دون المسيح، بعيدين عن رعية إسرائيل، غرباء عن عهود الموعد، ليس لكم رجاء ولا إله في هذا العالم. أما الآن وأنتم في المسيح يسوع، فقد كنتم أباعد فصرتم أقارب بدم المسيح" (أف 2/12-13). فالحياة بحسب الجسد هي الحياة بدون المسيح، بدون معرفته، وهي عدم علاقة الإنسان بالمسيح.
وبناء على هذا البعد الروحي، حيث لا علاقة بالله، بل تمرد عليه، تظهر الحياة بحسب الجسد في الحياة الخلقية. فعدم العلاقة مع الله يسبب انحرافا في الحياة الخلقية: "أما أعمال الجسد فإنها ظاهرة وهي الزنى والدعارة والفجور وعبادة الأوثان والسحر والعداوات والشقاق والحميّة والغيظ، والدسيسة والخصام والتشيع، والحسد والسكر والقصف وما أشبه" (غلا 5/19-20)، فضلا عن "كل شراسة وسخط وغضب وصخب وشتيمة وكل سوء والزنى والدعارة والطمع.". (أف 31/4، 20/5).
إذا اتُخِذَ الجسد معيارا للوجود، يملي على الإنسان سلوكه. وهو يستعبد أولئك الخاضعين "لشريعة الخطيئة" (روم 7/25)، فيكشف الجسد عن نزعاته وشهواته (روم 13/14؛ غلا 3/23، 5/13 و16-17)، متمماً أعمالاً شريرة (غلا 5/19). فيصبح الفهم نفسه جسديا (قول 2/18؛ 1قور 3/3)، حتى أن الجسد الذي هو من طبيعته حسن، إذا ما تسلطت عليه شهوة الجسد يدعى "الجسد البشري" (قول 2/11) وهو "جسم الخطيئة" (روم 6/6). هذه هي الحياة بحسب الجسد، أو بحسب "اللحم"، حياة دون الله وما يترتب على ذلك من حياة دون أخلاقيات.
عمل المسيح الخلاصي
وكان لا بد أن تنتهي يوماً حالة الإنسان القديم ويتحرر الإنسان من هيمنة الخطيئة عليه، وقد تحقق ذلك بالعمل الخلاصي الذي أتمّه يسوع على الصليب بموته وقيامته.
يعلّم القديس بولس أن يسوع اتخذ "جسما بشريا" (قول 1/22)، فصار خاضعا للشريعة (غلا 4/4). وأصبح "في جسد يشبه جسدنا الخاطئ" (روم 8/3)، واحتمل العذاب والموت على الصليب، وقد "جعله الله خطيئة من اجلنا" (2 قور 5/21). وأخضعه لسلطان الموت. وكان موته موتاً عن الخطيئة مرة واحدة (روم 6/10).
وعليه فقد هزم المسيح، الموت والجسد والخطيئة. وهو بذلك لم يكن قد خلصنا من العبودية فقط، ولكنه بكل معنى الكلمة دمجنا في ذاته.
فعندما اعتمدنا في موت المسيح متنا عن الخطيئة، وهذا يعني أننا تخلصنا منها. ولم يعد فعل الخطيئة موجودا، بل انعدم حتى في جذوره كأنه لم يكن "فإن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطيئة كي لا نعود نُستعبَد أيضا للخطيئة لأن الذي مات قد تبرأ من الخطيئة" (روم 6/6-7). وكذلك فإن حالة الخطيئة (وهي حالة عداوة تجاه الله). قد اندثرت حتى أصبحت مجرد ذكر وأعيدت إلينا الصداقة الإلهية وأصبحنا "أولاداً وورثة، ورثة الله ووارثين مع المسيح" (روم 17/9) ولقد حررنا من الموت إذ أنه انتصر عليه بقيامته المجيدة. وإننا نشترك بقيامته عن طريق الإيمان والمعمودية التي ثبّتت الإنسان العتيق على الصليب مع يسوع المسيح فقام الإنسان الجديد من الأموات معه.
إن صلب المسيح وقبره أتمّا في جميع البشر موت آدم الخاطئ ومولد الإنسان الجديد. فإن بشرية يسوع بشرية شاملة، والجنس البشري الكائن فيه قد مات للخطيئة وولد إلى حياة النعمة. وموت الإنسان الساقط وقيامته يتمّان في الكنيسة فقط من خلال الإيمان والمعمودية التي هي سر الإيمان.
وإذا كان جميع الناس قد ماتوا وقاموا من الأموات في يسوع المسيح، فإنّ كل فرد منهم يُخيَّر بين أمرين: إما أن ينضمّ إلى موت المسيح وقيامته فيصبح مخلوقا جديدا وينال الخلاص، أو أن يرفض هذا الموت وهذه القيامة فيديم في نفسه آدم الخاطئ والإنسان الأرضي الجسدي، وبذلك يرفض الاشتراك في الحياة الجديدة التي ابتدأت يوم الفصح، وينبذ نفسه من الشعب المفتدى ويكون مصيره الهلاك الأبدي. فعلى الإنسان أن ينضم إلى المسيح في الكنيسة وأن يقول نعم للسر الفصحي .
الإنسان الجديد في تعليم القديس بولس
الإنسان الجديد هو أولا المسيح شخصيا (أف 15/2)، ولكنه أيضا كل مؤمن في الرب يسوع. وإذا اتحد جسم المسيحي بالذي اتخذ "جسدا بشريا" (كول 1/22)، واشترك بالعماد في موت يشبه موت المسيح (روم 6/5-6)، فإنه يصبح ميتا من أجل الخطيئة (روم 8/10)، وجسده هذا الحقير يصبح على صورة جسد المسيح المجيد (فيل 3/21)، جسدا روحانيا (1قور 15/44). إن عقله يتجدد ويتحول (روم 12/2؛ أف 4/23)، إنه يعرف كيف يحكم (روم 14/5)، في ضوء الروح الذي يعبّر عن اختباراته لأن له فكر المسيح ذاته (1قور 2/16).
فالإنسان الجديد هو إنسان يعيش بحسب الروح، ونقصد بالحياة "بحسب الروح"، الحياة التي يقودها الروح القدس والتي تتعلق بالآب والابن، إذ أن الروح هو روح الآب والابن. فالحياة بحسب الروح هي حياة البنوة وحياة الخلاص، يلخصها بولس في هذه العبارة: "احسبوا انتم أنكم أموات عن الخطيئة، أحياء لله في يسوع المسيح" (روم 6/11). فللارتباط بالآب والابن تأثير في الحياة الخلقية، في الموت عن الخطيئة. وهذا ما يظهره بولس جليا عندما يعدد "ثمار الروح" إزاء "أعمال الجسد" في السلوك والتصرف والسيرة: "أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام وطول الأناة، واللطف ودماثة الأخلاق والأمانة والوداعة والعفاف... إن الذين هم خاصة المسيح قد صلبوا جسدهم وما فيه من أهواء وشهوات" (غلا5/22-24). "ثمر النور يكون في كل صلاح وبر وحق". ويدخل بولس في تفاصيل الحياة اليومية. فيقول مثلا: "دعوا الروح يملأكم" لا المشروبات الروحية موصياً بالبصيرة في السيرة كالعقلاء لا كالجهلاء. لذلك يدعو الذين نالوا الحياة الجديدة في ختام حديثه أن "لا تُحزِنوا روح الله القدوس" (أف 4/8-31). فالروح القدس هو العامل داخل الإنسان الجديد، إذ انه "حالٌّ فيه". وإذا لم يعمل الإنسان الجديد بموجب الحياة الجديدة، مُظهِراً ثمار الروح، أحزنَ الروح القدس.
المسيحي بين الإنسان القديم والإنسان الجديد
لا يكفي أن يعتمد الإنسان لينتقل إلى حالة الإنسان الجديد، فالمسيحي يعيش في حالة إنشداد مستمر بين قطبين، فهو ابن آدم بحكم ولادته الجسدية، لكنه مولود ولادة روحية جديدة في المسيح بإيمانه. لذلك يحتفظ المسيحي بعلاقة دائمة مع آدم الأول وآدم الآخر، ويُدرك أنه هو نفسه آدم بما فيه من ضعف وخطيئة، وأن من واجبه أن يخلع عنه الإنسان القديم، وفقا لعبارة بولس (أف 4/22-23، كول 3/9-10)، ليلبس يسوع المسيح، "الإنسان الجديد"، هكذا كل مصيره مرسوم في دراما آدم الأول وآدم الآخر.
فكل مؤمن متحد بالمسيح يستطيع من الآن أن ينتصر على القوى التي كان يخضع لها من قبل، وهي الشريعة والخطيئة والموت، من خلال جسم المسيح. فالمؤمن قد مات عن الشريعة (روم 7/4)، فزال عنه هذا الجسد الخاطئ. (6/6) وها هو قد "خلع الجسد البشري" الذي يؤول إلى الموت (قول 2/11). فعلى المسيحي أن يتابع في حياته، يوماً فيوماً، مسيرة المسيح الكاملة التي اجتازها بقبوله العماد. وعليه أن "يقدم جسمه" ذبيحة حية (روم 12/1). أي عليه أن يموت باستمرار، عن "الإنسان العتيق"، باتحاده بيسوع المسيح الذي مات مرة من أجل الجميع. فحياته جديدة، وهكذا "فنحن جميعا نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة كأنها مرآة، فنتحول إلى تلك الصورة، وهي تزداد مجداً على مجد، وهذا من فضل الرب الذي هو روح" (2قور 3/18). فالإنسان الجديد ينبغي أن ينمو باستمرار، بان يترك صورة المسيح الوحيدة تبدّله. ونعلم حق العلم أن سر الاعتماد لا يكفي لنقول إننا تُخلّصنا من "الميل إلى الشهوات"، ومن الجاذبية التي يمارسها علينا الشر بجميع أشكاله والتي يعتبرها بولس أحد مكونات الخطيئة، ولكننا نعلم أيضا أنّ الإنسان المسيحي الذي يعيش السر الفصحي موتا وقيامة يرتفع تدريجيا إلى فوق نفسه ويزداد حرية في داخله.
والقديسون مثلاً، هم أكثر الناس حرية لأن النعمة الإلهية عملت فيهم مطولا وجعلتهم يبتعدون شيئاً فشيئاً عن إغراء الشر ومكّنتهم من خدمة الله بسهولة فائقة. وبالطبع لن يتحرر المسيحي من الخطيئة بصورة نهائية إلا عندما يتخلص من "جسد الخطيئة" ويشاهد الله وجهاً لوجه، بَيْد أن تحريره مضمون منذ البداية بفضل نعمة الاعتماد، وما عليه إلاّ أن يتركها تنمو فيه؛ قال بولس "إني أموت كل يوم" (1قور 15/31)، وسوف يستمر ذلك حتى تأتي الساعة التي يبطُل فيها نهائيا الإنسان العتيق بموته المادي فتتحرر روحه كُلّياً وتذهب لتنتظر قيامة الإنسان الجديد التي ستتم في مجد عودة الرب.
المسيحي إنسان جديد يعيش في العالم
إن المسيحي يدرك أنه إنسان ضعيف وخاطئ بما أنه إنسان قديم، مع ذلك عليه أن يكون الإنسان الجديد نظرا لاتحاده بيسوع المسيح في المعمودية واكتسابه القدرة بالروح القدس على أن يكون الإنسان الجديد، وذلك بتقديم ذاته "ذبيحة حية" أي أن يموت باستمرار عن الإنسان القديم الذي فيه. وهذا الجهد وهذه المثابرة في الانتقال إلى الإنسان الجديد يقوم به المسيحي بثبات واستمرار وهو يعيش في العالم ودون انفصال عنه. يعرف بأنه تلميذ يتعلم كيفية العيش بالروح في هذا العالم المادي، وفي الوقت نفسه يشعر بأنه معلم لأنه يعرف ما يتوجب عليه القيام به.. فيعيش إيمانه متدرباً.. على رجاء الوصول إلى ملء الإنسان الجديد الذي هو يسوع المسيح.
يدعو الإيمان الحقيقي المسيحي إلى الالتزام في العالم الذي يعيش فيه وبجميع إشكالاته، ويلاحظ أولا أن الخليقة بخطيئة آدم قد أُخضِعت للباطل، لا طوعاً، وهي تئنّ إلى اليوم معنا من آلام المخاض، لم تقطع الرجاء، لأنها هي أيضا ستعتق من عبودية الفساد، لتشارك أبناء الله حريتهم ومجدهم. فدور الإنسان الجديد تحويل الخليقة القديمة أيضا إلى خليقة جديدة فكيف يفعل ذلك؟
يعلّم بولس أن المسيحيين "يمجدون الله بأجسادهم" (1قور 6/11-20)، "فإذا أكلتم أو شربتم أو مهما فعلتم، فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1قور 10/31). فهناك إذاً أسلوب كليّ الجِدّة، ويمكن القول إنه "الطراز الإنجيلي" في عمل الأشياء الأكثر بداهة والأمور اليومية المعتادة، إذ أصبحت تصرفات المسيحيين ورؤيتهم للأمور مطهّرة بالصلاة، فالفلاّح الذي يعمل في حقله، أو الدارس الذي يحلل بنية الذرة، أو مهما كان عمل الإنسان، يقوم به في إطار صلاة مستمرة، لذلك تصبح المادة التي يلمسون "خليقة جديدة" متأثرة بتصرف الإنسان الجديد، لأن "كل الخليقة تنتظر بفارغ الصبر تحررها من عبودية الفساد لتشارك أبناء الله في حريتهم ومجدهم" (روم 8/18-23).
وتحتفظ عناصر الخليقة بمظهرها المادي، لكن القديس (أي المسيحي-الإنسان الجديد) يوقف تطورها العقيم ويوجّهها نحو الهدف الذي حدّده الله لكل خليقة، فيعود للخليقة دورها الحقيقي في الكون فترفع صلاتها هي أيضا تمجيداً لله الخالق.
ويتم ذلك في الصلاة الليتورجية، فالليتورجيا تستعمل أشياء هذا العالم المادية وتدل على غايتها، إذ تنزع عنها صفتها العالمية المادية وتجدّدها مع بقائها في واقع العالم نفسه. في الليتورجيا "تنكسر" عتمة العالم المغلقة إذ تقتحمها قدرة الله من فوق ويتوجّه كل شيء إلى غايته الليتورجية.
فالإنسان الجديد هو قبل كل شيء إنسان صلاة، كائن ليتورجي: إنسان القداسة، ذاك الذي تختزل حياته كلمة صاحب المزامير: "أنشد لإلهي ما دمت حيا". إنه هيكل لله، يجعل حياته اليومية ليتورجيا. ومثل هذا الحضور "الليتورجي" يُقدّس أي جزء في العالم ويساهم في السلام الحقيقي الذي يتكلم عنهالإنجيل. فصلاة الإنسان الجديد تهتم بالمستقبل، بالأرض وثمارها، باجتهاد الدارس وبعمل كل إنسان. وفي هذه الكاتدرائية الواسعة التي هي كون الله، يصبح الإنسان كاهنا لحياته، مهما كان عمله أو دوره في الحياة، يُحوِّل كل الواقع الإنساني إلى نشيد، وتقدِمة، وشكر.
لقد تعلّم المسيحيُ أن يرفع كل شيء لله في صلاته: هموم الحياة اليومية ومتاعبه وأعماله والبشر جميعهم والخليقة كلها... فهو منغمس في العالم وفي المحيط الذي يعيش فيه، إنه يعرفه ويتأثر به ولكنه يؤثر فيه أيضا فيُجدّده بروح الله القدوس الساكن فيه.
ويرى المسيحي أن مبادئ العالم القديم ما زالت تحكم العلاقات بين الناس وبين الإنسان والخليقة، وهي مبادئ بحسب الجسد او بحسب "اللحم"، فالمصالح الشخصية والرغبات الأنانية والتسلط والعنف والاستئثار والبغض والفساد والحياة دون أخلاقيات.. هي ما يحرك الإنسان القديم، آدم الأول ومجتمعه. والمسيحي يفهمها ويعيشها، ولكنه لا يتبنّاها بل يعاني ويتألم منها باذلا كلَّ جهده في تحويلها إلى ما هو جديد، إلى الحياة بحسب روح الله القدوس، فمحبة الآخر والصدق والأمانة والتسامح واللطف والخ... هي المبادئ التي يعيشها المسيحي. إنها العلاقات الحقة، إنه ملكوت الله يتحقق على الأرض.
وأتساءل معكم ماذا بشأننا نحن المسيحيين الذين نعيش في المشرق، وبالتحديد في سوريا ويمكننا حتى القول مسيحيي حلب، أنعيش مبادئ الإنسان الجديد أم مبادئ الإنسان القديم؟ في حلب وفي سوريا وفي الشرق.
أقول، وكلّي أسف، إن الحياة بحسب الإنسان القديم باتت هي الغالبة في ما يعيشه المسيحيون، وأُلقي هنا نظرة سريعة على واقعنا فأقسمه إلى قسمين: الأول الواقع الديني الكنسي، والثاني الواقع الدنيوي.
- الواقع الديني الكنسي: أرى في حلب، وربما في الشرق كله كما أسلفت، الطوائف الكنسية كلها كاثوليكية واورثوذكسية وبروتستنتية، نتائج انشقاق الكنيسة ما زالت حاضرة وبقوة فيها كهنة عديدون يعملون في أخويات لم يعد بالإمكان إحصاؤها من كثرة عددها، يرفعون القداسات في أوقات وأماكن كثيرة ويقيمون الرتب والاحتفالات وينظمون جوقات الترنيم والمحاضرات المتنوعة ويشرفون على مخيمات تثقيفية دينية واجتماعية والخ.. وبمحصلة كل ذلك، هل تحول الإنسان القديم فينا إلى الإنسان الجديد نتيجة لهذه الحركة الدينية النشِطة؟ أم أنها تُخمة دينية، حيث يُشحَن الإنسان بشكل غير طبيعي من الأمور الدينية فيشعر بالامتلاء ومن ثم بالقرف فيبتعد عنها وهو يحسب أنه قد فهم كل الدين المسيحي ويتحوّل إلى اللامبالاة وأحيانا إلى النقد اللاذع لكل ما هو مسيحي، فتصبح حالة هذا الإنسان أسوأ مما كانت عليه.
- الواقع الدنيوي: في الواقع الدنيوي يُختبر المسيحي، وفيه تظهر نتائج تحوله إلى إنسان جديد ومدى ذلك. وإني أرى أن واقعنا الدنيوي خاضع لتأثيريْن: العَلمانية والإسلام. وفيهما الكثير من التحدي لإيماننا نحن مسيحيي الشرق.
فالعَلمانية تقول إن للدين حقوقه وواجباته وللدولة حقوقها وواجباتها وقد لا تتعارض مواقفهما نظريا. ولكن المسيحي "خميرة في العجين" إنه إنسان جديد روحي وعليه أن يجدد ويُروْحِن العالم الذي يعيش فيه، لذلك لا يستطيع أن يترك العَلمانية التي تعتمد في فكرها على الطبيعة والعقل البشري فقط لقيادة الخليقة، لأنها طبيعة خاطئة وقد تؤدي بالعالم إلى الهلاك والخراب الطبيعي والبشري وهذا ما يجري حقيقةً في العالم، وخصوصا أن للعَلمنة طيفاً واسعاً، فبدءاً بالقائل فقط ما لله لله وما لقيصر لقيصر مرورا بان الله لا دخل له في عالمنا الذي يستغله الإنسان لمصلحته وبنيان مجتمعاته وصولاً إلى مَن يقول أن لا إله وإلى الإلحاد الفعلي. لذلك على المسيحي المشرقي أن يتنبّه إلى أهمية دوره في مجتمعاته، لأنه ينظر إلى الأمور من منظار الله فهو يرى ما تُوحيه الحقيقة ويميز الخطأ ويشعر أنّ عليه السعي لوقف الفساد وزرع التوجهات الصحيحة التي استوحاها من إيمانه المسيحي في مجتمعاته العَلمانية. أما الإسلام فهو دين أكثرية مواطني مجتمعاتنا ولقد مرت قرون طويلة على وجودنا معاً على هذه الأرض السورية والشرقية، لقد اعتاد كل طرف على الآخر، وساهم المسيحي في بناء الثقافة والحضارة العربية المعاصرة مثلما ساهم المسلم. والإنسان الجديد الذي أصبحه المسيحي يجعله يقف أمام المسلم وِقفْةً جديدة، إنها وقفة سلام ومحبة، احترام للآخر المختلِف واشتراك معه في بناء الوطن الواحد على أسس الإيمان بالله الواحد وبتعاليمه في مواجهة انحرافات الإنسان القديم في مجتمعه القديم. يشهد المسيحي للمسلم في تصرفاته وأقواله وأعماله عن إيمانه المسيحي وعن كونه إنساناً جديداً يعيش بروح الله القدوس، وقد يتطلب منه ذلك مواقف ذكية وشجاعةً وصبراً طويلاً ورجاءً ثابتاً.
يؤكّد آباء الكنيسة أن كل مؤمن هو "إنسان مُرسَل" بأسلوبه الخاص، إذ يحيا ملء إيمانه ببساطة وبمواظبة وثبات. وفي عصرنا بتنا نفتقد بساطة الحياة المسيحية التي رُبينا عليها في السابق، فعندما كنا صغاراً تسلّمنا إيماننا المسيحي وعشناه بشكل شبه عفوي، أما اليوم ونتيجة لأسباب كثيرة، صار لزاما علينا أن نعي ما نؤمن به، وصار لزاما علينا أن نكون نحن المثل الصالح الذي سيقتدي ويلتزم به الجيل الآتي بعدنا. إنها مسؤولية كبيرة وقد نتهرب منها ونضع المسؤولية على أكتاف الأساقفة والكهنة فقط، وقد نحتار كثيرا في كيفية عيش الإيمان الواعي، ولكن في الحقيقة إن هذه الحيرة وربما الألم هو جزء من إيماننا المسيحي وعلينا أن نحمله جميعا ككنيسة واحدة إكليروساً وعلمانيين.
وما يُعزّينا ويقوينا ويدفعنا إلى الأمام ثقتنا بان المسيحية ديانة الحداثة المطلقة، إنها مُتفجِّرة دوما بكل جديد. لقد أُمرنا بالإنجيل أن نبحث عن ملكوت الله في ملكوت قيصر، كما أنه يكلمنا عن عنيفين يتسلطون في السماء، لذلك علينا أن نصبح نورا ووحيا ونبوءة للناس في مجتمعنا.
ونختم هنا بكلمة إفاغريوس التي تصف الإنسان الجديد:
"إنه منفصل عن كل شيء، ومتّحد بكل شيء؛ لا يتأثر بشيء، وحساسيته كبيرة لكل شيء؛ مؤله، ويرى نفسه وَسَخَ العالم. وخاصة، أنه فَرِحٌ، فرحاً إلهياً".