طرابلس : فوضى التناقضات الخارجية والداخلية
السبت، 13 نيسان، 2013
أوقات الشام
طه حسين
كثير من أهالي الفيحاء الصادقين ومحبيها يعيشون اليوم حالة من الإنكار. إنكار حقيقة أن مستثمري الدم والفتن نجحوا في إخضاع مدينتهم. وتحويل أحيائها وشوارعها, صندوق بريد ورسائل مصبوغة بدم الفقراء. علميا تعرّف حالة الإنكار أنها " آلية الدفاع النفسي القائمة على الرفض وعدم القبول أو الإمتثال. ويستخدمها الشخص ليواجه حقيقة غير مريحة أو مؤلمة, على الرغم من توفر أدلة دامغة ".
يقسم علماء النفس الإنكار إلى نوعين: إنكار تَصْغِيْري عندما يعترف صاحب العلاقة بالحقيقة وينكر خطورتها, وهذا ما يعاني منه جزء من عامة الناس ممن عشقوا مدينتهم طرابلس. ولا يريدون تصديق أن أقدم اتحاد مُدُني بالتاريخ بات اتحادا مسكونا بالفوضى .
النوع الثاني من الإنكار يسمى إنكار إنقالي, ويكون حين يعترف المعني بالحقيقة وبخطورتها , ولكن يتم نفي المسؤولية. هذه الحالة هي التي يعاني منها مستثمرو الفتن أنفسهم بعد أن ضخوا جرعات غير مدروسة من التحريض والسلاح في أحياء وشوارع المدينة. ليحولوها إلى مدينة تدمن رائحة البارود وصوت أزيز الرصاص ودوي القنابل.
الجولة 14 مساء الأحد 24/03/2013
انتهت الجولة الرابعة عشر من المعارك العبثية بين التبانة وجبل محسن. عدد ضحايا الإشتباكات من فقراء المنطقتين ارتفع إلى 82 قتيلا و570 جريحا, في نزيف دم لم يتوقف منذ خمس سنوات. على مستوى الشكل لم تشهد الجولة أي جديد. موعد المعركة حدد سلفا, " المتاريس " نصبت بسرعة على خطوط التماس, اشتعلت المحاور كافة والتزم الأفرقاء ب "البروتوكول" غير المكتوب لقواعد الإشتباك.
عنفت الإشتباكات يوم السبت, ليتبين سريعا أن شيئا ما تغير. الشيخ سالم الرافعي بدا غير معنيا بتفاصيل المعركة واكتفت مجموعاته باجراء انتشار تكتيكي محدود. منزل الرافعي تحول إلى سراي تجتمع فيه الفعاليات والضباط ليتحدث فيه عن الهدوء وضرورة انتشار الجيش وعدم الإنجرار إلى معركة لتصفية حسابات الآخرين. حسام الصباغ شارك الرافعي في جزء من هذه اللقاءات, وبدا غير معنيا بتحقيق خروقات ميدانية مختلفة, وبقيت كوادره الرئيسية خارج المشهد الميداني للمعركة.
المجموعات المرتبطة بجبهة النصرة والجيش السوري الحر والتي تضم أعدادا لا يستهان بها لم تتحرك أيضا مما أوحى للجميع أن حسابات الحقل لم تطابق حساب البيدر. مساء السبت, وعبر الجهاز اللاسلكي. سمع صوت زياد علوكي أحد قادة المجموعات المسلحة يسأل سعد المصري عن إمكانية رماية قذائف الهاون 82 فأجاب سعد بالنفي لأن الوضع تغيّر.
فوضى بلا حدود
التوقف المفاجىء للمعارك, إضافة إلى الفراغ الحكومي كشف بوضوح الواقع المحزن والمخيف في المدينة. واقع يساهم كل من يخفيه بالطعن في جسد الفيحاء المثخن بالجراح. في أقل من أسبوعين وبعيدا عن الإشكالات المرتبطة بالتبانة – جبل محسن.
سجلت المؤسسات الإعلامية والقوى الأمنية في طرابلس الحالات التالية ( سقوط قتيلين وخمسة عشر جريحا, أكثر من 200 حالة إطلاق نار, انفجار 9 قنابل يدوية, أكثر من 30 حالة إغلاق طرقات, عبوات غير معدة للتفجير, رسائل تهديد .... . مساء الجمعة 29/03/2013 انتشر على وسائل الإعلام خبر تعرض عامر أريش إلى عملية اغتيال.
بائع الدواليب الذي تحول إلى أحد أبرز مسؤولي المجموعات المسلحة والذي يسيطر على محور البداوي المنكوبين وجد نفسه منسجما مع تحالف " الإسلاميين – ميقاتي " أكثر من أفواج طرابلس. يؤكد متابعون للملف أن العقيد المتقاعد عميد حمود لم يكن ليحزن لو استطاع شباب عشائر العرب تصفية حسابهم مع أريش وقتله في ذلك اليوم. الأمر الذي دفع أريش إلى الهروب للأمام والتوجه إلى التبانة لإثبات نفوذه.
" صهاريج الموت " تحولت بسحر ساحر إلى " صهاريج الحياة ". نزل أريش بنفسه لفتح الطريق لتعبر صهاريج المازوت إلى البداوي حيث ينتظرها المحاسب. إما ان تدفع فتعبر أو تحول إلى شباب " السيمو " المستوطنين في " بورة الدواليب " فيختمون ليلتهم بمهمة جهادية يؤجرون عليها ولو كانوا " سكارى ".
تمدد نفوذ أريش لم يكن ليمر بسلام وكانت إحدى تداعياته مقتل وليد البكري وإصابة عامر العرجا, فضلا عن اشكال بين آل عيسى وآل العرعور أوقع جريحين. في اليوم نفسه الذي كانت فيه طرابلس تشيّع وليد البكري, كان عبد الهادي حسون يحوّل مع مسلحيه منطقة أبي سمراء إلى ساحة قتال.
السبب كان تخلّف مدير مؤسسة الريم عن دفع 1500 $ عبارة عن خوة يفرضها حسون عليه. ليس جديدا أن يحول حسون المطلوب بأكثر من مذكرة توقيف شوارع أبو سمراء إلى محاور قتال. فعبد الهادي الذي أخذ حصانة مع تشكيل أفواج طرابلس سنة 2008, كانت له صولات وجولات ضد حركة التوحيد وحركة جند الله في أبو سمرا سنة 2009 – 2010. الجديد أن حسون استقال من جيش المستقبل أو ما كان يعرف بأفواج طرابلس وانضم الى فريق جديد .
ليلا أعلن عن اجتماع أمني في منزل ظافر قرحاني بهدف تهدئة الخواطر. الإجتماع الذي حضرته فعاليات من أبي سمراء وآل حسون والمصري إضافة إلى بلال السيطري وخالد صبح, قيل أنه ضم أيضا عميد حمود ومدير مخابرات الجيش في الشمال عامر الحسن. طبعا لم تكن المصالحة لتتم لولا إعلان سعد المصري دخوله على خط المصالحة بتكليف من أوساط الرئيس ميقاتي. سعد المصري بات من الأرقام الصعبة في باب التبانة.الثلاثاء الساعة 17:30 وصلت إلى هواتف بعض الطرابلسيين رسالة نصية تحوي ما حرفيته " الى كل محبي الشهيد خضر المصري في التبانه خصوصا التوجّه الى ساحة الشهيد خضر المصري عند الساعة السابعة مساءا لأسباب ضروريه جدا جدا ".
سرعان ما انتشرت الرسالة على المنتديات والمواقع الإلكترونية ليتجمهر عدد كبير من الفتية والعاطلين عن العمل محاطين بمسلحي المصري الذين زادوا على الخمسين. هناك تبلغ الحشد أن بطلهم سعد المصري قد ضاق ذرعا بما اعتبره استفزازات العلويين وجبل محسن. وأن أشخاصا قاموا بنشر فيديو يتضمن إهانات مطالبا بتسليم الفاعلين خلال ثلاث ساعات. " أنا غير مسؤول عن ردة فعل الشباب وقد اعذر من انذر, شباب التبانة يقومون الآن بحملة تنظيف لطرابلس وحرق جميع محال النصيرية وسيستمرون حتى تسليم الفاعلين ". أن يقوم شاب مراهق مع مجموعته المدمن غالبها على الحبوب المخدرة بشل المدينة واستنفار أجهزتها الأمنية من دون التنسيق مع أحد, جعل من هاتف الشيخ عبد الرزاق القرحاني مشغولا باتصالات الإستنكار والإدانة من المشايخ والمجموعات الإسلامية والسلفية.
الشيخ القرحاني الذي يصفه أحد المتابعين على أنه "مسؤول الفصيل الإسلامي لسرية رئيس حكومة سابق ". المصادر ذاتها تشير إلى أن إدارة هذه "السرية" قوامها خمسة أشخاص رئيسيين هم رامي الرافعي المدير المالي.
الشيخ عبد الرزاق والشيخ كمال البستاني يتولون مهمة إدارة التواصل مع الإسلاميين. محمد الجندح ومصطفى الزعبي يتولون التواصل مع مجموعات التبانة والتنسيق مع عدد من قادة الأجهزة الأمنية. الشيخ سالم الرافعي عَبَر من محاولة اغتياله المزعومة إلى اسطنبول, حيث وجد ترحيبا خاصا من قبل المشاركين في مؤتمر ربيع العراق. الشيخ سالم لم ينأى بنفسه هنا عن مشاكل العراق الداخلية وعاد منها منتشيا بكمّ من اللقاءات والمقابلات الصحفية.
الرافعي اليوم بات يتصرف على أنه الممثل الأقوى للقوى الإسلامية في لبنان. ويحاول الإنفتاح على كل المؤسسات الرسمية خاصة الأمنية منها. في ظل الشيخ سالم المعنوي يتحرك حسام الصباغ بصمت. مجموعات أبو الحسن تختلف عن غيرها لناحية التسليح والتدريب. الصباغ الذي يحاول جاهدا الإستفادة من الغطاء الموفر له حاليا يعمل بعيدا عن الضجيج على تجهيز وتدريب نخبة من العناصر الخاصة خارج إطار مجموعاته المعروفة والتي تقدر حاليا بحوالي 150 عنصرا لبنانيين وعرب.
يؤكد أحد المتابعين أن مجموعات الصباغ تقوم من وقت لآخر بمسير عسكري علني من التبانة إلى أبو سمرا وصولا إلى حقول الزيتون عند أطراف بلدة ضهر العين في قضاء الكورة.
غابة الحسابات المتشابكة
لا مكان هنا لتكرار معزوفة غياب الدولة والمؤسسات كأحد أبرز أسباب هذه الفوضى. فالدولة ليست غائبة بل حاضرة بقوّة كشريك سلبي كما معظم أحزاب وشخصيات المدينة.
غابة من الحسابات السياسية والميدانية المتشابكة والكثيفة تخفي تحتها بركان من الصراعات الناشطة. ما ورد أعلاه ليس سوى جانب بسيط من المشهد الطرابلسي القاتم اليوم. التنافس ليس محصورا بين " أفواج المستقبل وافواج ميقاتي " فحسب.
الحديث عن الصراع بين " السلفيات الثلاث " التكفيرية والعلمية والجهادية يحتاج إلى مقالات. الصراعات العائلية والمحلية في ظل فوضى السلاح. صراعات الأجهزة الأمنية التي لا تنتهي. صراعات الأجندات الخارجية خاصة تلك المرتبطة بالسعودية وقطر. نشاط الجيش السوري الحر والتنافس الإستقطابي الحاد بين أطياف المعارضة السورية في طرابلس.
في ظل تلك الفوضى ماذا عن نشاط العميد السوري المنشق مصطفى نورالدين وحركته الشبه معلنة بين طرابلس وكسروان ؟ ماذا عن مجموعات المعارض السوري الملقب " رسول " والتي تتحدث إحدى التقديرات عن مقاربتها ال 400 عنصر؟ خلاص المدينة لم ولن يكون من خارجها. الفيحاء تستصرخ أبناءها, تطالبهم بتخطي حالة الإنكار لجرحها النازف. خلاص المدينة يكون بقادة صادقين مخلصين.
شوارع الفيحاء تحن إلى وطىء أقدام قائد كالشهيد خليل عكاوي, ومنابرها اشتاقت إلى دفء كلماته. الخميس 27 أيلول 1984, وقف أبو عربي على منبر مهرجان اللقاء الإسلامي وكـأنه يخاطب اليوم أبناء مدينته التي عشقها حتى الشهادة: " إن قوة الطائفة أيها الإخوة, ليست قوة للعمل الإسلامي, بل هي عكس ذلك تماما.
فلنهاجر اليوم من العصبيات, فلنغادر الإنتماء إلى الطوائف والمذاهب والأحزاب والتنظيمات.فلنهاجر اليوم من الخضوع للأمر الواقع المتمثل بمنطق الحرب الأهلية المدارة إقليميا ودوليا. ولنتعلم التعرف إلى الواقع بغية التمكن من تغييره, ولنعلم أن الإنعزال عن الواقع بتحويل الإيمان إلى خلاص فردي, أو بالقهر والتسلط لا يسبب إلا الضعف والوهن".
العهد